صحيفة المثقف

لورنس العرب واعمدة الحكمة السبعة (2)

حسيب الياس حديداسس كتاب "اعمدة الحكمة السبعة"

من الاهمية بمكان ان نأخذ بالحسبان تأثر لورنس بالكتّاب العظام الذين كانوا مصدر الهام لتأليف كتابه الشهير. عرف عن لورنس ذوقه الادبي الرفيع الذي جاء نتيجة لقراءاته لمؤلفين مشهورين في الادب العالمي وليس فقط في الادب الانكليزي. ففي رسالة مؤرخة في 28/8/1922 موجهة الى ديفيد غارنيت اعرب لورنس فيها عن اعجابه العميق بكتّاب عمالقة في الادب العالمي منهم الكتّاب الفرنسيون من امثال فيكتور هيجو وفلوبير وغوتييه ولامارتين. وقد تأثر كثيراً برواية سلامبو لفلوبير التي تتناول موضوعاً نال اهتمام لورنس. وعبّر عن اعجابه ايضاً بالكتّاب الروس مثل ديستويوفسكي وتولستوي فضلاً عن اعجابه بالكتّاب البريطانيين. وذكر في رسالة بتاريخ 26/8/1922 الى ادوارد غارنيت ان لديه رفوفاُ من كتًاب عملاقة على حد تعبيره. وبناء على ذلك ذكر لورنس في رسالته انه يحلم بتأليف كتاب من هذا النوع. وبحث في الشعر وفي غيره من الالوان الادبية الا انه لم يفلح لانه كان يبحث عن موضوع خيالي يكون مادة لكتابه. فقد حاول كتابة قصائد شعرية الا انه اكتشف عجزه في هذا المجال ثم حاول في النقد فكتب عدة مقالات نقدية لكنها لم تكن الاّ اخفاقاً مضافاً لاخفاقاته السابقة. وحاول كتابة الرسائل وكتب فعلاً في حدود الف رسالة الى اصدقائه والى معارفه ولكنه لم يفلح ايضاً. علما ان لورنس من الناحية الادبية معروف باسلوبه الرفيع الذي جاء نتيجة لقراءاته الواسعة. ولكنه كان يؤكد في رسائله ان حلم حياته يتمثّل في تأليف كتاب بقيمة ادبية عالية. وبناء على ذلك اعترف اخيراً ان مشاركته في الثورة العربية كانت الفرصة السانحة له لتأليف ذلك الكتاب الذي كان يحلم بتأليفه واعترف في "اعمدة الحكمة السبعة" ان القدر شاء ودفعه الى المشاركة في الثورة العربية حيث وجد فيها الفكرة التي كان يبحث عنها لتكون مادة كتابه وكذلك فيها ملحمة بكل معانيها. واخيراً على حد تعبيره وجد فكرة جاهزة لكتابه وهي الفرصة التاريخية بالنسبة له (1) الا ان هذا الكتاب الذي كان يحلم في تأليفه يحتاج الى اسس ادبية رئيسة يعتمد عليها في انجازه. وفي الحقيقة اعتمد لورنس في تأليفه لاعمدة الحكمة السبعة على اربعة اسس رئيسة هي كتاب "رحلات في الجزيرة العربية" Travels in Arabia Deserta وكتاب "الحرب والسلام" ""War and Peace لتولستوي وهكذا تكلم زرادشت" "Thus Spake Zarathoustra لنيتشة و" موبي ديك"" Moby Dick" لهيرمان ميلفيل. ووجد في كل واحد من هذه الكتب اساساً ادبياً لتأليف كتابه.يذكر ان لورنس كان كثير القراءة في حياته وكان مولعاً بقراءة الادب والتاريخ والفلسفة مما جعله توّاقاً  الى تأليف كتاب له قيمة ادبية عليا  ويروّج ورواجاً كبيراً. ومن خلال قراءته تأثر بعدد من المؤلفين دون غيرهم. ويمثل كتاب جارلس دوتي بالنسبة له الكتاب الذي لا مثيل له والذي رافقه طوال حياته. ويعتبر هذا الكتاب "رحلات في الجزيرة العربية" دليل عمل بالنسبة له. وفي المقدمة التي كتبها لطبعة جديدة لهذا الكتاب اكّد لورنس انه درس هذا الكتاب لمدة عشر سنوات ولذلك اعتبره كتاباً ليس كغيره من الكتب حتى ذكر انه بالنسبة له يمثل انجيلا (2) ولكن عند قراءته المتكررة لكتاب دوتي وجد ان هنالك جوانب معينة لم يتم ذكرها في كتابه مما دفعه الى ان يذكرها في "اعمدة الحكمة السبعة". واذا ما قمنا باجراء مقارنة بين الكتابين فسوف نكتشف وجود العديد من التشابه في بعض الافكار وياتي الاسلوب الوصفي في مقدمة اوجه التشابه بين الكتابين. اذ اكد الاثنان على تأثرهما بالصحراء والطبيعة وهذه السمة المميزة للصحراء سحرت كل الرحالة والاجانب الذين قدموا الى المنطقة العربية. من امثال كارل رزوان وجيرترود بيل ولويل توماس وجارلس دوتي والكثير من الرحالة الذين تركوا مؤلفات حول الجزيرة العربية.

ومن ناحية اخرى نلاحظ ان كلا من لورنس ودوتي تحدثا باسهاب حول العقلية العربية وسماتها المميزة والعلاقة بين البيئة التي يعيشها البدو في الصحراء وانعكاسها على عقليته وتفكيره. واكد كلاهما على نقاء العقلية العربية وثرائها بالخيال الواسع والعميق. وتتسم سعة المدارك الفكرية والخيال بسعة الافق الواسعة في الصحراء. واكد لورانس الشيء ذاته في "اعمدة الحكمة السبعة" حيث قال "اذا كان هناك تفاوت اجتماعي بين الحضري والبدوي في اسيا العربية فان هناك تشابهاً عظيماً في طرق التفكير والنشاط الروحي. ومن الوهلة الاولى نجد عندهم صفاءً غريباً وصلابة فريدة في المعتقدً(3) ويستطرد قائلا : "انهم يرون العالم في اللونين الرئيسين : الابيض والاسود وفكرهم الجازم يحتقر الشك ولا يقبل التردد الذي تسلحنا به نحن الاوربيين لقراءة شؤون ماوراء الطبيعة ولا يرضون بالقلق النفسي وهم يعرفون بكل بساطة ما هو حق وما هو باطل وماهو ايمان وماهو الحاد"(4). وبكل اختصار عالج كل من لورنس ودوتي ظواهر اجتماعية وحضارية معينة في المجتمع العربي. ولعل ما اكّده كل منهما هي الضيافة العربية والطريقة المغدقة للكرم العربي. وبالطبع هنالك تفاصيل اخرى تجمع بين هذين الكاتبين. ولكن المهم من هذا كله هو ان لورنس تأثر بكتاب دوتي واعدّه اساساً رئيساً لاعمدة الحكمة السبعة. اذ اكتشف شخصية فريدة ورحالة نموذجياً قادراً على ان يعكس تجاربه المعاشة في الجزيرة العربية بصورة ادبية. ولعل ذلك يمثل بالنسبة له الاساس الذي يسمح من خلاله التعبير عن افكاره حول العرب والجزيرة العربية. الا ان لورنس يختلف عن دوتي في بعض المحاور التي تطرق اليها في كتابه. ومن اهم هذه الاختلافات غياب المرأة. اذ لم يذكر المرأة الا تلميحاً مرة او مرتين. اما النقطة الثانية فهي الدين اذ لم يذكر لورنس الدين في "اعمدة الحكمة السبعة" الا في اشارات عابرة.

مما تقدم اصبح من الواضح ان لورنس وجد فكرة رئيسة لكتاب "اعمدة الحكمة السبعة" ووجد امامه دليلاًَ سبقه بالكتابة عن الجزيرة العربية والمجتمع العربي. فقد قدّم كتاب دوتي صورة واضحة من وجهة نظر غربية عن المجتمع العربي وعاداته وتقاليده مما ساعده كثيراً في تذّكر ما قرأه عند دوتي عندما كان في الجزيرة العربية. كما ساعده كتاب دوتي على اختيار افكار محدّدة لتكون مادة لكتابه مع اعطاء استنتاجات حول العرب وعاداتهم وتقاليدهم دون الخوض في تفاصيلها.

اما الاساس الثاني الذي استند اليه لورنس في تأليف "اعمدة الحكمة السبعة" فهو كتاب "الحرب والسلام" للكاتب الروسي تولستوي. اذ يروي الكتاب احداث حرب دارت رحاها خلال السنوات 1805 – .1818 فقد وجد في هذا الكتاب اساساً ملحميا لكتابه  واعتبر ان الثورة العربية ملحمة متكاملة تتضمن العناصر الاساسية للنمط الملحمي. وكما هو معروف ان الخاصية الاولى للملحمة هي ان البطل لا يمكن ان يكون فرداً واحداً وانما الامة كلها وهدفها ليس شخصياً وانما يخدم المجموع وان المجموعة كلها تمثّل كليّة غنيّة بذاتها ومليئة بالمعاني السامية. و لابد من الاشارة الى ان البطل الملحمي لا يعبّر عن مشاعره الشخصية الذاتية وانما يعبّر عن مشاعر المجموع. فهو في الغالب شاعر يصدح بصوته المدوّى يروي لنا الاعمال البطولية الجليلة. وطالما انه فرد يمثّل المجموع فانه يظهر لنا بكامل ايمانه بقدراته ويتّسم بوعي تام لكي يضع قواه الطبيعية في مصاف القوى التاريخية. كما يتسم بالصراحة باعتبارها احد العناصر الاساسية للبطل الملحمي فضلا عن العدل والاستقامة التي هي محور اهدافه السامية. وغالبا ما يستعبد البطل الملحمي الاستبطان ويتحلى دائما بثقة عالية بنفسه. لذلك فان الملحمة تعبّر وبكل جلاء عن مآثر البطل منذ ولادته حتى وفاته. وقد وجد لورنس هذا كله في الثورة العربية ورجالها مثل الامير فيصل وعودة ابو الطي.

ومن السمات المهمة للملحمة والتي وجدها لورنس في الثورة العربية هي السمة البطولية للاحداث. اذ تعالج الملحمة بصورة عامة موضوعاً بطولياً يرتكز على فكرة ومفاهيم وطنية وقومية فضلاً عن ان الملحمة تعالج في الغالب فكرة الحرب والدفاع المشروع عن الوطن. وهذه السمة واضحة جداً في الثورة العربية وقام لورنس بدوره بتجسيدها في كتابه.

ومن العناصر الجوهرية الاخرى للملحمة هي الاسطورة الوطنية والقومية والماضي المجيد. ففي هذا اللون الادبي العريق تشكّل الاسطورة والماضي المجيد امرين مقدّسين ضمن المقاييس الملحمية العامة. ومن الجدير بالذكر ان الماضي الملحمي منفصل تماما عن الحقب اللاحقة وذلك بحدود يتعذر اجتيازها. ويتخذ هذا الماضي العريق صورة الاساطير الوطنية والقومية وهذا عنصر تنفرد به الملحمة. فاذا كان الماضي موضوع الملحمة فان الاسطورة مصدرها والاكثر من ذلك تضع الملحمة هذا الاساس بعيداً عن التجربة الفردية وبعيدا عن اكتساب المعرفة وكذلك عن اية مبادرة شخصية لفهمها وتحليلها. وبناء على ذلك يعد العالم الملحمي منجزاً ومتكاملاً طالما يعبّر عن حدث حقيقي يرجع الى ماض عريق مكتمل بمعانيه وقيمته (5) وفضلا عن ذلك فان عالم الماضي القومي والبطولي هو في الواقع عالم الاباء والاسلاف وتختص به الملحمة دون غيرها. وينبغي ان لا يغيب عن بالنا ان الماضي بحد ذاته لا يتمتع بتلك الاهمية بل ان مضامينه تكتنف ذلك الماضي في المادة الحيوية للشعب وبطولاته.

ومن جهة اخرى تتسم الملحمة ايضاً بصفة جوهرية اخرى وهي خلوها من الجريمة والانحراف وتقيم حدودا واضحة بين الجريمة والبطولة. وبهذا السياق لا تتعدى الملحمة كونها العالم الطفولي البريء وان اي انتهاك للقيم المتعارف عليها سيؤدي لا محالة الى الانتقام الذي بدوره يؤدي الى انتقام وثأر اخر وتستمر الحالة على هذه الشاكلة (6).

لقد وجد لورنس هذه الصفات الملحمية كلها وغيرها وادخلها في "اعمدة الحكمة السبعة". وحاول لورنس ان يقدّم ملحمة على غرار "الحرب والسلام" لتولستوي لتوفر كل العناصر الاساسية المكونة للملحمة اذ وجد السمة البطولية المتمثلة بالمقاتلين العرب الاشداء ووجد ايضاً الاسطورة الوطنية والقومية والماضي والمجيد وكيف ان العرب كانوا متحمّسين للقتال بدافع وطنيتهم وقوميتهم وماضيهم المجيد.

بعد ان رسخ لورنس الاساس الموضوعاتي والاساس الملحمي لكتابه بدأ يبحث عن اساس اخر يشيد عليه "اعمدة الحكمة السبعة" فاكتشف نيتشه وفلسفته المتمثلة بارادة القوة اساسا صلدا لمؤلفه. من المعروف ان لورنس كان من المعجبين بنيتشه وفلسفته وافكاره فيما يخص المعاناة وتفوق الارادة باعتبارها قوة لا تقهر. ويتضح تأثر لورنس بفلسفة نيتشه في القصيدة الاستهلالية في اول شطر فيها اذ يقول : "لقد احببتك ولذلك جذبت بيدي هذه الشموع في الناس مسطرا ارادتي بالنجوم عبر السماء".

من هذا يبدو جليا كيف ان لورنس عزّز فكرة الارادة وقوتها منذ بداية كتابه وكيف انها صنيعة المعاناة. فقد وجد لورنس ان المعاناة في الفعل ولكن هذا الفعل دافعه الاساسي وقوته الدافعة هي الارادة. وهذا واضح عند نيتشه الذي يعد المعاناة نوعا من الاستلذاذ. فعلى الرغم من الصعوبات التي لا حصر لها التي واجهها في الجزيرة العربية ابّان اقامته فيها الا ان مقاومته للصعوبات وارادته كانت تمنحه القوة والشجاعة لمواصلة عمله. واراد لورنس في الجزيرة العربية ان يختبر قوة ارادته وارادة قوته وقدرته على المعاناة الجسدية والنفسية على الرغم من ان هذه الارادة رسخت عنده الصراع بين الجسد والروح.

وحسب اعتقاده ان نيتشه يؤكد على معاناة  الانسان  عندما يفكر بطريقة افضل ويتصرف بشكل جيد ليقوى على نقاط ضعفه الجسدية. ويعترف لورنس ان هذه الارادة اتعبته حتى انه بدأ في "اعمدة الحكمة السبعة" يعبّر عن تعبه وضعفه وسوء صحته ولكن على الرغم من ذلك كان يفكر بصورة جيدة. والاهم من ذلك  ان نظرية نيتشه امدته بالكثير بغية تحقيق طموحاته ويتطلب ذلك ان يضع ارادته نصب عينه وان يسير وراءها بغض النظر مهما يعترض طريقة. وفعلا تبني فلسفة  نيتشة ولكن بدون حدود مما جعلته يعاني اكثر لانه افرط في هذه الفلسفة. والسؤال الذي يطرح نفسه هل  نجح لورنس  فعلاً في تبني فلسفة نيتشه ونقلها الى واقع معيش؟ في الحقيقة, بذل لورنس كل مافي وسعه من ان يضع فلسفة نيتشه موضع التنفيذ وحاول ان يتقبل المعاناة التي واجهها وتحملها ايضاً الا انه تجاهل حقيقة هي ان لطاقات الإنسان وارادته حدوداً لابد من ان يبلغها ولا يستطيع تجاوزها لانها سوف تكلفه الكثير وهذا ما حدث للورنس بصورة فعلية. اذ انه بالغ في اتباع فلسفة نيتشه مما سببت له صراعاً نفسياً عنيفاً بدأ يعبّر عن ذلك بكل وضوح في كتابه حتى انه ارتكب اكثر من جريمة قتل نتيجة اتباع هذه الفلسفة اذ قتل (حامد) وهي حادثة تركت اثارها السلبية على نفسية لورنس. ويمكننا ان نقرأ ما سطره لورنس حول هذه الحادثة في اعمدة الحكمة السبعة. "كان حامد امامي في واد ضيق  وكان الوادي يضيق كلما توغلنا داخله ورأيت الطحالب والحشائش تكسو جداريه وعندما اصبحت المسافة بين الواديين ضيقة اكثر اوقفت حامد واعطيته مهلة لا تتجاوز الدقائق القليلة التي امضاها يتدحرج على الارض باكياً ثم امرته ان يقف على قدميه واطلقت النار على صدره فسقط على الارض فوراً. واخذ يتدحرج حتى اصبح على مقربة مني وبيد مرتجفة اطلقت عليه الرصاص مرة ثانية فحطمت رصاصتي رسغه فاخذ يصبح مستغيثاً ولكن بصوت اقل ارتفاعاً. وكان مستلقياً على ظهره فانحنيت واطلقت عليه للمرة الاخيرة طلقة سددتها من تحت فكه الى رقبته فارتعش جسده ثم همد (7) تركت هذه الحادثة اثاراً سلبية مدمرة لدى لورنس وبدات معاناته تتفاقم واصبح يعاني من صداع نفسي عنيف اذ دفعته ارادته الى القتل ولكن هل  يعدّ ذلك انتصاراًعلى الانسانية؟ وتمرض من بعدها حتى انه اصيب بالكآبة والانهيار العصبي.

ومن الاهمية بمكان ان حادثة درعا التي تركت اثارها المدمرة والمستديمة على لورنس كان لها الاثر العميق في تدمير ارادته. في الحقيقة لم تصب ارادته باي خدش قبل حادثة درعا ولكن بعدها شعر بان ارادته انثلمت واخذ درسا منها مفاده وجود هوة كبيرة بين النظرية والتطبيق. اذ كان يعتقد ان ارادته لا تلين ولا تقهر وانها قادره على المضي حتى اخر لحظة في عمله متناسيا ان للقوى الجسمية حدوداً لا يمكن تجاوزها الا بثمن غال. حتى ان بدأ يعبّر عن عجزه وربما انتهاء دوره (8) حتى ان هذه السلسلة من الاحداث والمعاناة الجسدية والنفسية رمته اخيرا في احضان العدمية التي ضاعفت من معاناته.

وهكذا لاحظنا كيف ان لورنس تأثر بفلسفة نيتشه تأثراً كبيراً ولكنه لم يفلح في تطبيقها كلياً. وبهذا يكون قد حقق من الناحية الادبية اساسا ثالثا لاعمدة الحكمة السبعة. بقي له الاساس الرابع لكتابه والمتمثل برواية "الحوت الابيض" او "موبي ديك" للكاتب الامريكي هرمان ميلفيل كما تذكر لنا المصادر ان لورنس كان مولعا بهذه الرواية ووصفها بانها رواية عملاقة وجبارة Titanic

وكان يطمح ان يؤلف كتابا يضاهي رواية موبي ديك. في الحقيقة ساعده كتاب ميلفيل ليقدم كتاباً يحمل صبغة ادبية. اذ لابد  لرواية ان يكون لها بطل وراوي وشخصيات مع وجود العناصر الاساسية المكونة للرواية. في هذه الرواية اكتشف لورنس دور ميلفيل في "موبي ديك" ودور لورنس راوياً في القصة وشخصية ايضاً وربما بطلاً. ولا تخلو رواية ميلفيل من العناصر الملحمية اذ انها تتضمن بعضاً من عناصرها على الرغم من انها تعد ملحمة استبطانية. وتتضمن رواية "موبي ديك" عنصر الصراع بين الشخصية الرئيسة ايهاب ضد الحوت الابيض. وبهذا يكون ايهاب قد اكتسب صفات البطل الملحمي الذي يصارع قوى خارقة واسطورية ورأى لورنس في هذا الصراع ولو على المستوى الرمزي انه صراع مشابه للصراع الموجود في الجزيرة العربية. وهذه نقطة تشابه مهمة بين الروايتين. اما النقطة الثانية فانها تتمثّل في الجانب الوثائقي الذي قدمه كل من ميلفيل ولورنس. اذ قدم ميفيل في "موبي ديك" تفاصيل كثيرة عن الحيتان ومواسم هجرتها وحركتها والتفاصيل الجغرافية لاماكن تواجدها. ومن جهته قدم لورنس في "اعمدة الحكمة السبعة" تفاصيل كثيرة عن العرب  وتاريخهم واصلهم والجزيرة العربية.

والنقطة الثالثة التي تجمع بين الكتابين هي انهما غير منجزين أي ان كلاً من " موبي ديك" و"اعمدة الحكمة السبعة" روايتان غير منجزتين لانهما انتهيا الى  نقطة يتوقع القارئ وجود المزيد من التفاصيل لما حدث بعد النقطة التي انتهت اليها الرواية. ويبقى القارئ يتساءل عما حدث بعد ذلك. وهذا يعني ان القارئ كان يتوقع ان يتم اعلامه بما حدث بعد مغادرة لورنس المنطقة العربية ويتوقع ايضا ما حدث بعد ان تغلب الحوت الابيض على ايهاب. وتعد رواية  "موبي ديك" غير منجزة بالمعنى الذي يكون فيه الحوت قوة لا تقهر وتبقى لغزا يتجاوز ادراكه حدود الفهم البشري. وهنالك نقطة تشابه اخرى بين الروايتين تتمثل بوجود صراع فيهما. ففي "موبي ديك"  صراع مع قوى لا تقهر وهي القوى المتمثلة بالحوت الابيض ولم يستطيع ايهاب ان يقهر هذه القوة الرمزية الخيالية. واما  لورنس فلم يفلح في حربه اذ لم يستطيع العرب ان يحصلوا على استقلالهم كما ذكر ذلك. والنقطة الاخرى التي تجمع بين الروايتين هي استعمال الارادة فقد استعملها ايهاب في مطاردة للحوت ثلاثة ايام ولم تحقق ارادته النجاح. وهذا ينطبق على لورنس الذي قادته ارادته الى الفشل ومن ثم الى العدم ولم يتحقق ما كان يصبو اليه. ولعل النقطة الاخرى التي تجمع  بين الروايتين هي المكان او الفضاء الروائي المفتوح والواسع. في "موبي ديك" نجد الميحط بينما في "اعمدة الحكمة السبعة" نجد الصحراء وكل من  المكانين يعتبر مصدر خيال واسع جدا والتشابه بينهما قائم فسعة الصحراء تساوي سبة المحيط وزرقة السماء واحدة في الروايتين. ثم خلو الروايتين من النساء اذ لا وجود للنساء في رواية "موبي ديك" مثلما هي الحال في "اعمدة الحكمة السبعة" فالمجتمع الذي تطرق اليه في الرواية لم يكن للنساء ذكر فيه والشيء ذاته بالنسبة لطاقم السفينة لا وجود لامراة واحدة على متنها. وربما الوحشة التي يشعر بها الانسان في البحر هي ذاتها في الصحراء. واخيرا ينبغي ذكر نقطة مهمة اخرى تتمثل بالعلاقة بين الانسان والطبيعة اذ ان حجم الانسان صغير جداً  اذا ما قورن بحجم الصحراء وكذا الحال بالنسبة لايهاب في المحيط. ولكن على الرغم من صغر حجم الانسان الا ان قدرته العقلية واسعة وكذلك ارادته فهو ضعيف بجسمه ولكنه قوي بعقله وارادته.

مما تقدم يتبين لنا اوجه التشابه بين "موبي ديك" من جهة و"اعمدة الحكمة السبعة" من جهة اخرى ولعل لورنس حقق نجاحا عندما اعتمد هذه الرواية بمضامينها ورمزيتها اساسا اخر لكتابه. اذ هناك العناصر الرمزية التي تتمثل بالقوى الخفية وغير المرئية وصراع الانسان معها وهنالك الغاز في الطبيعة يصعب على الانسان اختراقها ومعرفة كنهها. ويعكس لنا ذلك ايضا ان الانسان يصارع القوى القوية هذه على الرغم من نتائجها وعلى الرغم من معرفته او عدم معرفته بالتغلب عليها. وربما يعرف الانسان ان لم يكن متاكداً تماماً انه غير قادر على التغلب على هذه القوى ولكنه يواصل كفاحه بتأثير الارادة والتصميم. وعلى كل حال استطاع لورنس ان يكتشف الاساس الرابع والاخير لبناء صرحه الادبي "اعمدة الحكمة السبعة". 

وباختصار يمكننا القول ان لورنس استطاع ان يجد في كل من الكتب الاربعة الوارد ذكرها اساساً ادبياً يقيم عليه ركناً من اركان كتابه. وكما ذكرنا وجد عند جارلس  دوتي المجتمع العربي أي انه وجد صورة حية لهذا المجتمع واعده موضوعا لكتابه  مضيفاً اليه ملاحظاته الخاصة به. ومكّنه كتاب دوتي من ان يكون الشخصية الرئيسة في كتاب "اعمدة الحكمة السبعة". اما في كتاب "الحرب والسلام" فوجد ملحمة يمكن ان تنطبق على الجزيرة العربية. فالحربان متشابهتان ويمكن ان تكون ملحمة جاهزة في كتابه. وبعد ذلك اقام هذين الاساسين على اساس فلسفي متمثل بفلسفة نيتشه في ارادة القوة وقام بتطبيق هذه الفلسفة دون معرفته بمقدار نجاحها. واخيرا وجد في "موبي ديك" ارادة عمياء لا تقود الا الى  الموت والفشل.

 

الدكتور حسيب  الياس حديد

........................

 (1) T.E. Lawrence : Sever Pillars of Wisdom, Jonathan Cape, London, 1943, P. 565

(2) T.E. Lawrence : Introduction au livre de Doughty P. 21

(3)   T.E. Lawrence : op. cit. p. 36

(4 ) Ibid

(5)  Mikhail Bakhtine : Epopée et roman, Recherche internationale à la lumière marxisisme, No. 76 -3e trimestre, 1973. P 14

(6)  George Lukacs : La theorie du roman, Traduit de I'allemand par Jean Clairevoye, Edition, Gouthier, Neuwied am Rhein, Berlin – Spandu, 1973 P. 54

(7) T.E. Lawrence : op. oit. P. 187

(8)    T.E.Lawrence: Ibid. P. 580

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم