صحيفة المثقف

أوقفوا هذا العالم! أريد أن أنزل!

محمد عبد الكريم يوسفكثيرة هي المواقف التي نواجهها في حياتنا اليومية، في الوظيفة وفي المجتمع وفي المدرسة وفي الشارع وفي كل مكان تقريبا من حياتنا المعاصرة.

العالم اليوم مثقل بالهموم والأوجاع. نحن بالأساس في حالة حصار دائم لا حالة تحد.

في أواسط الستينات من القرن العشرين، عرض في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مسرحية موسيقية بلغت من الشهرة والنجاح الساحق أن استمر عرضها على المسرح الأوروبي والأمريكي لعدة سنوات. كانت المسرحية بعنوان: " أوقفوا هذا العالم! أريد أن أنزل!".

تروي المسرحية حكاية بطل قرف من الحياة على الأرض ويئس من مقارعة التحديات وأراد أن يغادر الأرض التي وضع فيها مرغما. يركز العرض على ليتل تشاب من لحظة ولادته وحتى وفاته. في كل مرة يحدث شيء غير مُرض، ينادي "أوقف العالم!" و يخاطب الجمهور. بعد ولادته وذهابه إلى المدرسة وإيجاد عمل لنادل يقدم الشاي كان أول خطوة رئيسية قام بها هو محاولة تحسين وضعه الاجتماعي و الزواج من ابنة رئيسه إيفي الذي أرغمها على الزواج. صار ليتل تشاب مثقل بمسؤوليات الأسرة فتم منحه وظيفة في مصنع والد زوجته. ثم يرزق بابنتين هما سوزان وجين لكنهما يتوقان للحصول على طفل ذكر. ويشعر باستياء متزايد من وجوده في هذا الكوكب وهذا قاده إلى أحضان العديد من النساء في رحلاته التجارية حيث المسؤول الروسي أنيا ومدرسة إيلس الألمانية ومغني الملهى الأمريكي جيني وهو يبحث عن شيء أفضل مما لديه. يصبح غنيا وناجحا وينتخب للمناصب العامة. فقط في سن الشيخوخة يدرك أن ما كان يتمتع به دائمًا حب زوجته كان أكثر من كاف لإعطائه. لكن عمه إيفى يلتحق بالرفيق الأعلى، ثم يتصالح ليتل تشاب مع أنانيه أثناء كتابة مذكراته. في لحظة وفاته، يراقب ابنته الثانية تلد ابنا ذكرا.وعندما يكون الصبي على وشك الموت، يتدخل ليتل تشاب ويسمح للموت بأن يأخذه بدلاً منه. ثم يمزج وفاته بولادته، ويبدأ دورة الحياة مرة أخرى.

يهرول ركاب هذه الكرة السابحة في هذا الفلك اللامتناهي نحو القتل والموت والجشع والأنانية وينسون أنفسهم حتى الثمالة. هل يمتلكون القدرة على نطق هذه العبارة ؟ هل يستطيعون إيقاف المركبة الأرضية والنزول منها أو الاستقالة منها والهرب بعيدا. لقد جلب حكيم المعرة هذه الصورة الجميلة قبل ألف عام حين قال:

وهل يأبق الإنسان من ملك ربه...

فيهرب من أرض له وسماء...؟

وحيث أن الإنسان لا يستطيع النزول من هذه المركبة السابحة في الكون الواسع فليس أمامه إلا الوقوف مرغما أمام تحديات الحياة والعصر. المأساة تسحق هذا الإنسان في لعبة ليس لها نهاية. وكلما أتى جيل تمرد على الجيل الذي قبله وادعى امتلاك الفهم وحق الحياة على حساب الغير.

لم يكن صراع القوى العالمية في يوم من الأيام أشرس مما هو عليه الآن بالقوى والوسائل والمدى. إننا نعيش في عصر الرعب على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب، عصر الانفلات القيمي والأخلاقي. إنه عصر سحق الأضعف حتى العظم. ربما يخرج علينا من يقول أن الحياة كلها صراع بين القوي والضعيف وتاريخ البشرية مليء بالأظفار والأنياب والضحايا. صحيح أن داروين سماها " تنازع البقاء " وسماها ماركس " صراع الطبقات " وسماها توينبي " نظرية التحدي". لكن هذا العصر لا يشبه غيره من العصور. إنه " عصر الفاجعة " بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

الفارق بين هذا العصر والعصور السابقة ليس في نوع الصراع وإنما في شكل الصراع وفي القوى الشريرة والوسائل الشيطانية التي تستخدمها القوى العالمية في تحريك الشعوب وحمايتها وتقديمها للذبح عن بكرة أبيها في طاحونة الموت الصادمة لكل ذي حلم على البسيطة.

قد يصنفني البعض من المتشائمين. لكنني بالتأكيد لست كذلك ولن أكون.

ولست ممكن يحبون اللون الأسود وأكره التجهم ويفترسني القنوط واليأس فأهرب منه دائما أوزع الطاقة الإيجابية حيث أكون.

قبلي سأل هاملت وظهره مستند إلى الحائط :" أنكون أو لا نكون تلك هي المسألة؟" إنه التحدي الكبير نفسه الذي نعيشه اليوم في عرس القرن الحادي والعشرين.

عرس القرن الحادي والعشرين أبطاله الشعوب الفقيرة وخاصة المسلمين. يشكل المسلمون خمس سكان الكوكب ويمتلكون أفضل مقومات للحياة الروحية والمادية. يمتلك المسلمون الدنيا والآخرة ورغم ذلك استطاع الشياطين أن يزرعوا الفتنة والتخلف والخلاف والبغضاء بينهم بحيث لا يستطيعون منها فكاكا. يعاني المسلمون من الخلافات المذهبية والطائفية والعرقية والسياسية والاقتصادية واللغوية والجغرافية ويبدو أنهم حتى الآن لا يمتلكون خطة علمية إسلامية تنقذهم من حمامات الدم التي يغرقون فيها. ويعانون أيضا من مشكلة كبرى جعلتهم أيتام العصر بلا منازع فهم:

مجتمعات متخلفة كثيفة العدد مفككة البنية غارقة في التكاثر وما تمليه التقاليد.

مجتمعات إنتاجيتها محدودة وطاقتها مبعثرة وأموال نفطها منهوبة.

مجتمعات تكويناتها الثقافية بطيئة الإيقاع صعبة المراس والقيادة.

مجتمعات لا زالت تعيش هاجس خطر الآخر فتسعى لإبادته عن بكرة أبيه.

وإذا كان المسلمون يعيشون طفرة الفوضى والتفتت والتشكيك بالذات وبالآخر فإن الغرب والقوى العالمية الشيطانية تستغل كل هنة في حياة المسلمين لخلق مشكلة وتأجيج صراع. ويتناسون رسالة الخالق جلّ وعلا حين يقول في كتابه العزيز:" ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر.كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون.كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم."

أولى التحديات في العالم الإسلامي هي أخر التحديات وثاني التحديات هي الثورة الرقمية الجديدة والثورة الصناعية الرابعة وتطبيقاتها. ويل للسكونيين ! ثم ويل للسكونيين ! وويل لمن يأخذ الحوار البيزنطي شريعة وطريقة في الحياة !

في القرن الحالي نحن محط رهان عالمي في أن نكون أو لا نكون في أن نمتلك الوعي والرحمة والتسامح أو نستمر في قافلة البؤس والتشدد والكراهية والعصبية القبلية. وفي حال لم نتعلم الدرس وما يجري حولنا سنساق جميعا إلى سوق النخاسة في عصر العبيد الثاني الذي لا يشبه غيره في البؤس والمظلومية. وليس أمامنا أن نصيح بأعلى صوتنا: "أوقفوا هذا العالم، نريد النزول". ليس أمنامنا إلا الخروج من الحصار أو مواجهة الموت تحت سنابك القوى العالمية وما من أحد يستطيع الهرب.

فهل من مجيب...لوامعتصماه ؟

  

بقلم محمد عبد الكريم يوسف

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم