صحيفة المثقف

القيم الجمالية في داخلنا وفينا (1)

كاظم شمهودمن المعروف ان الفنان في العصور القديمة كان يرسم ضمن ضوابط وقواعد رسمها له فلاسفة الاخلاق ورجال الدين في ذلك الوقت، حيث كان هناك تناسق وانسجام بين الاشكال والالوان من جهة وبين المضمون او الفكرة من جهة اخرى، هذا التوازن والتناسب والتجانس في العلاقات بين الشكل والمضمون كان من خصائص تلك الفنون الكلاسيكية والتي تجسد لنا بالتالي العنصر الجمالي المطلوب الذي يزين العمل الفني.

في الفنون الحديثة انفصل علم الجمال عن العمل الفني، فالشكل ليس بالظرورة ان يكون متناسقا ومنسجما في عناصره وجميلا، وليس من الظروري ايضا ان يكون منسجما مع الفكرة او المضمون، حيث نجد اليوم الكثير من الاعمال الفنية والتي تعود الى فنانين معروفين قد نفذت بطريقة عفوية فطرية او عشوائية تشبه احيانا اعمال الاطفال. ويرى الفيلسوف افلوطين- 205 ق م – (والذي هو من مواليد مصر) ان الجمال موجود في داخلنا وفينا، وان جمال الاشياء الخارجية يرجع الى جمال داخلي روحي، ولهذا يجب البحث عن الجمال في داخلنا. ويؤكد ايضا ان الاجسام الجميلة هي في الواقع آثار وصور وظلال الجمال العلوي وان الخير هو اسمى جمالا من الاجسام الجميلة. وكلما تحررت الروح من تأثير الجسد زاد جمالها، وهذا ما ذهب اليه المذهب الصوفي.

ولكن الجمال يبقى كقيمة وحقيقة ثابتة في كيان هذا الكون، والطبيعة ميدان من ميادين الجمال، والجمال موجودا في الظاهر كحقيقة ووجود، وفي الداخل كفطرة واستعداد. وسواء كان الجمال في داخلنا او في الطبيعة فهو يشكل عنصرا كونيا موجودا منذ بداية الخليقة... فالذوق الانساني هو الجمال. ويذكر كانت (ان الذوق هو حكم جمالي قوامه الوجدان) ويستطيع المشاهد من تمييز وتقييم الاعمال الفنية بانطباعه وذوقه الشخصي، وقد يختلف عن غيره في تذوقه وتقيمه للعمل، ولهذا فليس هناك اعمال جميلة مطلقة وليس هناك اعمال قبيحة مطلقة، فالحكم والتذوق هو نسبي.

1160 كاظم شمهود 1يذكر ان المفكر الاغريقي هيرقليس -576 ق م – هو اول من قال بالنسبية في الجمال، فمقاييس الجمال في المجتمعات الافريقية السوداء يختلف عنه في اوربا او الصين، وكذلك اللوحة التي تبدو لنا جميلة هي عند البعض قبيحة. بينما ربط فلاسفة الاغريق الجمال بالاخلاق، فكل شئ مفيد فهو جميل. والترقي من الجمال الحسي الى الجمال العقلي ينتج جمالا اخلاقيا. وحتى الاشياء القبيحة ممكن ان تكون جميلة اذا كانت لها فائدة.

وبالتالي فان الفنون العشوائية والعفوية الحديثة يمكن ان تكون واسطة تنفيس وتفريغ للفنان بعدما غمرته نوائب الدهر ورزايا الحياة، فيمكن ان يكون مظهرها غير مقبولا ونافرا ولكن فكرتها راقية وجميلة.

ولهذا انا اعتقد ان غالبية النقد والتقييم في اعمال الفنون التشكيلية هي اما ان تكون عبارة عن اذواق وانطباعات شخصية او عبارة عن مقارنات، وحتى المقارنات هي في الاصل اذواق شخصية. في يوم من الايام قرأت نقدا في الصحافة لاعمال احد الفنانين، يصف به الناقد بان الفنان الفلاني هو بيكاسو العراق؟ وبالتالي فقد جعل هذا الفنان الممدوح يتخذ ذلك،وثيقة يستشهد بها في المحافل الفنية والثقافية؟ نحن اليوم بحاجة الى وعي علمي بيولوجي وسيكولوجي وفيزيولوجي وميتافيزيقي ومنطقي وان يعرف الفنان والناقد قدر نفسه. اتذكرقصة لطيفة حدثت في زمن ملك فرنسا لويس الرابع عشر في بداية القرن السابع عشر حيث كان الخلاف محتدما حول النقد للمذهب الكلاسيكي اذ انقسموا الى فرق، قسم متعصب للرسم والتخطيط وقسم متحيز للالوان وقسم يقف الى جانب الحداثة والتغيير وقسم يناقش هل ان الجمال موجودا في الفن؟ ولهذا فان هذه الخلافات تعود في الاصل الى طبيعة الانسان واختلافه في التذوق والروأى والتنظير. وبالتالي فان النقد في عالمنا العربي يحتاج الى مراجعة وتقييم، لان النظريات الفنية في تغير دائم وان الحكم والتذوق هو نسبي.... يقول ديكارت (ان الجمال الفني يتغير بتغير الاذواق) بمعنى ان الذوق هو الجمال وانه نسبي. ويقول المفكر هيوم (ان العنصر الانساني موجود في الموضوعات الجميلة، وان الذوق الانساني هو الجميل).

1160 كاظم شمهود 2يقول الفيلسوف الالماني كانت (ان ادراك الجمال في الاشياء يعتبر ادراكا مباشرا مستقلا عن تصورنا لما هو جميل) كما يذكر البعض ان العنصر الجمالي موجود وجودا ثابتا في كل شئ من الوجود، فهو يسير معنا وهو غير مرئي الا لمن ينتبه له، فهو فينا ومن حولنا، ويظهر باستيقاض النفوس لترى هذا الجمال الازلي. ويقول المفكر ليبنتز -1696 م (ان الانسجام الكوني سوى انعكاس للانسجام الداخلي فينا، فالانسجام الكوني يمتد منا الى الاشياء ومنها الينا). وهذا يذكرنا بقول الامام علي -ع- (اتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر) ويعني ذلك ان هذا الخلق الكوني بما فيه الانسان هو في وحدة متجانسة ومتناسقة في حركتها ووجودها ودقتها وتأثير بعضها على البعض. ولهذا فعنصر الجمال لمقصود قصدا في هذا الوجود، فاتقان الصنعة يجعل الوصل بها الى حد الجمال... والنفس تميل بطبعها الى الجمال وتشتاق اليه اذا غاب عنها.

(وصوركم فاحسن صوركم) ويعني ذلك الحسن وجمال الخلقة، فكل شئ في الكون هو منضبط ومحسوب بالدقائق والثواني.. كما سجل الله تعالى مظاهر الزينة والجمال في الكون (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين..)

و يقول سيد قطب (ونظرة الى السماء كافية لرؤية هذه الزينة، ولادراك ان الجمال عنصر مقصود في بناء الكون). ويرى الكاتب والمفكر الانكليزي راسكين (ان الشعور الجمالي غريزي في الانسان اي انه سابق على التجربة)، وبالتالي فان رسام الكهوف القديمة لا يختلف في تذوقه عن الفنان المعاصر فالاثنان يحملان نفس غريزة الشعور الجمالي ولهذا نجد الكثير من الفنانين اليوم يرسمون بطريقة واسلوب فطري. يقول ديكارت (ان الجمال هو الحق)، وفي القرآن الكريم ورد هذا المعنى (خلق السماوات والارض بالحق)، ويعني ان الله ابدع في خلق السماوات والارض وبحسن وجمال..

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم