صحيفة المثقف

الحزب الشيوعي العراقي وفجوة الأجيال (1-2)

قاسم حسين صالحبدءا، انا كنت شيوعيا، وسجنت سنتين لأنني رفضت طلب رئيس المجلس العرفي العسكري الأول (شمس الدين عبد الله) سبّ الحزب الشيوعي، مع ان اكثر من مئة من رفاقي فعلوا ذلك واطلق سراحهم. وكنت وما زلت صديقا محبا للحزب.. دعيت من قياداته لألقاء محاضرات في مقره، وحظيت باكثر من تكريم منهم. لكن غياب دوره في تظاهرات واحد اكتوبر/تشرين اول 2019 أثار لوم، عتب، استغراب، استياء، الكثير من محبيه، وأدانة وسخرية وتعليقات غير مهذبة من آخرين.وما يهمنا هنا ان موقفه هذا كشف عن حقيقة ان بين الحزب وقطاع الشباب فجوة كبيرة.

ولأن من عادتي ان استطلع الرأي عبر وسائل التواصل الاجتماعي في احداث كهذه، ولأن الحزب الشيوعي بقي متفرجا على المشهد وكأنه ينتظر ما ستؤول اليه الأحداث، فقد كتبت الآتي:

(تساؤل الى الحزب الشيوعي وقوى اليسار:

في ثورات الشعوب، في انتفاضات المقهورين، تكون القوى اليسارية في المقدمة.. فلماذا اختفت في تظاهرات سالت فيها دماء الشهداء في واحد اكتوبر، تشرين اول؟)

كانت الغالبية المطلقة قد ادانت هذا الموقف.. اليكم نماذج منها:

- ليس للقوى اليسارية جمهور من فئة الشباب، ولا تمتلك قاعدة جماهيرية،

- مستفيدون وعندهم حصة بالحكومة.. وبعيدون عن الفقراء،

- باعوا المباديء واشتروا الكراسي،

- دعهم لتنظيراتهم دكتور فهم بعيدون عنّا نحن الشباب،

- لم تعد لهم مكانة كسابق عهدهم،

- الحزب غيّر حتى ايديولوجيته، فقد راينا قيادات شيوعية تمتدح اميركا، والكثير منهم يمدحون تيارات اسلامية راديكالية،

- لأنهم تحت خيمة سائرون،

- أليس الذي قتل شيوعيا؟ ام ان هذا لا يكفي؟

- عيب من السيد.. خاف يزعل عليهم!.

شهادة للتاريخ

منذ بداية التظاهرات في شباط 2011، شارك الحزب فيها وقام هو بتنظيم عدد منها. وفي اضخم تظاهرة مليونية عام 2014 كان للحزب دور رئيس شهدته بنفسي حيث كنت يومها مشاركا في التظاهرة بساحة التحرير.وكانت قيادات من الحزب تقف على المنصة ولحظة رأوني مدوا ايديهم لي لاصعد معهم والقي كلمة.. وحين نزلنا توجهت كوادره وانصاره نحو جسر الجمهورية وحالت قوى الأمن دون عبورنا.. واستمر الحزب ينظّم ويشارك في تظاهرات الاحتجاج بعضها كانت تضم كوادره ومحبيه فقط.. رغم مخاطر تعرضوا لها وتهديدات تحدوها.. الأمر الذي اثار الاستغراب كيف لا يشارك الحزب الشيوعي في أجرا وأشجع واخطر تظاهرة لا تقف وراءها جهة سياسية.. بل جماهير شبابية في عشر محافظات تجمعهم .. صرخة مقهورين؟!!

مشكلة الحزب.. الماركسية الكلاسيكية

ثمة تطبيقان للماركسية: المرونة في تطبيق المباديء، والتطبيق النصي لها.. وكان الحزب الشيوعي العراقي من هذا النوع، واليكم الدليل.

في العام 2004، كنت اتمشى مع صديق في ساحة الاندلس فصرنا قريبين من مبنى مقر الحزب الشيوعي العراقي، فقال لي: الا تحن الى جماعتك أيام زمان؟ قلت: بلى والله احنّ. ودخلنا المقر .

كانت قاعة الجلوس أشبه بمقهى شعبية.. كرويتات بسيطة مفروشة بحصران من الخوص، فقلت في نفسي: يا سبحان الله، مكتوب على البرولتاريا ان تجلس على حصران الخوص من زمن ماركس الى يوم يبعثون . وحصل حين جلست، ان شغّلت الذاكرة فلما" قديما اليكم منه هذه اللقطة.

كنّا معصوبي الأعين وواقفين وواقفين فجرا بمكان لا نعرفه في مدينة الناصرية، فجاء دوري بأن سألني أحدهم (تبين بعد ذلك أنه نعيم حداد) قائلا": هو انت فلان الفلاني؟ اجبت: نعم . فصفعني بيده اليمنى ادار بها وجهي الى "اليسار!". وتابع يسأل.. ويسب ويشتم، ثم جرى ما جرى!.

رموني في غرفة صغيرة، فجيء بشاب أسمر نحيل الجسم، كان ظهره لوحة سوريالية من الخطوط السود الملطخة بالدم الاحمر . وكان فاقد الوعي، أو ربما في نفسه الاخير، فتركت ما بي واخذت انقّط الماء بفمه وأنعش قلبه بتمارين تعلمتها من الرياضة . كان هذا الشاب هو القاص البصراوي المعروف " محمد خضير" المعلّم في الناصرية حينذاك .

لمحني صديقي الذي رأى الدمعة تسقط وهو يأتي لي باستكان الشاي، فعلّق قائلا" (ها يبين أخذتك الدنيا لبعيد، بس تريد الصدك: احلى شي سويته أنك طلّقت السياسة وتزوجت العلم) .

ونأتي الى بيت القصيد، فقد نظرت الى أعلى الجدار فوق رأس "القهوجي " فرأيت صورا" كبيرة لكل من ماركس وانجلس ولينين، وكأنهم يحّيون الضيوف القادمين الى المقر . تغير مزاجي تماما" فطلبت من صديقي ان يأتي لي بـ "الرفيق" المسؤول.. فجاء .

قلت له: يبدو انكم ما تزالون تعيشون مزاج الخمسينيات في وسائل تثقيفكم، وان المسؤولين عن الثقافة عندكم من الذين صار المستقبل وراءهم، اعني، تجاوزت اعمارهم الخمسين والستين، وانهم ليسوا على دراية بأن النظام السابق حكم العراق (35) سنة، وان جيلا" عراقيا" كاملا" كان لايعرف عن الشيوعيه شيئا" الا كونها "ضد الدين"، وأن هذا الجيل يشكّل أكثر من نصف الشعب العراقي .

تساءل بشيء من عدم الرضا: خير أستاذ..؟

قلت له: لو ان شابا"من هذا الجيل جاء وجلس هنا وسألك: من هذا وذاك؟ ستجيبه: هذا ماركس العظيم .. الماني واضع النظرية الماركسية، وذاك لينين الخالد.. روسي ابو الثورة البلشفيه، وتظل تشرح وتنّظّر له عن افكارهم وشعارهم " يا عمال العالم اتحدوا " فهل هذا أفضل ام انكم لو وضعتم صور: فهد وسلام عادل وجمال الحيدري.. . وحين يسألك فتجيبه بأن هؤلاء قادة الحزب الشيوعي العراقي الذين اعدموا من اجل ان يكون وطنك حرا"، وان تكونوا انتم جيل الشباب الذين ضاعت أعماركم في الحروب والكوارث .. تكونوا سعداء مرفهين؟.

ايهما اوقع بالله عليك، ماركس الالماني ولينين الروسي (الذي قد يخجل الشاب ان يقول لك: وما شأني بهما وأنا الخريج العاطل في بلد الخيرات) ام فهد وسلام عادل وجمال الحيدري، الذين ضحّوا بحياتهم من اجل العراق والعراقيين، وكانوا لمّة واحدة من السنّة والشيعة والعرب والكورد والمسلمين والمسيحيين .. ؟ .

أسفي انكم ما تزالون لا تجيدون فن الدعاية، واسفي انكم تجيدون هضم الثقافة لكنكم لا تجيدون فن التثقيف .

ربت بيده على كتفي وقال: دكتور.. الأسبوع القادم سيكون الذي تريده.

وحصل.. استبدلوا الصور.. لكن الذي لم يحصل انهم لم يتبنوا الشباب رغم اننا اسدينا لهم النصيحة قبل خمسة عشر عاما، وكررتها عليهم يوم وجدت جمهور المحاضرة التي قدمتها في مقره كانوا بالمطلق من الذين تجاوزوا الخمسينات.. اي من الجيل الأقل حجما في المجتمع ومن الذين وضعوا المستقبل وراء ظهورهم.

اكيد ان للحزب وجهة نظر في موقفه من تظاهرات واحد اكتوبر/تشرين.. غير البيان الذي اصدره المكتب السياسي.. واكيد ان لقيادته رؤيتها السياسية، لكن المؤكد ان الفجوة بينه وبين جيل الشباب قد ازدادت الآن عمقا وبعدا.. وأظن لو ان فهد وسلام عادل وجمال الحيدري وأبو سعيد كانوا شهدوا ما حصل.. لقالوا لهم: ما لهذا الموقف استشهدنا!

 

أ. د. قاسم حسين صالح

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم