صحيفة المثقف

هل يشيخ الزمان.. نظرة في قوانين الوجود والعدم؟

تتحكم في الكون قوانين كلية لم يستطع العقل الانساني سبر أغوارها العميقة، وهي تشمل الأنسان والزمان والمكان. وتتحكم قوانين نسبية في هذا الثالوث الذي تحكمه جبرية صارمة. فلا انسان خارج الزمان يظهر فيه جنيناً ثم طفلا فشاباً يرتقي سُلَم الصعود المادي والروحي في التكوين، ثم ينحدر كهلاً إلى ناصية العدم. فقوانين الماديات ومعها قوانين الروحيات تتوائم في هذا النشأ في كينونة الأنسان، منذ ظلام الرحم حتى ظلام القبر. تلك قوانين حتمية مطلقة لا الزمان ولا المكان قادرين على تغيير مساراتها. والمحصلة الفلسفية الغائية الراسخة هنا تتمثل في الوجود والعدم. وهما حقيقتان مطلقتان، قوانينهما تتحكم في وجود الكائن والكائن الوجودي اينما وجد في الزمان وفي المكان. وكما انها تتحكم في هذا الوجود تحكماً  مطلقاَ، فأنها تتحكم بالزمان والمكان تحكماً نسبياً يمسي الزمان لا يشيخ والمكان لا يشيخ إلا جزئياً وأمامه الكلي الذي يشيخ وهو الأنسان .

متغير الزمان النسبي، كيف نقيسه لكي يمسي في معارفنا زماناً ؟ يقيسه الانسان بما اوجد لنفسه قياسات استقاها من الطبيعة، حيث قوانينها المطلقة التي تشترط شروق الشمس من الشرق ولا تغرب من غيره، حين ابتدع تراتيبية للزمان تأخذ الثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور والسنين والعقود والقرون وما ورائها، عندها عرف الزمان واكتشف موقعه منه بإعتباره كائن وجوده مؤقت مشروط  في زمان لا يشيخ .

الزمان يشيخ نسبياً، ليس في مدركات الكائن البشري النفسية فحسب، إنما في مكوناته العضوية التي تخضع لمتغيرات وتأثيرات تؤدي الى إضطرابات فائقة الجسامة تنتهي الى التراجع والضمور ثم الأنحدار الى العدم. وما يصيب الكائن البشري ينسحب على الطبيعة في كليتها. فالشجرة تشيخ وتهرم وتتيبس وينخرها السوس . فهي بدأت تبتة يافعة ثم وارفة تعطي ثمارها بعدها يبدأ قانون التعاكس يجرها نحو العدم. والمعنى في هذا القانون هو أن لا يعود الكهل شاباً ثم طفلا رضيعاً فجنين .. وكذا الكائنات الأخرى تخضع لقانون الصعود والتعاكس. فلا الصعود يبقى على حاله ولا التعاكس يعاود صعوده من الجديد، إنها الحتمية الجبرية الوجودية الصارمة. فالمادة الصلدة تنحتها الرياح عبر السنين والطبيعة تتحول وكائناتها تتحول وتشيخ نسبياً ولكنها تبقى في كليتها، وكذا الأنسان والمجتمع تحكمهما قوانين الحتمية، فلا يفنى المجتمع ويفنى الفرد فيه وهو الكائن البشري، تفنى الشجرة وتبقى الغابة، تتفتت الصخرة ويبقى الجبل، حيث قوانين الكلي والجزئي في وحدة التضاد والتناقض .

يشيخ الأنسان كلياً ويشيخ المجتمع نسبياً، تشيخ الشجرة كليا وتشيخً الغابة نسبياً وما ينسحب على الأنسان والمجتمع ينسحب على الطبيعة في كليتها.

الأفكار هي الأخرى تخضع ايضاً لقوانين البقاء الكلي والنسبي. فهناك افكار ونظريات تشيخ نسبياً، وأخرى لا تشيخ، ولغات ومفردات تشيخ ومنها لا تشيخ إلا نسبياً. وقوانين الكلي والجزئي تجعل الوجود الكلي مستداماَ، والكلي يشترط الجزئي ليتكامل به، فهما متكاملان في وحدتهما الوجودية، فلا الكلي يستطيع أن يلغي الجزئي ولا  الأخير يستطيع أن ينفي الكلي حيث يصبح الوجود عدماً. وأمام هذه الثنائية الجبرية يستمر الوجود البشري والمادي حيث يفنى الكائن البشري ويبقى المجتمع، تفنى الشجرة وتبقى الغابة تتفتت الصخرة ويبقى الجبل .. كلها تشيخ كلياً وتشيخ نسبياً ويبقى الزمان لا يشيخ أبداً .

 

د. جودت صالح العاني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم