صحيفة المثقف

لورنس العرب واللغة العربية

حسيب الياس حديدعندما قرر لورنس السفر الى الجزيرة العربية كان لزاماً عليه تعلّم العربية. لذلك شرع في دراستها في جامعة اوكسفورد لكي يتمكّن من فهم لغة التخاطب فقط. لذلك تلقى دروسا من قبل ن. اودي وهو قس سوري الاصل كان يعيش في اوكسفورد آنذاك. وبعيد وصوله الى سوريا بأربعة اشهر عام،1909 استطاع لورنس ان يتعلم 80 كلمة ثم واصل دراسته في البعثة البروتستانتية الامريكية في جبيل لمدة ثلاثة اشهر تلقى خلالها دروسا من قبل فتاة عربية تدعى فريدة العقل. وخلال اقامته في سوريا، كان يقيم في كل ليلة في اقرب قرية مستغلا كرم ضيافة القرويين السوريين. وتعرّف على اشخاص من طبقات شعبية ساعدته على تعلم اللهجة المحلية الا انه كان يفضّل لهجة البدو وخاصة بدو الحجاز لانهم يمثلون العربية الحقيقية حسب وجهة نظره. الا انه لم يكن يفضّل اللهجة اللبنانية كما انه رفض بصورة قطعية التحدث ولو بكلمة واحدة باللهجة المصرية . واثناء عمله في المنطقة العربية قبيل اعلان الثورة العربية، كانت له علاقات طيبة مع العاملين العرب وهذا ساعده على تعلم اللهجة المحلية وفي هذه الفترة تعلم لورنس اربعة الاف كلمة الا ان هذه الكلمات لاتشكّل اللغة العربية باجمعها حيث كانت لغته مقطّعة ومجزّءة ولربما يتعلق معظم هذه المفردات بعمله في مجال الاثار. وبعد سنتين واجه مشكلة كبيرة في تذكر ما سبق تعلمه من كلمات علما انه ذكر لروبرت غريفز انه تعلم في حدود 120 الف كلمة(1) والاكثر من ذلك ادعى  مبالغا انه يتكلم افضل من العرب انفسهم  بحيث يستطيع ان يخبرك بقبيلة  الشخص او منطقته من خلال لهجته سواء كان من الجزيرة العربية ام من سوريا او من بلاد الرافدين ام من فلسطين"(2) ولابد من القول ان هذا الادعاء يتسم بالمبالغة لان لورنس لم يدرس اللغة العربية دراسة اكاديمية صرفة ولم يدرس قواعدها واساسياتها فان ما تعلمه ليس سوى  كلمات مستقاة من اللهجات المحلية وذلك نتيجة لاحتكاكه بالعمال الذين كانوا يعملون معه في مجال الاثار. وعند اعلان الثورة العربية استمر لورنس بتعلم اللغه العربية على يد اثنين من العاملين وذكر في كتابه " ان الاثنين لم يتوقفا عن تذكيري بالاخطاء اللغوية التي كنت اقع فيها"(3

ومن الاهمية بمكان ان نشير الى ان لورانس كتب  مايربو عن الف رسالة بالانكليزية  ولكن لم يتم العثور الا على رسالة واحدة باللغة العربية وجدت ضمن اوراق الامير زيد مؤرخة في 25/6/1918 وموجّهة الى الملك الحسين تتعلق بتقرير عسكري حول المواقع التركية في معّان وحول تحركات الجيوش العربية .وختم الرسالة قائلا" ارجوكم سيدي ان تحرقوا هذه الرسالة بعد قراءتكم لها لانني اكتب اليكم مواضيع لااستطيع التحدث بها شفويا" (4) ويذكر ان هذ الرسالة طبعت لاول مرة في صحيفة التايمز اللندنية في 30/6/1967. ومن المفيد ان ننوه ان هذه الرسالة مليئة بالاخطاء القواعدية والاملائية ويعتقد انها كتبت من قبل السير هربرت يونج(+) الذي عاش مدة في العراق. وفي كتاباته اشار لورنس الى الصعوبات الجمّة التي تكتنف اللغة العربية فهي لغة شاعرية وفيها الكثير من الاشتقاقات لذلك فان المفردات التي تعلّمها لورنس قلّت ام كثرت ربما تكون جيدة بالنسبة لتعلم اللغة الانكليزية مثلا الانها غير كافية لتعلم اللغة العربية. وبهذا الصدد يؤكد توماس لويل الصحفي الامريكي الذي كان متواجدا اثناء الثورة العربية قائلا" ان اللغة العربية واحدة من اصعب اللغات في العالم وليس من اليسير اتقانها.. فهي لغة غزيرة بمفرداتها ومعقّدة بالوانها"(5) وهذا بحد ذاته يمثل رأيا غربياً. وبناء على ذلك، يمكننا ان نستنج انه ليس باستطاعة لورنس اجادة العربية بدرجة كبيرة طالما ان العربية لغة غنية جدا بالمفردات والصور المتأتية من البيئة العربية بما في ذلك الصحراء. فكيف يستطيع لورنس ان يدرك هذه الصور الغريبة عنه؟ وحتى اذا ترجمت حرفياّ فانها ستفقد لامحالة عذوبتها وروعتها وربما تكون مبهمة وغير مفهومة بالنسبة للاجانب. وحتى ان لورنس اعترف قائلا" لم يكن باستطاعتي ان اسمع من انكليزي يتكلم اللغة العربية بامكانه ان يتحدث مثل العرب ولو  لدقيقة واحدة(6) ثم انه لم يقم في الجزيرة العربية سنوات طويلة تمكّنه من ان يتقن العربية من جهة وان يحكم على عربيته وعربية االاجانب من جهة اخرى. وفي "اعمدة  الحكمة السبعة" ذكر وبوضوح ان عربيته كانت في البداية عبارة عن تجميع من اللهجة القبلية للفرات الاوسط الا انها اصبحت فيما  بعد مزيجا من لهجة الحجاز العامية ومفردات منزلية وبعض التعابير الشفافة من نجد"(7) ومن اعترفاته بات متضحا ان عربيته خليط من لهجات محلية لا تمكّنه من التكلم بطلاقة وحتى انه لم يستطع ان يجيد اللهجات المحلية وافضل دليل على ذلك عندما قام عودة ابو الطي بالقاء قصيدة لم يفهمها لورنس وعلى حد اعترفاته لم يفهم سوى ثلاث كلمات منها علما ان عودة كان بمرافقته مدة طويلة.  ثمة عامل  اخر يمكن اضافته للادلة على عدم اجادة لورنس للغة العربية هو القواعد فهل كان يعرف قواعد اللغة العربية؟ من الافضل ان نجد الاجابة من خلال رأي زملائه فهذا السير رونالد ستورز السكرتير الشرقي للمقر يخبرنا "ان لورنس لم يتعلم اللغة العربية ولم يتعلم أي لهجة جيدة" وعندما سأله توماس لويل فيما اذا كان يتحدث العربية بطلاقة اجاب بالنفي " انها عربية المطبخ"(8) ويقصد من ذلك ان لغته العربية كانت ضعيفة.  ومن ناحية اخرى اكّد صبحي العمري  ان فيلبي ويونج يتكلمان العربية افضل من لورنس بكثير.

وفي الحقيقة يوضح ما تقدّم وبصورة لا لبس فيها ان معرفة لورنس للغة العربية محدودة وغير كافية ليفهم الاخرين. فهذا غلوب باشا مكث في المنطقة العربية ثلاثين عاما وفيلبي الذي عاش اربعين عاما في المنطقة العربية ولكنهما لم يتحدثا العربية بطلاقة. فكيف يمكن للورنس الذي عاش سنوات قليلة في الجزيرة العربية ان يتحدث بطلاقة؟ وفي الحقيقة هناك الكثير من الاوهام والمزاعم من ان لورنس يجيد اللغة العربية اجادة تامة الا ان الحقيقة تنص على انه ربما كان يتحدث بلهجة محلية ولهجة أي اجنبي مثله وربما بلهجة لورنسية خاصه به. ومن المؤسف حقاً ان نجد البعض يؤكد على ان لورنس يجيد اللغة العربية اجادة تامة وبأستطاعته ان يميز اللهجات وان يخبر المتحدث بانه من المنطقة كذا وكذا وانه عمل مترجماً للامير فيصل بن الحسين. ومن الجدير بالذكر انني درست لورنس لمدة اربع سنوات ونصف واطلعت على اكثر من (250) مصدر باللغتين الانكليزية والفرنسية فضلاً عن الوثائق السرية التي حصلت عليها من مركز حفظ الوثائق في لندن لم اجد اي مصدر معتمد ينص على ان لورنس يجيد اللغة العربية ولا اقول  اجادة تامة وخير دليل اعترافاته ان عربيته لا  تزيد عن كونها "عربية مطبخ" اي انه كان يعاني من محدودية كبيرة جدا في مجال اللغة العربية.

 

الدكتور حسيب الياس حديد

.................................

(1) Robert Graves and Liddell Hart: T.E .Lawrrence to his Biographers, p.57

(2)  Ibid

(3) Ibid

(4) Stanely and Rodelle Weintraub:op.cit, p.134

+  sir Hurbert Young (1883-1950) ضابط بريطاني عمل في العراق بين 1915-1917 وعمل في الدائرة الخارجية ودائرة المستعمرات وكان مستشارا للمندوب السامي البريطاني 1929-1923 وهو مؤلف كتاب The Independent Iraq

(5)  Thoms Lowell: With Lawrence in Arabia , p.128

(6) Robert Graves : op.cit, p.166

(7)   T.E. Lawrence: Seven Pillars of Wisdom,p.240

(8)   Rolland Storrs: op.  cit.p1093

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم