صحيفة المثقف

كم صُندوقا لدينا؟

أترجم رواية إسبانية عنوانها "الحقائب الضائعة" تحكي قصّة ثلاثة أصدقاء يعملون في شركة لنقل العفش عبر أوربا. تقول القصّة إنّ هؤلاء العمّال اتفقوا على أن "يغنموا" من كلّ عملية نقل حقيبة يصادرونها أو صندوقا يتقاسمون محتوياته: حقيبة من بين حقائب كثيرة، أو صندوقا من بين صناديق عديدة مكدّسة. وكان أن حاسبتهم صاحبة بيت من البيوت ذات يوم، بعد أن أنزلوا العفش وطلبوا منها أن توقّع على وصل التسلّم: هيّ عدّتْ (52) صندوقا والوصل يتحدث عن (53). هي تعلم علمَ اليقين أنّ عددَ صناديق عفش بيتها (53)، فهي صاحبة البيت وهي صاحبة العفش وهي من جهّزت الصناديق ورزمتها.

ودخل الطرفان في جدل: (52) أم (53)؟ (53) أم (52)؟

توزّع العمّالُ المواقعَ والأدوار بينهم، وراحوا ثلاثتهم، كلّ واحد منهم من طرف، يعدّون الصناديق المكدسة في الصالة. قال الأول: عددتُ (54) صندوقا. لدينا صندوقٌ زائد. وقال الثاني: بل هي (52) صندوقا. لدينا صندوقٌ ناقص. وكان على الثالث أن يقول: بل هي (53). العددُ صحيح.

وأعادت صاحبة البيت وراءهم الحساب، وهي تنطّ بين الأثاث والصناديق، مشتتة بين الأولاد والعمّال ومعطياتهم المتضاربة. وانتهت من العدّ ونطقتْ بالنتيجة: صحيح. (53). العدد صحيح. وقعتْ على وصل التسلّم، وانطلق العمّال فرحين بعد أن ظفروا ببغيتهم وفازوا بمرادهم.

................................

وما يحدث لنا ومعنا شبيه بما حدث لصاحبة البيت المسكينة تلك: سرق عمّالُ النقل صندوقا من صناديق عفشها وحين احتجت "رسموا عليها" وخرجوا بوصل التسلّم موقعا لا يلوون على شيء.

من سنوات ونحن نتطلع إلى الشاشات ونطالع الأخبار والتعليقات والتحليلات: مناكفات وملاسنات من كلّ نوع وبكلّ لسان ونبرة، وعزف على كلّ وتر. تسقيط وتخوين، حرق أوراق وحرق مراحل وحرق وثائق، تشهير وشتم، طعن في الأمانة والنزاهة والوطنية والانتماء، رمي بالفساد وبالكذب وبزجاجات الماء، ضرب تحت الحزام وفوقه، فضائح بجلاجل وفضائح بطبول، عمليات سرق وسلب ونهب وهروب وتهريب، عقارات وصفقات، شراء وظائف ومناصب وأصوات وذمم، سكوت وابتزاز وتهديد وتزوير. نوّاب يتنابزون بالألقاب ويترصدون لبعضهم البعض ويحكون عن بعضهم البعض بالقلم الأحمر العريض وبأغلظ الأيمان، يتبادلون التهمة والدفاع...الهجوم وردّ الهجوم...الحجة والحجة المضادة. يتناوبون الأدوار ويتداولون الكراسي ويتضاربون بالكراسي، والناسُ بينهم كما صاحبة العفش بين (غابرييل) و(بوندو) و(بترولي): تسمع كلامهم وتضرب أخماسا بأسداس وتخرج بحساب تحسبه صحيحا، وما هو بصحيح، بعد أن رأت الحقيقة رأي الشمس ساطعة ناصعة: (52)

منذ سنوات ونحن نرى ونسمع ولا نصل إلى أيّة نتيجة بيّنة ولا أيّ رقم مكوّر.

كلّها أنصاف أرقام وأنصاف أحكام وأنصاف حقائق وأنصاف ادلّة وأنصاف كلّ شيء.

ما أشبه ما يجري لنا بما جرى لصاحبة البيت، وبما يجري للثور في ساحة المصارعة: يقف المسكين أمام جمع من المصارعين تولّى كلّ منهم دوره وحمل كلّ منهم آلته وعدّته. فهذا يلهيه. وهذا يباغته بنبلة على ضلعه، وذاك يأتيه على ظهر الحصان ليطعنه بالرمح من علوه الشاهق، بينما لا يكفّ المصارع، هو ومعاونوه، عن إثارته، وهو الفرد الحائر المشتت المتألم النازف، والمرور من أمامه بقطعة بل بقطع القماش الحمر يمنة ويسرة.

يدوخ المسكين

من تعب ونزف ودوران

ويسقط

وتقطع أذنه جائزة للمصارع

أو ذيله، إذا كان بلاء المصارع أكبر وأعظم.

 

د. بسّام البزّاز

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم