صحيفة المثقف

لورنس العرب واعمدة الحكمة السبعة (1)

حسيب الياس حديدبعد انتهاء الحرب العالمية الاولى 1914- 1918 حضر لورنس الى مؤتمر السلام في باريس بصفة مترجم لفيصل. وفي تلك الفترة بدأ بتأليف كتابه الشهير "اعمدة الحكة السبعة".  ففي شباط عام 1919 وبالقرب من غابات بولونيا وفي الفندق الذي كان يقيم فيه الامير فيصل شرع لورنس بالكتابة ليلاً ونهاراً من دون توقف مستنذكراً كل تفاصيل الاحداث التي جرت معتمداً على ذاكرته. اذ استطاع ان ينجز جزءاً كبيراً من كتابه مستغلاً بقاءه في باريس طوال فترة مؤتمر السلام في فرساي. وقام بأكمال ما تبقى من كتابه في انكلترا بحيث انه انتهى من كتابة المسوّدة الاولى للكتاب في نهاية عام 1919. اي ان تاليفه للكتاب استغرق فترة اقل من سنة. ويكون بذلك قد حقّق حلما راوده طوال حياته ويتمحور هذا الحلم في ان يؤلف كتاباً عملاقاً على حد تعبيره. وبعد اكمال المسوّدة الاولى للكتاب حدث مالم يكن متوقعاً. فبينما كان متجها من لندن الى اوكسفورد في شهر تشرين الثاني توقف في مدينة ريدينج Reading لتناول الشاي في احدى المقاهي. وعند عودته الى الحافلة التي كانت تقله فاذا فقدت جميع المسودات التي كانت في حقيبة سوداء قد فقدت ولم يتم العثور عليها مطلقاً. وقد كتب الكثير من التحليلات حول مسألة فقدان المسودة الاولى للكتاب. حتى ان لورنس نفسه اعطى اكثر من رواية حول الموضوع. ويعتقد روبرت غرنفز ان لورانس ترك المسوّدة عمداً لان باستطاعته اعادة كتابتها من ذاكرته. في حين اعتقد ريتشارد الدينكتون ان اشاعات دارت في وقتها مفادها ان هذه المسودات وجدت طريقها الى ارشيفات الدائرة الخارجية وتم اخفاؤها هناك. ويمكن القول ان المسودات التي فقدت ربما كانت تتحدث عن خفايا السياسة البريطانية في الشرق وتفضح رجالات السياسة وربما تولد انعكاسات خطيرة تنتج عنها عواقب لا تخدم صنّاع السياسة ودهاقنتها.

ومن المهم ان نلقي نظرة على حالة لورنس النفسية عندما قام بتأليف الجزء المتبقي من كتابه. يخبرنانا انطوني نتيج ان لورنس عزل نفسه عن العالم اجمع ولم يعد يرى من قبل اي شخص (1) وهذا بدوره يعكس لنا مقدار القلق الذي عاشه لورنس اثناء الكتابة  وما السرعة التي اعتمدها في الكتابة الا دليل على ذلك وحاول ان يعطي احكاماً معينة حول تسوية المسألة العربية من قبل البريطانيين. فقد كان لاذعا في انتقاده للحكومة البريطانية على ما اقترفته تجاه العرب واستقلالهم. ففي رسالة موجهة الى ناننيج بتاريخ 15/5/1930اعترف لورنس ان لهجة كتابة "اعمدة الحكمة السبعة" حادة ولا تخلو من المرارة لان تسوية المسألة العربية لم تكن مقنعة للعرب. وقال "كان من الممكن ان تكون نبرة الكتاب اكثر سعادة وحلاوة لو انني رأيت نهاية نظيفة للمسألة العربية" (2). ويذكر انه عندما قام لورنس بكتابة المسودة لكتابه اعطاها لثلاثة اشخاص معروفين لقراءتها وهم هوغارث وداوني، مانزرهاكن علما ان اثنين منهم شاركا في الثورة العربية ضباطاً وقد اعطاهم المسودات لكي يطّلع على ردود افعالهم. فبالنسبة لهوغارث لم يكن رد فعله ايجابيا اذ طلب من لورنس اعادة كتابتها في حين التزم بالصمت الاثنان الاخران وربما اعتمدا على ان فلسفة الصمت هي ابلغ الحديث اذ تم تحليل صمتهما على انه عدم الاتفاق مع لورنس حول ماذكره في كتابه لانه كشف بعض المعلومات السرية التي لاتخلو من خطورة عليهما. الا ان الكتاب لم يتم طبعه ربما بسبب ان الاحداث المهمة من وجهتي النظر السياسية والعسكرية  التي تطرق اليها حالتا دون طبعه.

ومن الاهمية بمكان ان نذكر ان فقدان المسودات الاولى لكتابه لم تمنعه من اعادة كتابته ولكن بطريقة ربما تختلف عن طريقة كتابة المسودات الاولى. وهنا نشير الى ان هوغارث كان من اكبر المشجعين للورنس لاعادة كتابة "اعمدة الحكمة السبعة" وفعلا شرع باعادة كتابة هذا المؤلف ولكن بسرعة غير معهودة اذ كان يكتب على حد تعبيره بين 1000 و 1500 كلمة في اليوم الواحد ولم تستغرق  اعادة الكتابة اكثر من ثلاثة اشهر في حين استغرقت كتابة النسخة الاولى خمسة اشهر. ولعل اكثر مايثير الاستغراب انه كتب الفصل السادس الذي يتضمن 34000 كلمة خلال 48 ساعة وفي نهاية عام 1921 اصبح كتاب "اعمدة الحكمة السبعة" جاهزاً للطبع. الا ان الكتاب لم يتم طبعه في تلك السنة وانما طبع لاول مرة عام 1935 بعد وفاته. ولكنه في عام 1925 قام باجراء مراجعة لاعمدة الحكمة السبعة واعطى المسودات الى شخصيات معروفة لمراجعتها مثل جورج برنارد شو  وفورستر وروديارد كيبلنج وديفد هوغارث وجيرترود بيل واعطى المسودات ايضا الى بعض الضباط مثل الجنرال وافل وداوني وباكستون. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا اعطى لورنس مسودات كتابه لهؤلاء الاشخاص؟ هل كان لورنس غير مؤهل لتأليف كتاب ادبي؟ ربما يكون ذلك صحيحا لانه اعترف بصراحة انه ليس متاكداً من قدراته الكتابية خاصة انه غير قادر على  تأليف كتاب ذي قيمة ادبية عالية مثل كتاب "موبي ديك"(Moby Dick) لهيرمان ميلفيل او الاخوة كارمازوف لديستوفسكي وغيرهما. وهكذا اعترف صراحة ان جهوده في مجال الكتابة اثبتت عدم قدرته على تأليف كتاب ادبي رائع (3) وفي عام (1924) اعترف لصديقه روبرت غريفزانه بدأ بتعلم الكتابة في محاولته الثالثة لكتابة "اعمدة الحكمة السبعة" (4). اما وجهة نظر لورنس  في كتابه فانها تثير الاستغراب اذ ان Tabachnik  وصف هذا الكتاب  بانه عفن وكئيب وهيستيري واناني وطويل (5). وهنا نجد لورنس ينتقد نفسه انتقاداً لاذعاً وربما دفعه   هذا الشعور الى ان يعطي مسودات كتابه الى عدة اشخاص من ذوي الخبرة ليطلعوا عليه قبل طبعه. وكان تواقاً لمعرفة ردود افعال الشخصيات الذين اطلعوا على ماكتبه ليكون على بيّنة مما قد يوجّه اليه من نقد لاحق. وبعد ذلك اخضع كتابه الى اكثر من مراجعة وحذف الكثير من الفقرات التي اعتبرها غير مجدية والفقرات التي تقدم تفاصيل مملة ورتيبة تتعب القارئ. حتى انه حذف الفصل الاول بناء على مشورة من جورج برنارد شو ووضع الفصل الثاني بدلا عنه. كما حذف تفاصيل كثيرة من نهاية الكتاب خاصة ما يتعلق بالاستيلاء على دمشق وتجوله فيها  متنكرا بزي امرأة عربية محجبة لانه اعتقد ان سرد مثل هكذا حدث لا يليق بمجمل الكتاب والافكار التي عالجها

ومن الواضح انه حذف الكثير من الكتاب الاصلي كما غير كثيرا في الاسلوب الادبي. ويذكر ان النسخة الاولى تضمنت 250000 كلمة والثانية 200000 والثالثة 330000 كلمة اما النسخة الاخيرة فقد تضمنت 280000 وتمثل هذه النسخة  النص الذي طبع عام 1935.  لقد تعرض لضغوط من جورج برنارد شو وجيرترود بيل (Gertrude-Bell) لطبع الكتاب الا انه اجبر على ان يتم طبعه بعد وفاته وهذا ما حصل فعلا. علما انه تردد كثيرا في مسالة طبع الكتاب فكلما كان يقرر طبع الكتاب في يوم ما الا انه غيّر رأيه في اليوم التالي وهكذا. وربما هنالك اسباب تكمن في تردده لطبع الكتاب منها خشيته من ان يوجه اليه النقد اللاذع حسب تصوره وكذلك لم يرغب في بداية الامر من ان يكشف عن ذاته وعن معاناته ولكنه اقتنع في النهاية انه لا بد من عرض الكتاب للجمهور الذي يعد شهادة مهمة لتجربته الخاصة به.

وفي الحقيقة لم يبصر كتاب اعمدة الحكمة السبعة النور بنسخته النهائية الا بعد وفاة لورنس عام 1935 وقد لاقى نجاحا ورواجاً منقطع النظير. وهذا بالنسبة للورنس يعدّ تحقيقاً لحلم رواده طوال حياته علما ان لورنس في 1/12/1926 اصدر ملخصا لكتاب "اعمدة الحكمة السبعة" بعنوان "حرب في الصحراء" اذ اقتصر حصراً على الاحداث التي جرت في المنطقة دون التطرق الى الامور الاخرى التي وردت في "اعمدة الحكمة السبعة". ويذكر ان كتاب "حرب في الصحراء" يتضمن فقط مايعادل 40% من كتاب "اعمدة الحكمة السبعة" اي انه حذف كل الامور الشخصية والفكرية والفلسفية وحتى السياسية منها.  ترك الفصول السبعة الاولى من الكتاب الاصلي التي تعد في غاية الاهمية لاحتوائها على الكثير من خبايا السياسية البريطانية والافكار الخاصة بلورانس نفسه.  وظهرت طبعة كتابة (حرب في الصحراء) بصيغة تاريخية وعسكرية ولهذا السبب لم يتمتع بالشهرة التي نالها كتابه الاصلي ومن الناحية الادبية لم يتضمن تلك القيمة الادبية مثل "اعمدة الحكمة السبعة".

 

الدكتور حسيب حديد

..............................

(1)Anthony Nutting : Lawrence of Arabia، the Man and the Motive،  P. 211 

(2)   Jeffry Meyers : The Revisions of Seven Pillars of Wisdom، PMLA، Vol : October، 1973. P. 1067

(3)A.W. Lawrence : T.E. Lawrence by His Friend، P. 302

(4) Robert Graves and Liddell Hart : T.E. Lawrence to his Biographers، p. 33  (

(5) Stephen T.E. Tabachnick : Two Arabian Romantics Charles Daughty and T.E. Lawrence، English Literature in Transition. 1888 – 1920 vol : 16، 1974، p. 19

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم