صحيفة المثقف

أطياف الدكتورة ع. ث (مقامة)

امين صباح كبةغيّرت السماء ملابسها متثاقلة لاستقبال قمر عجوز يوشك أن يموت، وارتدت علياء ملابس العيادة لقرب وفود مرضاها بعد أن أفنت يومها بين المستشفى والأعمال المنزلية وواجبات ابنتها التي التحقت بالمدرسة الابتدائية مؤخرًا، من خلف زجاج النافذة المطلة على الشارع لمحت كلبًا عجوزًا يجرّ الارض لاهثًا، وعصافيرًا تتعارك وهي تطير، وضفادعَ تقفز وتنقنق هاذية وراء رجل صبغ خصلاته البيضاء :أنت تشيخ، أنت تشيخ.عندها تمتمت :

(هذا العالم يتألم-

حتى الأعشاب تقول ذلك وهي تنحني عند مغيب الشمس).

اخرجت شفرتها الحادّة لتشقّ جزءا من لثة المريض، وضغطت بقوة محركّة أصابعها ليخرج مزيج الدم والقيح المتمركز فيها، هيجّها تراشق صرخاته فأنهت العملية بسرعة بعد أن نظّفت وجهه وسمحت له بالانصراف،

انتفض دماغها كانتفاضة الناس في ساحة التحرير في اليومين الأخيرين وتطايرت من رأسها الأبخرة كتطاير الغاز المسيل للدموع وتثاءبت مهزوزة الحركة متعثرة بما سقط من أدواتها.

(لساعات كاملة-أحيانا لأيام-تهيمن حالة من السّكينة تبدو مقفرة حتى من حفيف الكلمات

ثم تبدأ بافراز علاماتها هنا وهناك.

في غرف أكثر من موبوءة

يجب الإبقاء على الذاكرة بأبوابها المفتوحة على البحر).

استسلمت لهذيانها فرفست باب ذاكرتها الموصدة، وعند عتبة الباب داهمها جمع من أقرانها عندما كانت في الابتدائية، تطوّقوا حولها ثم طافوا وردّدوا أناشيدًا سخروا فيها من بشرتها السمراء، وشعرها الخشن وملابسها البسيطة المتهرئة التي استعارتها من جارتها، تفرّ منهم فتمسكها يد مدرسّتها في المتوسطة وهي توبّخها بحزم:مكانج بالبيت، أگصها لإيدي إذا نجحتي.وجارها ذو العينين الزائغتين وتحرّشه المستمر وعباراته السامّة:

دخلّيني أمد أيدي وكافي ثگل هو نهايتج تنامين جوه رجال.

زفرت فالتهب الهواء، وحلّقت كفراشة تطير في عالم بدون أمل، وحطّت على كتف والدها وهو يجرّ جثث أخوتها الممزقة بسبب الانفجار، واختفت مرتجفة خلف عباءة أمها وهي تسير لاطمة وجهها بعد أن قتل زوجها في الحروب الطائفية، نفّضت عن نفسها تراب تلك الأيام واستذكرت شغفها وأصرارها على دخول كلية طب الأسنان رغم محاولات أقاربها على اجبارها ترك الدراسة لتتزوج: (لأن المرة متحتاج تشتغل وتدرس، وما ألها غير رجلها، ومكانها البيت).

تتذكر أول مختبر نحت، وأول طقم في مختبر الصناعة، أول حشوة وضعتها في سن صناعي، ارتجافها عند إعطاء أول حقنة بنج، محاولاتها في السيطرة على التورباين، أول جملة سمعتها من من الدكتورة المشرفة:يجوز شغلج حلو، بس ما أدري ليش محبيتج، وأول مقابلة عمل في إحدى المراكز والتي اقتصرت على جملة واحدة قالها المدير باشمئزاز وتذمر:

:مكتوب بالاعلان أنثى حسنة المظهر، وأكيد مو أنتِ.

أظلمت الغرفة بعد أن سقط فانوس أحلامها عندما تفاجئت بأنها لم تقبل معيدة رغم أنها كانت الأولى على دفعتها، تذكرت مكانها الذي باعه العميد لشخص آخر، وسنواتها التي أهدرتها في المراكز الحكومية النائية، وفترة التدرج الطبي التي عانت خلالها شتى الاهانات والشتائم بسبب المرضى وسلوكهم.

علا صوت الرصاص وشاهدت الجموع الغاضبة وهي تندفع نحوه، تصفّحت هاتفها ثم التلفاز فشاهدت مجموعة من الضفادع قد جلست بمؤخراتها المتراصة وبدلاتها الأنيقة مصدرة نقيقها المزعج نفسه، ثم أصغت لخطابات الخنازير الحادّة وهي تعتلي المنابر والمنصّات لتحثّ الناس على الصبر تارة، وتتوعدهم بجهنم تارة .

قالت وقد ضربت كفا بكف :لا إله إلا الله شوكت الخنازير نظفت وصارت تخطب؟.

خرجت من عيادتها إلى الشارع وكان مزدحمًا يفيض بالأطياف، أطياف صامتة وأخرى تهتف بحرقة تطير متمايلة في الأفق ثم تهبط وتنحسر مستترة بالأرصفة والبنايات، تتلون السماء بالأزرق الداكن مرة وبالبنفسجي مرة ثم تتلوث بغيوم رمادية تمطر دمًا تفيض به الشوارع، وتتفرق الغيوم معلنة عودة الظلام من جديد.

يتقدم طيفُ طليقها فتتذكر موعدهما الأول، وجمله الغير مترابطة، وابتسامته الخجولة، (كان شحّاذا أعاد ترتيب النّجوم المعطلة وراء عينيه)، تبحلق بالطيف ضاحكة بسذاجة على قلبها الذي دمّرته بأحلام الحب الصّادق، وتسترجع أصوات أخواته وهنّ يصفقن وينشدن ساخرات في يوم زفافها:أخذنا شمعة بيتكم، والفلوس متفيدكم.

تتذكر خيانته لها مع مساعدته الشابّة في العيادة. ويرنّ صوت خالتها وهي تزجرها موبخة:وشكو بيها خلي يخونج، هو بالنهاية يرجع لحضنج.

تلمح طيف شجر *وقد خرج من إحدى الروايات التي عكفت على قراءتها، وهي تسترق النظر إلى الأطياف الأخرى تتحدث معهم وترحّب بهم وتسمع قصصهم قبل أن يموتوا ويصبحوا أشباحا مثلها، فاجأؤها بابنتها التي لم ترها منذ اليوم الذي ضربتها فيه ثم وجدتها ممددة على الأرض بدون حراك.

ثم لمحت طيفًا أخر لاحق جمعا من الناس ؛أولادوبنات، رجال ونساء، المسنون تسندهم عصيهم، والمقعدون تحملهم أكتاف القادرين، رضع على صدور الأمهات، مزارعون وصيادون وحدادون يشقّون الظلام بمصابيحهم وشعلهم ثم يتساقطون مخضبين بدمائهم فتنطفئ القناديل وتخمد النيران.ثم تلمح طيفا همس في أذنها (آمنة تصاحب النجوم، نورها شوق الوصل والتلاقي، ونارها عذاب الفراق)، ثم تلمح طيف آمنة **وقد تربّع على الرصيف، لم تعد تبكي فقد جفّت من عينيها الدموع، ولم تعد تخبز في مطبخ السلطان، تصغي إلى النجوم (وتُحدّث كل نجم على حدة ثم تحدّثها مجتمعة، تعيد عليها الحكاية من أولها:في البدء كنت أخاف البحر..كنت صغيرة خضراء أجهل الحياة، ألثغ في الكلام، ولا أخاف إلا البحر...).

تخطو مسرعة فتداهمها عصافير كثيرة، فتتبعتها حتى ألفت طيف بنت عامر*** (فحكت لها عن جارتها التي ماتت، وعن أملها بعودة الأبن المهاجر، وعن الأشجار التي زرعتها وأثمرت، وعن عجائب شجرة النارنج التي لا تثمر حتى تمسحها بيدها)، وعن عينها الصحيحة التي لاتميّز غير الأشباح، ثم تراها وهي تُحمل على تابوتها الملفوف بالأردية، وتقفز من النعش وقد عادت إلى صباها تلعب بالدمى، تغنّي وصديقاتها للدمى فتغني الدمى لهن، تحدّق بعلياء وهي تعبث بعقد الفلّ، ثم تدندن بعضا من الأهازيج التي نظمتها النساء في أبيها:

(عند العصر عاينت شيفة، محروز عامر ود شريفة).وتختفي.

تضرب الريح طبولها فتتحرك معها الأطياف هائجة، لسعتها برودة الليل، فانكمشت متحركة ببطئ، ولمحت طيفا منزويا ميّزته من شعره الأحمر، وأصغت إلى حكاياته عن ولعه بالأحذية والأشياء الجامدة: (لأن الجوامد مسالمة وكتومة، وتفضّل الابتعاد عن الأضواء..لأن الجوامد عاجزة عن الإحساس بالوجع..لأن الجوامد لايمكن أن تكون أبدًا متكبرة أو أنانية أو متأففة، بل هي دائما تحت رحمة المخلوقات الحيّة التي تستخدمها، مهما حدث تظلّ صبورة ومتسامحة.وعندما تتكسر أو تعطل أو تبلى، لا تتوقع من الكائنات الحية أن تشفق عليها أو تندب خسارتها.جلّ ما تفعله هو الاختفاء بلباقة وخفر).

يحكي لها عن ماكنة الخياطة، وعن جرجرة الجنود لوالده على ركبتيه وقتله، وعن اغتصاب والدته وقتلها وعن مذابح الأرمن، وعن تنقلاته بين حلب والقدس ودير ياسين وبيروت، عن بنته الوسطى التي ماتت بعد أن ابتلعت إبرة الخياطة، وعن القلادة الفولاذية التي أخذها عن أمه والتي احتفظت فيها بتذكارات من شعر أولادها، وعن بئر جدته المسكونة بالأشباح .يتركها طيف سيرون صرّافيان**** محركا شعره الأحمر فتهتف فيه قبل أن يتداعى: (في صباح ما بعد موتي

سنجلس في المقاهي

لكنني لن أكون هناك لن أكون).

ثم تقترب من النهر فتلمح قسمت***** (ماشية على عجالة وبصحبتها طفلة في الثانية من عمرها وطفل رضيع.خلعت نعليها و من ثم عباءتها لتكشف عن بطنها المنفوخ خلف دشداشتها البازة، وبادرت ببساطة وسرعة إلى إلقاء الرضيع والطفلة ثم بنفسها).ويرافقها شبح الملّا غلام وزوجته وهو يروي حكاية الكرد الفيليين ومعاناتهم وتقول زوجته مستنكرة وقد قطّبت حاجبيها: (إنها ليست سوى قسمت!، ما من داع للخوف، متى كانت المسكينة مؤذية في حياتها لتؤذي في مماتها).

تتركهم فترى الأطياف مجتمعة حول النهر وقد أشعلت الشموع مرددة:

(صوت من هذا المتردد في الأعالي؟، أين دفاتره وأين الميزان؟)، من في الشدة؟، ومن في الحزن؟، ومن الذي ينزلق وحيدا من عزلته؟ من المطّلع على خبايا النفوس؟ أين كتبه ؟وهل دوّن كل شيئ؟.

وتسمع طيف عبد القادر الجيلاني وقد خرج من ضريحه منشدا:

(أضحى الزّمان كحلّةٍ مرموقةٍ

نزهو ونحن لها الطّراز المُذهبُ

أفلت شموس الأولين وشمسنا

أبدًا على فلك العُلا لا تغربُ).

 ثم تلمح من بينهم طيف والدها وقد حمل رؤوس أخوتها وعلى وجهه شبح ابتسامة، وتلمح طيف بولي ******وهو يضحك ثم يداهمها ويقول:ألم أخبركم أن الأرواح التي رأيتها كانت حقيقية؟.

فتتركها وتركض منسحبة نحو عيادتها ثم تضمحل مختفية مع الأطياف.

خاتمة

كان ذلك في الساعة السابعة من صباح يوم الخميس الثالث من أكتوبر من عام ٢٠١٩ميلادية، اليوم الثالث لبدء مظاهرات التحرير، حيث عثر على جثة الدكتورة علياء ثابت مقابل عيادتها الواقعة في منطقة السعدون وقد وجدت وآثار الموت على وجهها وهي غارقة في دمائها إثر إصابتها برصاصات طائشة أثناء خروجها من العيادة.

 

أمين صباح كبة

.....................

مقامة: أطياف الدكتورة ع.ث (من وحي رواية أطياف لرضوى عاشور)

*أطياف رضوى عاشور

**سراج رضوى عاشور

***نارنجة جوخة الحارثي

**** بنت الخيّاطة جمانة حداد

***** قسمت حوراء النداوي

****** بولي غراي شخصية من مسلسل peaky blinders لستيڤن نايت

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم