صحيفة المثقف

الذكاء الاصطناعي: ثورة تقنية تزحف على الاقتصاد والسياسة

الحسين اخدوشلقد تم تصميم الذكاء الاصطناعي استنادا إلى كيفية عمل الدماغ البشري (الذكاء الطبيعي). بذلك تحولت الشبكة العصبية الضخمة التي تضم ما يقارب مئة مليار خلية عصبية مترابطة فيما بينها في أدمغتنا إلى نماذج للمحاكاة رقميا واصطناعيا عبر أجهزة حاسوبية فائقة التطوّر. يعمل الدماغ بمرور نبضات من خلية إلى أخرى فيما يشبه تداع أحجار الدومينو، لذلك ترتبط الخلايا فيما بينها بحيث يمكن تحفيز هذه الدائرة على جهاز الكومبيوتر (الحاسوب) كخلية رقمية.

إنّ هذه البنية الاصطناعية قادرة اليوم على تَعَلُّم كيفية التعرّف على مرض السل أو السرطان مثلا دون حاجة إلى تشخيص الطبيب المختص في العيادة. أما برامج مايكروسوفت الشهيرة، فقد ساهمت بشكل وكبير في تجاوز المفهوم التقليدي للمكتب المكتبة، حيث غدت مختلف البرامج المعلوماتية فيها كفيلة بانجاز كلّ ما كان يستغرق وقتا طويلا ويتطلب جهدا مضنيا.

جعلت تكنولوجيا المعلوميات الجديدة المكاتب غير ممركزة،  وتحولت بذلك محركات البحث على الشبكة العنكبوتية، بفضل الذكاء الاصطناعي، إلى أكبر الشركات العالمية التي تحقّق أكبر الأرباح. إنها، وهي كذلك، مثل غوغل وأمازون وفايس بوك، الخ، أصبحت تعمل بشكل فعال بدون حاجة للمزيد العمال الموظفين لإدارة شؤونها، مادام كلّ شيء فيها مبرمج بفضل الربوتيك المبرمج مسبقا من خلال خواريزميات الذكاء الاصطناعي.

أحدثت الآلة الذكية خلخلة في التراتبية الإدارية، بل إنّها كسّرت بيروقراطية تقليدية كانت تستفيد من تقديم خدمات مؤدى عنها في شكل عقود عمل ووظائف متعاقد عليها.  فكّك هذا الذكاء الاصطناعي  بعدي الزمان والمكان في تقديم الخدمات عبر العوالم الجديدة التي أتاحتها شبكات المعلوماتية. ولقد فكّك نموذج عملها الآلي مفهومنا الحديث للشغل وتصورنا الكلاسيكي للمكتب وللعمل. فما أدخلته شركات الخدمات عن بعد من تقنيات التواصل عن بعد دفع الكثير من الموظفين إلى فقدان وظائفهم بإحلال البرمجيات التطبيقية للتواصل والتفاعل مكانهم. تحوّل قطاع الخدمات والتوزيع، شيئا فشيئا، إلى شبكة مرقمنة، فتأثر بذلك قطاع اللوجستيك والنقل التقليدي سلبا، مستغنيا عن المزيد من العمالة لصالح تطبيقات تكنولوجية مرقمنة.

في ظلّ هذا الواقع الجديد، أصبح الموظّف الخدماتي فاقدا للكثير من جاذبيته لصالح هذه التقنيات، ولهذا فمبرّرات وجوده بدأت تنحسر شيئا فشيئا إلى أن يزول آخر عامل خدماتي. ولعلّ الأمثلة التي يقدّما جيرمي ريفكن (Jeremy Rifkin ) كثيرة ومتنوعة، لا يكفي المجال لذكرها الآن، حيث تخصّ في معظمها شركات بيع وتقديم الخدمات إلى العملاء الحقيقيين والمفترضين. ولعلّ ما شجّع على ذلك أكثر تفضيل هؤلاء العملاء لخدمة البيع والشراء عبر بطائق البنوك والائتمان الرقمية؛ السهولة والسرعة في الأداء وربح الوقت.

كلّ القرائن والمؤشرات لتدل وتشي باندثار وزوال نظام البيع والشراء التقليديين لفائدة التسويق والتجارة الالكترونية. ترتب عن هذا المعطى تفكيك الوظائف وشركات الخدمات التقليدية، حيث لن يكون بإمكان المتاجر الكبرى توظيف المزيد من العمالة مادام الأمر موكول لنظام رقمي بدأ يتأسّس ويتوسع شيئا فشيئا.  بل إنّ الشركات لم تعد تعوّل على طرق التسويق التقليدية، حيث يتوسط المستشهورن بينها وبين زبناء محتملين، بل أصبحت تسوّق لنفسها عبر برامج وتطبيقات تستطيع جلب انتباه المستهلكين خارج إطار المنظومة التقليدية للسوق.

لقد أثّرت استراتيجية رقمنة سوق الخدمات فعليا على سوق العمل وجعله فاقدا لمبرّراته التقليدية، الشيء الذي جعل الكثيرين ينخرطون في أشكال وأنماط جديدة للتسويق والبيع والشراء. لذلك، أصبح تعلّم المعلوميات والبرمجة والتمكن من الحوسبة آخر القلاع للنضال من أجل الاستفادة من فرص الاقتصاد الرقمي. فلا مجال للرجوع إلى الوراء ولا وقت لتضييعه في النقاش حول التأثيرات الجانبية لهذا البراديغم الجديد في العمل؛ بل الأهم هو البحث عن كيفية الاستفادة منه قدر الإمكان. هكذا، يفكّر أصحاب المال والتجارة والخدمات.

أصبح كلّ شيء سلعة، هذا صحيح حتى مع التوجهات الرأسمالية التقليدية، لكن الجديد اليوم هو أنّ السلعة التي نبحث عن المتاجرة فيها، قد ظهر الكائن الذي سيزيحنا بسرعة من مسلسل إنتاجها وتسويقها. إنّه الذكاء الاصطناعي القائم على تكنولوجيا البرمجيات وأدمغة السيليكون الدقيقة والذكية. فبمجرّد ما سيتم توظيفه في التصنيع والخدمة والعمل بشكل موسع، أكثر ممّا هو عليه الأمر الآن، عندها سوف تحدث الكارثة الاجتماعية الاقتصادية الحقيقية؛ أقصد المأساة التي ستجعل الكثير من اليد العاملة عاطلة عن العمل، بل غير ذات فائدة للإنتاج الاقتصادي.  

إنّ البحث عن حل هذه المشكلة الجديدة يمرّ بداية بالاعتراف بأنّ النشاط الاقتصادي الراهن يستوجب منا ضرورة أن نستوعب تناقضاته، وذلك حتى نستطيع أن نعرف كيف نوجّهه للفائدة العامة. غير أنّ هذا الأمر لن يحلّ لوحده معضلة البطالة ما لم نغير كلية من مفهومنا المتقادم للشغل والوظيفة. لذا، سيصير علينا، وبكيفية مستعجلة جدّا، صياغة تصوّر جديد للعمل، بحيث يكون موجها نحو تحقيق الفائدة المشترك، حتى لا نقول الخير المشترك للجميع.

الواضح من هذه المستجدات والوقائع أنه لم يعد من الممكن التراخي في المسألة التعليمية لكي لا نبقى، ليس فقط عالة على غيرنا، ولكن هذه المرة على أنفسنا، خاصّة عند ما نجد كيف أن مخرجات تعليمنا في واد ومتطلبات الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في واد آخر. فإن لم تؤخذ هذه المسألة بمحمل الجدّ، سنكون هذه المرّة خارج التاريخ بكل ما تحمله هذه الكلمة من كثافة المعنى وقوة الدلالة.

 

الحسين أخدوش

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم