صحيفة المثقف

دورالمثقف الواعي في مواصلة الحراك الجماهيري في العراق

عبد الحسين صالح الطائيبعد تصاعد حدّة المواجهة بين اسلوب السلطة العنفي الدموي والإصرار الجماهيري على سلمية التظاهرات التي انطلقت في الأول من أكتوبر 2019، تتوج المشهد السياسي الثقافي العراقي، بإنتفاضة اكتوبر، رغم معرفة الجميع بأن هذه الإنتفاضة لا تسقط النظام، بل هي جرس إنذار يمهد لإنتفاضات مستقبلية تهز عرش النظام من جذوره، هذه الإنتفاضة الشبابية العفوية عكست واقع الوعي الجماهيري الباطني، لشريحة إجتماعية واسعة من الشباب الذين تفتحت عيونهم على نماذج من السياسين الفاسدين العابثين بأموال الوطن، مصحوبة بقراءة واعية لتوجهات السلطة بكل أذرعها ومؤسساتها الأمنية. هذه المعادلة البعيدة عن كل القيم الأخلاقية، جعلت بعض الأطراف الإقليمية والدولية تقف إلى جانب الجماهير العراقية وتنبذ العنف، ناهيك عن دور المثقف العراقي، الذي كان في سبات طويل، أصبح في حالة حراك وصيرورة مع مجتمعه ومحيطه الإنساني، حيث أكدت الأحداث حقيقة موقف المثقف المنحاز لشعبه بأنه، يملك القدرة على تغذية الحراك الجماهيري بالتصورات والأفكار. ومهما تعقدت الأحداث يبقى المثقف المنحاز لشعبه، غير خاضع لأية سلطة، يمثل قوة محركة اجتماعية، تعكس معاناة الشعب، تكشف زيف المتسترين بغطاء الدين، ويتفاعل بالعمل بين الشباب لإعادة ترتيب الأمور بشكل منظم.

لقد ميزّ المفكر الإيطالي غرامشي (Gramshi)، نوعين من المثقف، المثقف العضوي والمثقف التقليدي، وفي تحديده لمفهوم المثقف تخطى جدلياً وتاريخياً المفهوم، الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر الأوروبي، الذي يمييز بين العمل الفكري والذهني، والعمل اليدوي، حين قال أن كل البشر مثقفون، مستدركاً في الوقت عينه، ولكن ليس لكل البشر لديه وظيفة المثقفين في المجتمع.‏ المثقفون العضويون هم على علاقة أكثر مباشرة بأجهزة الدولة، وبالطبقة الإجتماعية المهيمنة، وبالبنية الاقتصادية الخاصة بمجتمعهم، ويعطي المثقف العضوي طبقته انسجاماً وادراكاً لوظيفتها في كل المجالات السياسية والإجتماعية والإقتصادية.

والمثقف كما عرفه غرامشي من أن كل إنسان مثقف، وإن لم تكن الثقافة مهنة له، فاتسع مفهوم المثقف ليشمل العلماء والمفكرين والأدباء والكتاب والمبدعين والفنيين والأطباء والمهندسين والمديرين ورجال القانون والموجهين والإعلاميين والصحفيين والطلبة وما أشبه ذلك. بهذا التعريف أرجع غرامشي العناصر المكونة لمفهوم المثقف إلى نقطتين، الأولى بأن المثقف يعّرف من منطلق المكانة الوظيفية والدور الذي يقوم به داخل البنية الإجتماعية، والثاني بأن كل طبقة اجتماعية تفرز وتنتج شرائح من المثقفين لا يقومون بوظيفة تمثيلها فقط بل يرتبطون بها عضوياً.

فالمثقف الحقيقي هو القادر على بلورة الواقع الإجتماعي والتأثير المباشر في قيمه وتغيره نحو الأفضل، وأينما تتبلور مفاهيم الحرية الخلاقة، تتبلور الثقافة الحقيقية المنسجمة مع الواقع الإجتماعي، والاختلاف في الرأي تجسيد لحقيقة الحرية، ولهذا تتجسد مهمة المثقف بشكل أساسي على إظهار الأفكار الداعية إلى التغيير والتنوير. وما يميزه هي وظيفته كفاعل أخلاقي لا يتقيد بحالات الانتماء لهذا الموقف أو ذاك، وبالتالي وضعه المميز داخل المجتمع يفرض عليه انتمائه إلى مبادئ الإنسانية.

 ويشير الباحث د. محمد عابد الجابري بأن وظيفة المثقف تتجسد في تحرير المجتمع من هيمنة السلطات المستبدة، سواءً أكانت سياسية، دينية، ايديولوجية. ومن ثم تحرير الثقافة من هيمنة السياسة، أي تحقيق استقلال مجالات الحياة الإجتماعية وتكاملها، ولا يوجد تكامل دون استقلال، الثقافة وحدها لها هذه القيمة التحريرية، حين تكون ثقافة ذات محتوى إنساني وعقلاني وعلماني وديمقراطي بالتلازم الضروري بين هذه الصفات. ولكي نعطي المسألة الثقافية أهميتها نحتاج إلى المزيد من التطلعات الحضارية أو إلى كشف أزمة العقل والتفكير. إن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة، لا يمكن بناء نهضة بعقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته.

فمن خلال التعاريف المتعددة، يتبين أن المثقف يتميز عن غيره في نواح عديدة، وهناك أصناف متباينة، المثقف رفيع الثقافة، متوسط الثقافة، ذو ثقافة دنيا. فنقول فلان مثقف، وفلان ذو ثقافة عالية، وآخر ذو ثقافة سطحية. وكذلك يتميز في حدود معرفته وخصائصه عن الآخرين، وبالتأكيد ليس كل متعلم  أو يحمل شهادة سواء جامعية أو عليا هو مثقف، فالمجتمع فيه الكثير من حاملي الشهادات وهم أنصاف متعلمين. وبما أنه ليس أي مثقف يستطيع أن يفعل ويؤثر في حركة تطور المجتمع، فقد شخص الباحث خزعل القاسمي ثلاثة أنواع من المثقفين: مثقف رسمي، حكومي، يعمل دائماً ما تمليه عليه الدولة وسلطة الحاكم، ومثقف واع، مناهض للسلطة، يناضل دفاعاً عن الحقيقة بكل قواه، ومثقف يخضع لمحاولات السلطة الاحتوائية.

لقد أشار أكثر من باحث بأن حدث التاسع من نيسان 2003، قد وضع مقدمات نظام سياسي جديد يختلف عن الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق في العهدين الملكي والجمهوري، هناك تغيير جذري في طبيعة السلطة، والمشروع السياسي والإجتماعي، والقوى الفاعلة في مجريات العملية السياسية. نظام قائم على مفاهيم مغايرة لمفهوم الوطنية، تغلبت فيه الهويات والإنتماءات الفرعية، جاءت هذه المفاهيم منسجمة مع التركة الثقيلة للنظام السابق، الذي كرس الطائفية والتخلف الإجتماعي، لاسيما الاعتماد على القيم القبلية، والانتماء الحزبي وشبكة كبيرة من الديون، التي أفقرت المواطن والمجتمع.

إن الثقافة العراقية اليوم مبنية على مفاهيم المذهب، القبيلة، العائلة، المنطقة، الحزب، وغيرها من المفاهيم التي تسهم في ضياع الثقافة الوطنية وقيمها ومفاهيمها الأخلاقية والإنسانية، كالحرية والعدالة الإجتماعية والشعور بالمسؤولية واحترام الحقوق العامة والخاصة للمواطنين، وغيرها من القيم التي تشكل الهوية الثقافية لمجتمعنا العراقي الذي يواجه تحديات كبيرة وخطيرة على مختلف الأصعدة، جرى التعبير عنها بحركات احتجاجية ذات طابع شعبي شبابي، جاءت في اعقاب الهبات الجماهيرية، التي حصلت بأكثر من بلد عربي عام 2011،  إنهارت على آثرها الكثير من الأنظمة العربية، ونتج عنها بروز لأحزاب الإسلام السياسي المتطرف، وتدخلات فاضحة للدول الكبرى في رسم خريطة تلك البلدان.

كل المؤشرات تشير إلى ضرورة تفعيل دور المثقف الواعي لمطاليب شعبه، بأن يساهم في المطالبة بتحقيق المزيد من المنجزات والخدمات التي تصب في مواجهة معوقات تقدم العراق، وتقع عليه مهمة تشخيص ونقد السلبيات والتوعية بضرورة التمسك بالهوية الوطنية وتغليبها على الهويات الفرعية، الحد من التكوينات القبلية والعشائرية، تقوية الترابط الإجتماعي، وتعزيز ثقة الأفراد بالدولة ومؤسساتها الإدارية والوظيفي.

وأخيراً، لابد من التأكيد بأن المثقف الواعي ومدى تأثيره على الواعين من افراد المجتمع له الدور المميز في عملية التغيير أو الإصلاح التي تهدف إلى الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية، وتنقية الأجواء السياسية بتشكيل حكومة تكنوقراط وطنية ديمقراطية على أساس المواطنة والكفاءة والنزاهة والعدالة الإجتماعية، وحماية حقوق وحريات المواطنين في إطارالدستور، ومن الطبيعي أن يكون إصلاح الإقتصاد الوطني من بين الأولويات مصحوباً بتعزيز قطاعي الصناعة الزراعة ومختلف المجالات الأخرى، مع رقابة مشددة لعمل مؤسسات الدولة الخدمية والوزارات الأساسية كالتعليم والصحة والبيئة وغيرها لكي تنهض بمهامها بما يخدم قطاعات المجتمع كافة.

 

د.عبد الحسين صالح الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في  بريطانيا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم