صحيفة المثقف

سيميائية الأهواء في المجموعة القصصية "هيهات" لمحمد الشايب

شهدت المناهج النقدية ما بعد البنيوية انتقادات كثيرة لإقصائها العناصر الخارج-نصية من عملية التحليل والتفكيك والتركيب، اقصاء جعل النص مادة محنطة خالية من القيم المعرفية والموضوعية والنفسية والعاطفية بعد موت المؤلف أو قتله على الأصح، واعتبار النص بنية مستقلة عن سياقها السوسيوثقافي، غير أن كريماص تنبه للأمر وأحدث فرعا من السيميائيات يهتم بالأهواء والعواطف والرغبات، مستحضرا هذا الجانب الذي أقصته المناهج النصية، وهو ما سنحاول مقاربته في المجموعة القصصية "هيهات" لمحمد الشايب الصادرة عن دار التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، فإلى أي حد تحضر الأهواء في هذه النصوص القصصية؟ وكيف يمكن للأهواء والعواطف أن تسهم في بناء النص القصصي؟

تعالج المجموعة القصصية مواضيع مختلفة من خلال أحداث يومية تكشف جملة من الانفعالات المتناقضة، هذه الانفعالات التي تظهر في القصة الأولى "ريح يوسف"، والتي يهيمن عليها الحقد والغضب، هذه العاطفة التي نمت شيئا فشيئا نتيجة الصدمات النفسية للسارد من الحال التي أصبح عليها الإنسان، والتي استدعى من خلالها الكاتب قصة يوسف للتعبير عن حجم الغضب الذي يعتوره اتجاه مجتمع يتفكك باستمرار، وتظهر فيه سلوكات عدائية حتى أصبح تربة خصبة للكراهية والعنف، يقول السارد وهو يتحدث عن الواقع والأمل، بغضب مضمر في ثنايا الخطاب "أخوك يتمنى أن يحب الإخوة أخاهم، لكنهم له كارهون، في كل بيت أخ مختلف، وفي كل بيت إخوة لا يطيقون الاختلاف، فلماذا يا أخي هم الإخوة هكذا يكرهون ولا يحبون؟ تعبت من هذا الرحيل، أمضي طوال الوقت،  يتجاهلني المطر، ولا تعرفني الرياح ودروبي ما عادت تطيقني"1. وهكذا يغدو الرمز الديني بحمولته الإيحائية دلالة على الغضب المضمر في الوجدان من سوء أوضاع الإنسان، إحساس نما في منطقة الغياب اللاشعور، ليتحول إلى منطقة الحضور الشعور، سلوكا معبرا عنه بأدبية تأبى أن ترضخ لليومي وللمسخ الذي طال هذا الكائن، إنه غضب ينقلب إلى إحساس عميق بالغربة، عزلة تنمو في النص لتعلن الغضب والرفض لكل ما الت إليه الأمور، تحول العاطفة إلى سلوك وموقف حتى أن مطرات القطر تتجاهله، والرياح والدروب ما عادت تطيقه، إنها صرخة في وجه المسخ.

وهكذا يتحول الغضب من حالة نفسية اتجاه الواقع اليومي إلى سلوك وأفعال، الإخوة يكرهون أخاهم، ويضمرون له العداوة، الغضب هنا من هذه السلوكات حالة نفسية تعكس تفسخ القيم وانحلال الأخلاق وترهل العلاقات الإنسانية التي أثارت حنق السارد، كره يتحول فجأة إلى شفقة في قول السارد "سرت وسط موكب الجنازة، فتحولت من جديد إلى ذئب ورأيتني أرحم بكثير من الإخوة، مر الموكب من كل شوارع المدينة وأزقتها وبكت يوسف كل الأشجار والأزهار"2 . أن يحول السارد إلى ذئب مع كل ما له من صورة نمطية في المخيال الشعبي من غدر ووضاعة خسة، ذلك يعني أن غضبه شجرة تغطي غابة من السلوكات الدنيئة للإنسان والمسكوت عنها في النص، هكذا يغدو الغضب موقفا من العالم، مواجهة بالغضب، وهو اخر أسلحة السارد لمواجهة قبح العالم في العالم الجديد الذي يهيمن عليه الإنسان وقتل فيه كل أسباب الحياة.

انفعالات متناقضة تسائل الأهواء النفسية في تشكيل عوالم النصوص، غير أنها عواطف تتشكل في لحمة واحدة، فها هو الغضب يؤدي إلى الشفقة، فيكون التفاعل بين هذه الأحاسيس هو كيمياء النص الحقيقية.

ونجد أيضا من بين هذه الانفعالات التي تشكل فسيفساء النص الرغبة والحب في قصة "هيهات"، الحب الذي يسبق وجود المحبوب، العاطفة المتجذرة في فطرة الإنسان، لذلك يشكل السارد صورة حبيبته المنشودة على هواه حين يقول "حسناء وارفة الظلال، في عينيها موج من الضياع ومن ثغرها يسل الدواء حينا والداء حينا. وأخيرا كتبتها هيفاء كالنغمات، وتهب كالريح وقت الهجير.. وأخيرا كتبتها عجزاء تدبر فتتبعها الأغاني وتهطل المدام"3  إنه الحب المتقد في صدر السارد، غير أنه حب متوقف عن النبض، وهكذا يحضر الحب أيضا في قصة "الحب المشتت"، حب منكسر يبحث عن الحب.

ظل الشوق يحرك لواعج النفس ليتحول إلى رغبة في اقتحام عالم الاخر، إنها الرغبة في السراب، أو في مجالسة طيف بعيد في زاوية من زوايا خيال السارد، كما يستحيل هذا الإحساس إلى رغبة في معرفة الذات، أو الوعي بها في علاقتها بالاخر، يقول السارد "وانطلقت كالسهم، فولجت غابة ملونة بشتى المعارف، فسيحة لا يحدها البصر ثم أخذت تحدو تارة بين الرفوف وتتوغل في أعماق السطور، وتارة تطير في سماء الخيال والحلم وتنأى بعيدا" 4، حب مستحيل، لكنه، في حقيقة الأمر، ليس حب المرأة، بل هي هذه القيمة الإنسانية النبيلة التي يفتقدها المجتمع، إن هذه العاطفة التي يتغنى بها السارد هو ما نحتاج إليه، نحتاج إلى الحب والحب وحده.

وهكذا يستسلم الحب المنشود في قصة "نرجس" حيث يقول السارد "هكذا أبن أحدنا نرجس التي حفرت لنفسها قبرا في الماء ومضت بعيدا في غياهب الغياب"5  لتتحول نرجس، رمز الحب المفقود في  نهر سبو إلى مزار يقصده الناس بين الفينة والأخرى، هكذا شيع السارد الحب، وحفر له قبرا في الماء، لتطفو الكراهية والحقد والعنف...

هذا الاستسلام المضمر في ثنايا النصوص يتحول إلى حزن مطبق في "فاكهة الممشى" ليصبح بؤرة دلالية جديدة في توليد المعنى "حزينا جدا سرت في الشارع دون هدف لا أدري لم أنا حزين ، الشارع مملوء بالمارة وأصوات الباعة تتعالي في الحقيقة هناك أكثر من سبب للحزن"  وقوله السارد أيضا "هناك أكثر من سبب للحزن، واصلت المسير والمدينة لا تكترث بي، مثقلا بالتوجسات أهيم في أنحائها وهي لا تريد أن تطلق سراحي" .

"هيهات" مجموعة قصصية حافلة بالانفعالات المتناقضة (الغضب والحب والحزن والشفقة...)، وهي تضطلع بدور أساس في بناء عوالم النصوص القصصية، وقد استطاع محمد الشاب أن يروض جموحها تعبيرا رائقا ولغة شعرية جميلة وبناء متماسكا... إنها مجموعة قصصية مستفزة جدا.

 

 عبيد لبروزيين

.......................

1  - محمد الشايب، هيهات، مجموعة قصصية، التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 2011، ص 7

2  - نفسه، ص 7

3- نفسه ص 9 

4- نفسه ص 13 

5- نفسه ص 15 

6- نفسه ص 19 

7- نفسه ص 19 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم