صحيفة المثقف

تورط تركيا في المستنقع السوري.. إلى أين!

بكر السباتينتستمر العمليات العسكرية التركية شرق الفرات وسط تضارب في المواقف الدولية إزاءها.. فقد أعلنت وزارة الدفاع التركية يوم أمس الجمعة، القضاء على 219 عضوا لحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية منذ بدء عملية “نبع السلام” العسكرية في شمال سوريا، في حين قتل ستة أتراك وأصيب ستة عشر آخرون جراء سقوط قذيفة هاون أطلقت من الجانب السوري على مركز مدينة أقجة قلعة الحدودية التركية حسب البيانات التركية.

وفي سياق متصل أعلن كل من، جبهة العمل الوطني لأكراد سوريا، وتجمع السوريين الأكراد الأحرار، عن دعمهما لعملية “نبع السلام” التي أطلقتها القوات التركية والجيش الوطني السوري شرقي نهر الفرات.

جاء ذلك في بيان مكتوب بشأن العملية العسكرية شمالي سوريا ضد قوات سوريا الديمقراطية الكردية متهمة إياها بممارسة الظلم في حق الشعب السوري من العرب والأكراد، وبأنه يجند الأطفال والشبان في صفوفه تحقيقاً لغايات خبيثة في المنطقة، مشيراً إلى أنهم أجبروا العديد من السكان على ترك منازلهم في المدن التي احتلوها، بينما تم اعتقال التنظيم لكثير من الأكراد وممارسته لانتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة.

بالمقابل قالت قوات سوريا الديمقراطية الكردية إن الضربات الجوية والقصف التركي خلَّف مقتل تسعة مدنيين في شمالي شرقي سوريا منذ أن بدأت أنقرة هجومها في المنطقة، كما أعلنت عن مقتل اثنين وعشرين من مقاتلي المليشيات التابعة لتركيا وخمسة جنود أتراك وتدمير خمس آليات تابعة للجيش التركي.

وقد توعد الأكراد بالرد على عملية الأتراك العسكرية الجديدة بـ "حرب شاملة". وفي محادثة مع "نيزافيسيمايا غازيتا"، أكد عضو المؤتمر الوطني الكردي، فرحات باتييف، أن قوات كردستان السورية ليس لديها خيار سوى الدفاع. ووفقا له، فإن مهمة القيادة التركية هي احتلال الأراضي من محافظة إدلب إلى محافظة دير الزور. و"هذا تكرار لقصة قبرص، التي تم تقسيمها إلى الجمهورية التركية لشمال قبرص وقبرص نفسها"، وقال لـ"نيزافيسيمايا غازيتا": "في حالتنا، الحديث يدور عن إنشاء جمهورية شمال سوريا التركية".

وقد دفعت العملية العسكرية في الشمال السوري عشرات آلاف الأسر إلى النزوح من منازلهم، وقالت مصادر أهلية أن عدد كبير من الأسر باتت بلا مأوى وتمكث بالعراء وإن أعداد النازحين تزداد بشكل كبير ما ينذر بكارثة إنسانية خطيرة.

إن دخول تركيا الأراضي السورية عسكرياً لم يكن اعتباطياً فقد تهيأت له تركيا جيداً، ويجيء ذلك لعدة أهداف تتجلى فيما يلي:

أولاً: ضرب الأكراد وعمل مناطق آمنه لسد منافذ الدعم اللوجستي إلى المنظمات الإرهابية كداعش والحزب العمالي التركي المتمركز في تلك المناطق المحاذية للحدود التركية السورية إلى جانب القوات السورية الديمقراطية الكردية.

ثانياً: إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وتحديداً منطقة العمليات العسكرية التي تضم قرى كثيرين منهم، حيث غادروها بسبب الحرب الأهلية السورية، وخاصة أنهم باتوا يحرجون موقف أردوغان الداخلي والإقليمي.

ثالثاً: وبناءً على تحقيق الهدفين السابقين، يتمكن حزب التنمية والعدالة ممثلاً برئيسه رجب طيب أردوغان من استعادة شعبيته في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وخاصة أن ما يقلق الحزب هو بروز منافسين في المعارضة التركية ومنشقين من داخل الحزب نفسه، باتوا يطرحون معضلة اللاجئين كأحد أخطاء الرئيس أردوغان، لذلك يسعى الأخير بسرعة لسحب هذه الورقة وتحويلها لصالحه.

رابعاً: وهناك سبب آخر تجتمع عليه كل من إيران وسوريا وتركيا ويتمثل بقطع الطريق على العدو الإسرائيلي من استكمال مشرعه في تعزيز استقلال الدولة الكردستانية الموحدة التي تضم كردستان العراق وشرقي الفرات. فالخبراء العسكريين الإسرائيليين يشرفون على بناء حزب الحياة الكردي "البيجاك" المرتبط وجدانياً واستراتيجياً مع الأكراد شرق الفرات. إن كردستان الكبرى من شأنها لو كتب لها النجاح أن تشكل خطراً داهماً على تلك الدول الإقليمية وخاصة أن الدعم اللوجستي الإماراتي متوفر.

وتجدر الإشارة إلى أن عملية “نبع السلام” لم تأت من باب العمل الإنساني كما يروج لها الإعلام التركي، لأن أردوغان نفسه هو من هدد أوروبا قبل أيام بطرد اللاجئين السوريين في حال لم يدفع الأوربيون ثمن إقامتهم في تركيا، وكثير منهم تم اعتقاله واقتياده عنوة ورميه في ادلب سوى أصحاب الرساميل من السوريين الذين أسهموا في إنعاش الاقتصاد التركي. أي أن أردوغان أخذ يمارس لعبة شن حرب خارجية محسوبة؛ لدعم موقفه في الداخل وحرف أنظار الشعب والنخبة عن الأزمات الداخلية التي تواجه حكمه مؤخراً، حيث لم يعد يجديه نفعاً من الناحية الجماهرية في أنه يعتبر المنقذ لتركيا حيث جعلها مزدهرة فدخلت البلاد بعهده في منظومة دول العشرين ودول نادي باريس الست؛ فالشعب يهمه أكثر تداعيات الوضع الراهن المتأزم بسبب أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، وخطر حزب العمال الكردستاني المتمركز شمال سوريا، وعليه فإن نتائج العمليات المحتملة ستحقق له ذلك، كونها ستؤدي إلى أبعاد القوات الكردية المسلحة عن حدود تركيا وتعيد اللاجئين إلى ديارهم.

ويركز خصوم أردوغان إعلامياً على أنه من سعى وعمل على تقويض قوة وسلطة الحكومة المركزية السورية والجيش السوري في مناطق الشمال السوري برمته ناهيك عن شرق الفرات لا بل ساهم في جلب خطر التنظيمات الإرهابية التي يسعى لمواجهتها في هذه العملية الاستراتيجية.. وخاصة بروز القوات المسلحة الكردية التي يقول أردوغان اليوم أنها تهدد الأمن القومي التركي. وإيغالاً في الخطأ فهو يجحفل في حملته قواتٍ محسوبة على المعارضة السورية ما يعني أن الخاصرة التركية ستظل ملتهبة، حيث سيحل سكان آخرون محل أبناء المنطقة، ومن ثم سيتم تسليمها أمنياً وعسكرياً لتلك القوات السورية المحلية التي تتبع لتركيا، والرهان على ذلك يعد قصر في الرؤية الإستراتيجية لأنه لا ثوابت في السياسات الاستراتيجية في إقليم تتحكم به القوى الإقليمية، وقد يؤدي ذلك إلى عودة داعش ومثيلاتها مدعومة من السعودية والإمارات والعدو الإسرائيل المتمركز في كردستان العراق.

وفي سياق متصل فقد توالت المواقف الدولية ما بين مؤيد أو معارض لهذه العملية التي ترى تركيا بأنها ستحفظ الأمن القومي التركيا، وهي عملية محدودة، فقد أيدت قطر العملية العسكرية التركية. وبعض الدول الكبرى أيدت العملية بصمت، من خلال الانتقاد الخجول للعملية التركية العسكرية شمال سوريا ضد الأكراد على نحو ما فعلت كل من روسيا وإيران وربما سوريا نفسها، على اعتبار أن العملية جاءت من باب تحقيق الأمن القومي التركي ومحاربة الإرهاب وتنسجم مع اتفاقية أضنه التي أبرمت عام ١٩٨٦ بين البلدين، ويجيء هذا التأييد المبطن من قبل تلك الدول؛ لتلاقي المصالح في هذه الضربة العسكرية الموجعة.. ولكن هل تتساوى حسابات البيدر والحقل اعتماداً على التحالفات في الحروب التي تتبدل فيها موازين القوى والاستراتيجيات، والتي تتقلب فيها النتائج والمفاجآت، وهذا لا تثير الاطمئنان. ولا أستبعد أمريكا من هذا السياق رغم مناصبتها العداء لأردوغان على أرضيّة صفقة صواريخ "إس 400" الروسيّة، كونها هيأت للعمليات العسكرية شرق الفرات بانسحابها ميدانياً.

وكان مجلس الأمن قد فشل في تحديد موقفه من العمليات العسكرية التركية في العمق السوري، لتوافق الرأيين الروسي والأمريكي الداعمين للعملية بطريقة غير مباشرة، حيث لم يتمكن أعضاء المجلس من الاتفاق على بيان رسمي بشأن العملية . حيث أفادت وكالة "أسوشيتد برس" بأن الاجتماع المغلق لمجلس الأمن شهد اختلافات في مواقف الدول لم تسمح بإصدار البيان. فقد أفادت مصادر دبلوماسية لوكالة "الأناضول" التركية بأن الخلاف الرئيسي كان حول عبارة "الإدانة" للعملية العسكرية، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة وروسيا عارضتا البيان. وأكدت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت، بشأن الموقف الأمريكي في أن الرئيس دونالد ترامب "كان واضحاً للغاية" حول أن الولايات المتحدة لم تدعم بأي شكل من الأشكال القرار التركي بشن العملية العسكرية. وهذا بحد ذاته ليس إدانة. إلا أنه لم يمنع من تلويح الكونغرس الأمريكي بفرض العقوبات ضد تركيا والتي لن تكون مجدية، لأن البنك المركزي التركي بادر إلى سحب احتياطي الذهب التركي من نظام الاحتياطي الفدرالي الأمريكي في عام 2017، حيث بلغ 28.7 طن من الذهب.

وعلى صعيد أوروبي، قال وزير الدولة الفرنسي للشئون الأوروبية إميلي دي مونتشالين إنه سيتم بحث فرض عقوبات محتملة على تركيا في قمة الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل.

وقالت السويد إنها ستستعى للحصول على دعم على مستوى الاتحاد الأوروبي لفرض حظر على تصدير السلاح إلى تركيا خلال مباحثات الاثنين. غير أن ذلك قد يكون أيسر للتنفيذ على مستوى الدول، حسبما قال دبلوماسي أوروبي في بروكسل.

لكن المعارضة الأشد لهذه العملية العسكرية الضخمة على صعيد عربي جاءت من الموقف الإماراتي والمصري؛ ربما لثأر مبيت مرده موقف أردوغان المؤيد لقطر.. (الموقف السعودي المعارض تحول إلى مؤيد للخطوة التركية ربما من باب المراوغة والتكتيك لتنأى بنفسها عن الشبهات مستقبلاً، أو لضغوطات خارجية تعرضت لها المملكة، من أمريكا مثلاً).

وفي محصلة الأمر يطرح السؤال نفسه فيما لو تعلمت تركيا من التاريخ بأن الحرب ليست نزهة وحساب البيدر لا يساوي حساب الحقل وأنها قد تكون وقعت في فخ أراده لها الخصوم لذلك تراوحت مواقفهم ما بين مؤيد أو متفرج ساكت عن إبداء الرأي أو رافض.. فخ يستهدف شخص أردوغان لاستنزاف قواته.. فليس مستبعداً على سبيل المثال وهذا وارد في حروب المنطقة، وصول صواريخ بالستية إلى القوات الكردية بوسعها ضرب العمق التركي، وإصابة مدن مثل اسطنبول وأنتاليا ومرسين في مراحل يكون فيها الجيش التركي في العمق السوري.. فالأيادي الخفية تنتظر دورها في هذه المواجهات المنتظرة! وأعداء تركيا يبحثون عن أدوار لهم وخاصة السعودية التي تباكت على الأكراد ووعدت بالوقوف إلى جانبهم، وبالطبع الطريق الوحيد لتقديم هذا الدعم الموعود سيكون بالسلاح وربما بالمقاتلين من الجماعات التي تدعمها السعودية. هذا إذا أدخلنا في حساباتنا الدور الإسرائيلي والإماراتي في دعم القوات الكردية في إقليم كردستان، حزب الحياة الكردي "البيجاك" المرتبط وجدانياً واستراتيجياً مع الأكراد شرق الفرات.

إن ورطة تركيا ستكون وخيمة فيما ذهبت إليه في هذه العمليات العسكرية الكبيرة، ولعل أبسط مخرجاتها ستؤدي إلى إحراج موقف أردوغان أو إسقاط نهجه المختلف عليه داخلياً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ولا نريد أن نقول باحتمالية سقوطه إذا فشلت العملية لأن من يتربص به في تركيا لن يسكت إلى الأبد.

المستنقع السوري الذي تتوغل فيه تركيا متخم بالمفاجآت، والحرب سجال.. يوم لك ويوم عليك! اسألوا التاريخ القريب البعيد.

 

بقلم بكر السباتين..

12 أكتوبر 2019

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم