صحيفة المثقف

لورنس العرب: شخصية انعزالية

حسيب الياس حديداتسمت شخصية لورنس بالتناقضات والتعقيد ابتداءً من الفترة الزمنية التي سبقت قيام الحرب العالمية الأولى – وعلى نحوٍ خاص – إذا تمكنّا من قراءتها قراءة معمّقة ذات طابع تحليلي في السلوك وفي الإرادة. وهناك من يقول اننا كلما نفدنا إلى جمّ كتاباته نتمكن من اكتشاف المزيد من سبر غور تلكم الشخصية.. ذلك يتضح بشكل متزايد من قراءة كتابه الأشهر "أعمدة الحكمة السبعة".

ففي ذلك المؤلَّف يكشف لنا لورنس المزيد ثم المزيد من (ذاتيته) الاعتيادية و (ذاتيته) النرجسية، تلك التي ضمّنها فصولاً بأكملها وهو يتحدث عن نفسه.. ثم على العكس من

ذلك، فقد ترك لنا تشارلس دوتي Charles Doughty فقرات متعاقبة، تحدّث فيها بإسهاب عن الحياة والموت والدين والعادات والتقاليد الاجتماعية في الجزيرة العربية، وذلك في كتابه " رحلات في الجزيرة العربية " "Travels in Arabia Deserta.

وعلى الرغم من الدراسات العديدة التي قام بها بحّاث كُثرٌ وأكاديميون متعمّقون منقبون في شخصية لورنس، إلاّ أن الغموض ظلّ سيد الموقف في أغلب تلكم الدراسات. ونحن في عرضنا التحليلي لا ندّعي لأنفسنا أننا تمكنّا من الإحاطة بكل مغاليق تلكم الشخصية.. إلاّ أننا باستطاعتنا التصريح بتمكننا من الإمساك ببعض التلابيب وذلك عبر محورين اثنين: أولهما المحور الأدبي، وثانيهما المحور النفسي. ففي الجانب الأول من الدراسة (الزاوية الأدبية)، وفي هذا الخصوص، يجوز لنا التصريح أن كثيراً من غموض شخصية لورنس ينعكس من خلال تصرفاته.. سواءً في بلده انكلترا أو في خارجه. فقد عُرف عنه انه ذو شخصية انعزالية منذ طفولته ومن ثم صباه. إذ لم يكن على الاطلاق يحمل شخصية اجتماعية، فقد تأكد لنا ذلك عبر رسالته إلى روبرت غريفز Robert Graves بتأريخ 21 تموز سنة 1920، إذ ذكر فيها انه يفضّل أن يكون انطوائياً ومتزمّتاً في قيامه بواجباته حدّ الإزعاج.. مع ازدهاء بالنفس ومحاولة ازدراء الآخرين.(1)

وفي رسالة أخرى له إلى إي. إف. هال E. F. Hull، أكّد له فيها أنه لا يستطيع البتة الانفتاح بشكل ودّي تجاه الآخرين. وفي بعض صفحات كتابه " أعمدة الحكمة السبعة "، روى لورنس عن نفسه بتعابير عكست كل مرايا دواخله بصورة فاضحة حينما قال: (.. على الرغم من لطف عبد الله وسحر شخصيته، فأنا لم أستطع أن أحبه أو أحب معسكره، ولربّما كان شعوري هذا منبعثاً من انعدام الميزة الاجتماعية في شخصيتي ورغبتي في الوحدة والانفراد.. ولربّما كان ذلك ناشئاً عن كثير من الآلام تعمل في داخلي تدفعني إلى جعلي أتصور الآخرين يبدون أقل مما هم في الحقيقة (2).

ويذكر لورنس في صفحات أخريات من مؤَلَّفه أنه كان تلميذاً متميزاً بين أقرانه الآخرين من التلاميذ. وأنه لم يكن يشاركهم نشاطهم وفعالياتهم التي تنظمها لهم المدرسة. وقد عزا ذلك في تلكم الكتابات إلى سبب إضافي آخر، حمّل به أهله وأسرته، فقال عنهم انهم لم يكونوا متفتحين على الأسر الأخرى بشكل يجعلني أنمو وأكبر على هذا التعوّد من الانفتاح. ففي أوكسفورد عاش والداي بعزلة تامة عن الجيران، ولم يكن يسمح لنا بإقامة أية علاقة مع أولئك..

وقد يكون السبب في نظرنا، هو محاولة والدي لورنس إخفاء نوع علاقتهما الزوجية عن الآخرين وعدم البوح بها أو جعلها تبدو مكشوفة أمام أية أطرافٍ أخرى..!

وقد تكون بعض مراسلات لورنس مرآة حقيقية عاكسة لنوع معاملة والدته له ولإخوته الآخرين، تلك التي اتسمت بالقسوة والخشونة.. الخالية من الرقّة ومن الحنان، فضلاً عن طبيعة شخصيتها العنيدة والمتسلّطة على البيت وعلى الأسرة بأجمعها.. إلاّ أن لورنس لم يذكر والده في هذه المراسلات على الإطلاق.

في هذا البيت الذي يكاد أن يكون خالياً تماماً من أية عواطف أسرية دافئة، وبارداً في ترابطه الحميمي.. نشأ لورنس وترعرع، بل نمت شخصيته اللا اجتماعية التي لم تسعَ – فضلاً عن كل ما سبق – إلى إقامة علاقات صداقة مع شباب من جيله، كون لورنس لم يكن يريد لأي نوع من انواع العلاقات أن تؤدي إلى مزيد من الإزعاجات.

قال لورنس في إحدى مقابلاته ليدل هارت: (.. لم أفكر على الإطلاق أن يصدر تجاهي أي ضرر من الأعداء.. بل كنتُ دائم التوجس من أن يكون أصدقائي ومعارفي هم مصدر الأذى الذي يمكن أن يصيبني في يوم من الأيام (3).

هذه الاعترافات التي كان لورنس يصرّ دائماً على التنفيس عنها، تكشف عن درجة انغلاقه تجاه الآخرين، ومحاولته دائماً التصريح بما يعتمل في داخله من مكنونات في عدم قدرته – فضلاً عن عدم رغبته – في إقامة صداقات من أناس آخرين – ليس له إكراه في إقامة هذه العلاقة معهم – بل ربما كان الدافع الأساس وراء عزوفه عن الاختلاط في أوساط المجتمع، هو عدم قدرته على فهم الآخرين، ذلك يدعوه إلى أن يتضايق منهم.. وربما أدى ذلك إلى تولد نوع من أنواع الكراهية أدّى به إلى القول: (.. كنتُ دائماً أتحاشى المخلوقات الدنيا التي كانت تبدو لي أنها يمكن أن تعطيني صورة من صور الفشل في معركتنا تجاه الروح. ولربّما كانت هذه المعركة مفروضة علينا، لأنني في وضع أبدو فيه شديد الكراهية لتلكم المخلوقات الدنيا.. فضلاً عن أنني قد وضعتُ اليد على شيء كنتُ وما زلتُ أعدّه نوعاً من التدنيس.. وإنني كانت تصيبني ارتجافات مرعبة في جسدي إذا ما لامسني – مجرد ملامسة – أي شخص من قريب (4).

ولأجل ربط الأحداث بخيوط وقائعها، يجدر بنا القول أن لورنس وبعد أن عاد إلى بلاده – بعيد انتهاء مشاركته في الثورة العربية – وبغض النظر عن الكم والنوع من الأفعال التي قام بها، سواء جاء ذلك مِمّن هم (مع) أو مِمّن هُم (ضد)، فهو قد عاد إلى بلاده أكثر انغلاقاً وأشدّ كتماناً وأعمق تعقيداً مما كان عليه في فترة مشاركته في أعمال الثورة واختلاطه بالناس العاديين من البدو..

في هذا السياق المتصل من جانب تحليل شخصية لورنس وسلوكه الشخصي، يمكننا أن نعترف أننا وضعنا أصبعنا على مكمن مهم من مكامن التخالف في حياة لورنس، تلك التي يمكن أن تندرج تحت باب علاقاته الاجتماعية أو الرومانسية على حدّ سواء، وعلى نحوٍ خاص علاقاته (الصداقاتية) مع النساء، سواء جاءت هذه العلاقة على مستوى الصداقة الخالصة حسب، أو تلك التي اندرجت تحت باب الغرام والهيام.. (فهنَّ) لم يكنَّ يحتلنَ أي شاغر في صفحة حياته المليئة بالغرائب، لذلك لم يصدر عنه ما يشير إلى ذلك في كل

كتاباته، بل هو لم يذكرهنَّ على الإطلاق.. عدا بعض التلميحات القاسية ضدّهنَّ.. وهذا لغزٌ آخر يمكن أن نضيفه إلى الألغاز العديدة التي أحاطت بشخصية لورنس.

ولأجل أن نبقى ضمن الدائرة الضيقة في إطار المرأة وموقعها من تفكير لورنس، يجدر بنا أن نحدد أن آراءه في المرأة قد اتسمت مرة بالتناقض، وأخرى بالتردد في الإفصاح الحقيقي عن هدف القصد.. وعدم اليقين تارة ثالثة.

عليه، فقد كان لورنس متردداً، بل متأرجحاً بين المثالية التي كان يحلم بها، والاشمئزاز الذي يسيطر على تكوينه البدني من الشكل الفيزيولوجي للمرأة، فضلاً عن وظائف أخرى، ثبتَ فيما بعد أنها كانت تطفو على سطح شغاف مخيلته كلما أراد الذهاب رومانسياً في اشتهاء المرأة لتعيده إلى حالة النفور.. تلك التي تجرّه من أرنبة أنفه إلى حالة المرأة المتمثلة (دوماً).. و(أبداً).. بالمرأة (أمّه).

ولأجل أن يغلّف لورنس ذلك الاعتقاد الراسخ في أسفل قعر عقله (اللاواعي)، طفق يحدّث الآخرين (صحافة وإعلام)، فضلاً عن قيامه بتثبيت ذلك في مؤلفاته.. من أن المرأة (كل النساء) ليس بوسعهنَّ أن يقدمنَ نتاجاً رائعاً في كل المجالات.. حسبه أنه كان دائم التشكيك بقدراتهنَّ في تأليف كتب قيّمة من مثل (موبي ديك Moby Dick) لـ (هيرمان ميلفيل Herman Melville).

لكنه في أحيانٍ أخرى يعود إلى تخفيف أحكامه القاسية في حق المرأة ويقلل من غلوائه في ذلك، فيذهب إلى الإعجاب بـ (إيملي برونتي Emily Bronte) و(روزيتي Rosetti) و(السيدة كليفتون Mrs. Clifton).. وقد ألمح في أكثر من مكان أن سبب إعجابه بكتابها يعود إلى كونه يروي قصة امرأة تستسلم لزوجها على طول مسرح حياتهما الزوجية، وهي في نظره فكرة تعدّ مرفوضة تماماً من قبل القارئ الأوروبي (استسلام المرأة لزوجها وإنكارها شخصيتها على طول الخط).. فهي فكرة تقوم في الأساس على مبدأ إهانة المرأة والتقليل من مثلها العليا..

وعلى نحوٍ آخر، لم يكن لورنس يريد للآخرين أن يأخذوا عنه هذه الفكرة بكل تفاصيلها.. بل كان يؤكد على الجانب الآخر في شخصيته تجاه المرأة، فهو - على حد تعبيره - يقول: (.. إني أخشى النساء أكثر من خشيتي من قدوم الجيش التركي..!!).

وإذا اقتربنا أكثر من المرأة، وصرنا في باب الزواج (العلاقة الأكثر حميمية بين الرجل والمرأة)، نأتي إلى النقطة المركزية في عقيدة لورنس في مبدأ الزواج.. فهو يرفضه جملة وتفصيلاً، وينكره إنكاراً قاطعاً. فهو لم يكره الزواج هكذا اعتباطاً، بل جعل له ثوابت راسخة في عقله، يمكن أن يعدّها الآخرون غاية في الغرابة والشذوذ.. فقد كان يعدّ الزواج (عِهرٌ على الورق) أو (بطاقة عِهر) كما عبّر عن ذلك في رسالة بعث بها إلى شقيقه آرنولد Arnold سنة 1925(5).

وقد يتساءل المرء: يا ترى، ألم يتمكن لورنس طوال مرحلة شبابه ومن ثم كهولته من التعرف على فتاة أو سيدة يمكن أن تعيد اليه توازنه النفسي أو الاجتماعي؟! سؤال يمكن أن يطرحه كل من خاض غمار حياة لورنس وقصة مسيرته المكشوفة / الغامضة، ليأتي الجواب على الفور بالرفض القاطع من طرف لورنس نفسه، في عدم قدرته على الوقوع في أحابيل الغرام سواء كان ذلك تجاه فتاة أو سيدة متزوجة أو أي من الجنس اللطيف..

مرة أخرى يثبت لورنس على وجه اليقين إخفاقه العاطفي وضعفه وعدم قدرته في إقامة علاقات اجتماعية وعاطفية ناجحة. وحتى يثبت لورنس تقاطعه مع الجو النسائي وكرهه لهنَّ على كافة المستويات والأصعدة، قرّر اختيار أماكن بعيدة وأجواء خالية تماماً من العنصر النسائي، فضلاً عن تدفقه في إتجاهات عملٍ لا تؤدي فيها المرأة دوراً من أي مستوىً كان.. عليه، كانت الصحراء بكل فضاءاتها المفتوحة وشمسها المحرقة والحياة الصعبة للعايشين بين ظهرانيها.. وكان الجيش بكل ثقل المهمة للذين يقومون بالخدمة بين صفوفه.. أماكن انتبذ لورنس له مكاناً قصيّاً تحت سماواتها..

وإذ نقبض على الطرف الآخر من لعبة الولوج في عالم النساء، ومدى رغبة لورنس في إقصاء نفسه عن قلب الحدث في تلكم المعادلة غير المتوازنة، نجد أن لورنس وبسبب الهالة الإعلامية العالمية الضخمة التي أخذت تصب عليه كاميراتها وأقلام صحافييها وتضعه تحت دائرة الضوء المثيرة، سواء كان ذلك دوره الحقيقي أو دوره الافتراضي.. فقد كان واجباً علينا أن نصغي إلى الجانب الآخر من أطراف المعادلة.. ألا هم النساء.

وعلى حد تعبير الصحافي الأميركي توماس لويل Thomas Lowell، فقد تسلّم لورنس طوال فترة حياته حوالي (28 رسالة) من نساء – من مختلف الاتجاهات – يقترحنَ عليه فيها طلب الزواج منه.. إلاّ أن ذلك الضغط النسائي المتعاظم لم يزده إلا إصراراً في بعده عنهنّ..!

واستطراداً في التفتيش في زوايا المربع نفسه، وعلى نحوٍ خاص موضوع صحراء العلاقات النسائية التي كانت جرداء في حياة لورنس، نجد بين طيات التحليلات المنغمسة في التفتيش عن خفايا وخبايا، أن قصر قامة لورنس كان لها دور مدمر في إخفاقه عاطفياً، بل تركت بصماتها السيئة على نفسيته.

عندما كان في السادسة عشرة من عمره تعرّض إلى حادث سقوط أدى إلى إصابته بكسر بليغ في ساقه، وعندما تم شفاؤه من تلك الإصابة، كان نموه قد توقف عند تلك الحدود ولم يصل طوله في أقصاه إلى أكثر من خمسة أقدام وخمسة إنجات، فضلاً عن أن كِبر حجم جمجمة رأسه كان يبدو للرائي وكأنه شيء غير متناسب مع قصر قامته.. كل تلك العيوب بعثت الاشمئزاز في نفسه وجعلته يواجه وضعاً صعباً دفعه إلى كثير من التذمر، فقد سيطرت عليه عقدة الشعور بالنقص دائماً، بحيث أن تعابير كثيرة وردت على لسانه في" أعمدة الحكمة السبعة" وهو يلعن – عبرها – قصر قامته(6).

لقد جاء هذا الموقف من لورنس متمماً لما كان يحظى به من معاملة قاسية من طرف والدته أثناء طفولته، ومحاولتها الدائمة توجيه كيلاً من الاتهامات أكثر بكثير من مما كانت تعامل به بقية إخوته.. بل كان له نصيب كبير في الضرب المبرّح وربما كان لحادثة درعا تأثيراً سلبياً كبيراً جداً.

أما حادثة (درعا) فقد كان كثير من التحليل يميل إلى عدّها أعنف تجربة خاضها عبر حياته كلها.. فهو عندما يضع هذه الصورة في مخيلته، ينظر إلى المرأة بمنظار الحقد والكراهية، ويرى فيها عنصراً مدمراً للحياة، يتحتم عليه – على قدر المستطاع – محاولة تجنبه، لتنمو عنده عقيدة التطرف ضد الزواج وتتملكه رهبة من التفكير في إمكانية إصابته بالإخفاق والفشل في أية تجربة زواج قد تقوده الظروف يوماً للانغماس فيها..

قال في إحدى صفحات "أعمدة الحكمة السبعة":." أصاب بالذعر من مجرد شعوري بإمكانية الفشل في أية محاولة.. حتى قبل البدء بها" (7).

من جانب آخر، فقد ذكر لنا كثير من كتّاب سيرة لورنس مسألة حقيقة إصابته (بالعنّه الجنسية) مع ضعف شديد في القدرات الجنسية.. إن لم تكن منعدمة كلياً..

 

الدكتور حسيب الياس حديد

..........................

(1)  Robert Graves and Liddelll Hart: op. cit, p.7

(2)  T.E. L awrence: op cit.,p.219

(3)   A.W. Lawrence: op. cit., p. 33

(4)  T.E. L awrence: op cit.,p.588

(5)   A.W. Lawrence: op. cit., p. 316

(6)  T.E. L awrence: op cit.,p.451

(7) Ibid,p.580

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم