صحيفة المثقف

حركة العنوان في البؤرة السردية للقصة القصيرة

انعام كمونةالمشهد الأخير، للقاصة سلاف هلال ...

- ان القصة القصيرة من الأجناس القديمة المعروفة منذ الأزل والهبة الأولى لخلق الوجود كما ذكر في الكتب السماوية قصة أدم وحواء، وما بُني عليها من حكايات خيالية، وهناك تاريخ للقصص ميتافيزيقية الخيال مختلفة باختلاف الشعوب باعتقادات شتى نسجت من طبيعة البشر لاحتياجاته النفسية والروحية والاجتماعية، والقصة فن سردي من الفنون الأدبية الممتعة للقارئ ببنيتها الاجرائية كخطاب مرسل بكفاءة تطبيق تشكيلاتها السردية وعناصرها الحكائية، بكثافة واختزال وفنية تعبير بأسلوب الصور القصصية، وقد تنامت بمراحل عدة وتمظهرت بجمالية تتناسب مع الحداثة بسياقها الأسلوبي في التشكيل والتعبير بطريقة رؤيتها كما في الأجناس الأخرى

- العنوان / ....

- سيمائية العنوان أول السياق للدلالة عن رؤية النص ببنيته التشكيلية وتقنياته الفنية، ليستنبط منه القارئ الفكرة التأويلية الأولى لملامح السرد الحكائي، بما يحفز حفيظته الذهنية فيستشعر ملامح المضمون، لذا لعتبة العنوان اهمية موازية للبؤرة المركزية في القصة القصيرة بعناصرها الأساسية، منها المضمون الخطابي، سياق الأسلوب، ترابط السرد، طبيعة الشخصيات، تقنية الحوار، بنية العنوان وقوة الخاتمة، وغيرها...

- (المشهد الأخير) عبارة تقريرية ببنائها السردي الظاهري لموضوع رؤى القاصة، وعلامة اخبارية ببساطة اللغة تحيلنا لسميولوجيا العنوان باللفظ والمعنى، فالمشهد جمعه مشاهد في المرئي والمسموع، وما لصفة الأخير من استرجاع أولي سابق يدل على ذاته المستمرة من المشاهد مما يخلق فضول التطلع للقارئ، فيستفز قريحته الفكرية ليخترق قصدية العنوان بتساؤل بديهي ..هل المشهد خاتمة لمسرحية خيالية أو نهاية فلم سينمائي..!، وهل ذاتية المشهد درامي، ساخر، رومانسي..، أو تجربة حسية مؤثرة الحدث خلق خيال الرؤيا بصوت القاصة..؟، لذا تغوينا بنية العنوان، وتحثنا دلالة التكهن عن اي مشهد تعني لنصل للأخير..؟؟، سيجرفنا الاشتياق للوصول لِكُنه ذلك المشهد باسترسال وتَرَوي لمتابعة القصة من العتبة الأولى...

- تجلى تشكيل العنوان عمومية علامة لزمكانية لا متناهية، تشي بفضاء رؤية حاشدة بالسرد الزمني لعدة مشاهد سابقة قد تدل على ذاتية العنوان تسرده رؤى القاصة للوصول للمشهد الاخير..!!، ورغم الإشارة للمشهد بالأخير الا ان توقيته الزمني مبهم، قد يكون مساء أو صباحا..!، متواري ببراعة أدبية تتركه القاصة علامة احتمالية لاتساع رؤيوي يفيض افتراضا وتأويلا بما يتبادر لذهن القارئ، فالمشهد منظر مرئي يشغل حيز العرض تدركه الحواس بمتابعة وترقب...

- النص / .... المشهد الأول

- من المشهد الأول للعرض اعتمدت القاصة اسلوب الاختزال في العتبة الآتية، (مرارا وتكرارا تتبدل الوجوه أمام ناظري صاحب الكشك الذي يقع على ناصية شارع عمومي من شوارع بغداد المحاصرة بالموت من كل جانب)، من الدلالة التشكيلية للسرد في الاستهلال الزمني الآتي (مرارا وتكرار) نلاحظ من أثر المعطوف والمعطوف عليه تشكل دوران الحدث بين تابع ومتبوع في دائرة مغلقة اتقنته القاصة لتشي باستمرار حركة المشهد، وأشارت للمكان في أحد ضواحي بغداد وهي العاصمة العراقية ايماءة لبؤرة رمز تعطي بعدا شموليا لبقية مناطق الوطن وما طالها من رعب فاختصرت الكل في الجزء بإيحاء مدهش ومكثف بدلالة تفشي الموت في المدن...

- أما صاحب الكشك هو احدى شخصيات الحوار ورمزية فاعلة سنتعرف عليه أكثر في مشهد آخر يُعَد كاميرا التصوير لأي مشهد، يوثق الحدث بصوت القاصة فكلاهما شاهد عيان يتبادلان الأدوار حسب مقتضيات الحبكة الحكائية ...

- يتابع القارئ تفاصيل المشهد فيرى ويسمع ويتفاعل بسرد القاصة كشريط سينمائي في اللقطة التالية: (زبائنه عابرو سبيل ليس إلا، يدفعهم العطش أحيانا لشرب زجاجة بارد أو عصير معلّب، ويحثهم الإحساس بالقهر لحرق لفائف تبغ يبتاعونها منه لينفثوا من خلالها دخان نفوسهم التي تغلي كبراكين تنتظر لحظة الإعلان عن غضبها المتصاعد.)، نرى لا تاريخ معين للسرد لإيحاء عمومية زمن لطبيعة حياة متأزمة مرهونة بهدوء مؤقت وعاصفة حراك متوقع لعدم الاستقرار النفسي والاجتماعي كردود فعل رافضة للاجتياح الأجنبي بلا أي شرعية باقتحام مباح لكل الأماكن..!!، فتأويل الدلالة أن المواجهة حتمية بمشهد طارئ ...

- تنعكس الرؤية النفسية للقاصة بانفعال حسي وتأثر وجداني فهي عراقية الهوية، وطنية الجرح، فلا عجب ان تصور دقة المشهد بتماس القضية، في النسق التعبيري الآتي (وقد يشترون صحيفة تبيع لهم الوهم بهيئة أمل في اجتياز المحنة التي يعاني منها الوطن والمواطنون)، نستشف من مفردة (قد) إيحاء احتمالي الدلالة متردد ما بين الاهتمام والإهمال بالأخبار عموما والسياسية خاصة، فتحريف الحقائق سلطة المحتل والمواطن ليس بغافل...

- تستمر القاصة لتكشف عن طبوغرافية مشهد التواجد في الشارع، بسرد ذاتي المعاناة متجانس مع الواقع فتنقل المشهد بسيكولوجية الأنا بذهنية الكل لتعبر بما يكتنيه الموقف الجمعي باستخدام اشاري بضمير الغائب (هم في بلادهم)، كما في السرد التالي (رغم أن بلادهم لاتزال ترزح تحت أقدام المحتلين والمارقين والخارجين عن القانون والأعراف والدين.)، سرد مكتنز العبارة وتكثيف زمني باستخدام الأفعال المضارعة( لا تزال، وترزح ) لتؤكد على الماضي والحاضر والمستقبل وتجزم أن المواطن يتحدى الموت بكل لحظة، نتيجة صراعات سياسية دامية سببت حروب داخلية فنتجت تقلبات وتغيرات اجتماعية متراكمة بفوضى عارمة، ويبقى شغف القارئ ان ينتزع دلالة الرؤية بتأويل مشهد استمرارية حركة مجتمع عربي موجوع بهول صدمة التصدع ...

- وفي مقاربة بين الماضي والحاضر لتقريب مشهد الفكرة الذي يؤكد التناقض في أيقاع الحياة بتكثيف دلالة الوصف والجزم المطلق في الاشارات السردية التالية، (لم تعد الحياة كما هو عهدها في السابق، فالمدينة أضحت مرتعا للشر والأشرار، أَمْا أبناؤها فانقسموا بين قاتل وقتيل، لا شيء يدعو للتفاؤل وليس هنالك أمل لشعب حلم بالحرية فأغرقته الوعود في بحر من الدماء.)، تتمكن القاصة من التفصيل والتوكيد معا باستخدام أداة التفصيل (أما) في العبارة الآتية بما يتناسب مع الجزم السابق (أَمْا أبناؤها فانقسموا) لترسيخ إيحاء قوة الدلالة لمقاربة نوعية من الاضطراب الاجتماعي والركود الاقتصادي والتطاحن السياسي، مما يترك في قلب القارئ جرح وجداني نازف القهر للتمزق الحاصل، وبإغراق الشعب في بحر من التناحر الدموي لا طائل له غير ما يسعى له المحتل بتطبيق مخططاته بــ (فرق تسد) ...

- نستدل من واقع الدلالات الكمية والإشارات النوعية الحساسة على مقاربات تضادية متنوعة الدلالة.. بين القيد والتحرر ..التفاؤل والتشاؤم ..الخير والشر .. الأمل واليأس .. (إحالة لموت الضمير وكسر أواصر التواصل الإنساني)...

- المشهد الثاني: رمز الصداقة

تنقلنا القاصة لتقنية مهمة من تقنيات القصة بعرض فلاش باك باسترجاع الرؤى لأفق زمني سابق، لتستدرج القارئ للسعي في التوغل في فضاء القصة لمزيد من التشوق الحكائي كما في المشهد التالي، (لقد حظي في الماضي بصداقات شتى امتدت لأعوام، أيام كان للصداقة معنى وقداسة، لكن أين هم أصدقاءه الآن؟ منهم من طالته يد الغدر ففارق الحياة، ومنهم من آثر الرحيل أملا في النجاة من الموت الذي حطّ رحاله في هذه البلاد)، بسؤال دلالي مؤثر للقاصة لتعزيز رؤيتها الخبرية بحدث محتدم، فالمشهد يستعرض سيمائية قضايا متعددة الرؤى للمقاربة مع الماضي بإشارة مهمة لقداسة القيم الأخلاقية الواعية للتعامل بسلوك متحضر، كما ان ايحاء الصداقة طبيعة تعايش تشي بالسلام والتسامح والعلاقات الراقية بعدم التطرف والتفرقة بين الطوائف والأديان بما يوحي بالمقاربة التأويلية الدلالة للتناقض العكسي ...

- المشهد الثالث: مشهد عشوائية القتل

- ولمقاربة أكثر اتساعا لمشهد نموذجي تتناغم دلالاته ورمزيته مع فضاء العنوان، ويجيب على جزء من اشكاليته لسؤال القارئ بعرض حيوي مأساوي الأثر يوثق الصور المريرة للإنسان في المجتمع الشرقي المقتول بعدة سبل، تتناول مقاربة موضوعية التناقض بين الحياة والموت، وما يرادفها من دلالة مصيرية التضاد بين الحرب والسلام في الكيان التالي، (منذ يومين شيع جاره جثمان زوجته وهو في حالة ذهول جعلت الجميع يرثي لحاله، فلقد تركت له أربعة أبناء لا يعرف كيف سيدبر أمرهم في وقت عصيب كهذا. كانت تجلس إلى جواره في المقعد الأمامي من السيارة وهي في حالة حبور، ثم سكتت ضحكاتها على نحو مفاجئ)، والسرد للقاصة بحضور ضمير الغائب (هو) نستشعر رؤية مؤثرة لحالة نازفة الوجع في سياق رمزي، يوحي أن لا قيمة للإنسانية في بلد احتله أعداء الحياة فالموت وشيك بكل لحظة يوازي ما يحدث في متاريس الحروب، فلا فرق بين جندي في ساحة حرب أو فرد مسالم داخل المدينة ...

- نرى مقاربة المشهد بين فترتين وبما توحي بإلغاء الزمن في استهلال ذكي للقاصة في الفقرة التالية (منذ يومين) فأي يوم وأي وقت لا تاريخ محدد لمسرح الرؤيا، فكل الأيام متشابه بالوان الحزن والموت...

- كما إن الحراك السردي مكثف الرؤية يؤكده رمز المرأة بما يفيض من سعة دلالات فهي الخصب والنماء، دفء الألفة، وحضن الاحتواء، مقاربة حسية لكل تضاد وجودي للإنسان بمعادلة المشاعر الانسانية، ما بين الحنان والقسوة، الحب والبغض، الحزن والفرح.. فتطغي فلسفة الموت بميزان الحياة، فنرى توهج طاقة من الأحاسيس في مشهد واحد مما يلهم القارئ فسحة تأويل ثرية التحليل متسعة الرؤى مدججة بالألم ...

- نلاحظ من مشهد الفقد الفجائي دلالة مؤثرة عاطفيا ونفسيا باستهداف الأبرياء وقتلهم في أي لحظة، وكل الأماكن كما في السرد التالي، (ثم سكتت ضحكاتها على نحو مفاجئ) عبارة سردية فاعلة فمن رصاصة قناصة عشوائية الهدف أو متعمدة الإصابة بلا سبب أسكتت مهرجانات بغداد الجميلة والوارفة بالهدوء والبستها ثوب الحداد بفجأة الاغتيال وعبث الاحتلال، (احالة لتمزيق جسد وروح الوطن) ...

- للمشهد الرابع .. مشهد التعارف والحوار ...

- تستدرجنا القاصة لمشهد جميل بتعددية الأصوات وهو عنصر آخر للحبكة القصصية يتمظهر عبر التعارف بين شخصيتين، تستأنفه برؤية حميمية المشاعر ودفء الحوار بين جيلين مختلفين، هما شاب ورجل مسن، يتجلى خلاله تلاقي الماضي والحاضر، نشاهد مزج صدى الخيال بدراية الواقع مما يحصل في الشارع العربي عن مرجعية تجارب بمقاربة عاطفية بإحساس الألفة، فهاجس الارتياح يحفز الشعور الأبوي الفطري لصاحب الكشك تجاه الشاب نستدركها من العبارات التالية ( أشرق وجه صاحب الكشك حين أقبل عليه شاب في العشرين) ..(وهو يتفرس في وجهه الذي بدا له مألوفا منذ الوهلة الأولى)، وبآلية عرض تمهيدي لخاتمة

- تتجسد رؤى الحوار بين جيلين مختلفين تشير بمواجهة فكرية واجتماعية عفوية بطباع انسانية العراقي البسيط، ورغم قصر الحوار نتعرف على جزء من شخصية الشاب بتأويل مقتطفات أجوبته، بخصوصية مغلقة، وانشغاله الفكري، عدم اكتراثه بالاجوبة، وترقبه لشيء ما في الشارع سندركه فيما بعد ...

- سيمائية رؤيا مكثفة باستعارة رموز ثيمة الأسماء لتوجيه مسارات القصة لمستوى دلالي أقرب للمضمون وتسليط الضوء على الشخصيات المركزية للقصة لتظهر مفارقتها الرمزية للتعريف والوضوح، وباستخدام قواعد الاشارات الرمزية لإضفاء جمال التعبير والتشكيل المقترن بالدلالة الاستعارية عن القصد، فتؤهل الشخصيات لفحوى الخطاب، فنستشف من أسم الشاب (سيف) لذاتية الموضوع باستخدامه كرمز بغايته الغائرة، ومن ثم الفاعلة الدلالة في تفاصيل عتبة الخاتمة لتفسير الصراع الدامي والمحتد على المحك لتلفت القارئ للتفكر به لاستقرائه وتأويله، منه نستلهم الدلالة الظاهرية لنبرة الصوت بكثافة المعنى وقوة التأثير، وما يتضمن من باطن الدلالة عريكة التحدي بما يشي بضدية متوارية تؤكد ما للسيف من علامة تقليدية للقتل والانتقام، فحينما يشهر تدق طبول الحرب، أما حين يغمد فيمثل الأمن و السلام وبه يتوازى ميزان العدالة إن استوجب الحق، وهنا نستذكر قول أبي تمام (السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ  في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ) باختزال أوجه الدلالة، وسنرى غاية مفارقته الأكيدة في نهاية المشهد ...

- أما رمز اسم صاحب الكشك (أبو غايب) فينم عن إشارة غائرة القصد بمكونه الصوتي الظاهري لطبوغرافية تراث ببعده الاجتماعي المعروف لعكس عمق ما يكتنزه من دلالات العقم والحرمان والوحدة والفقد، فهو إحالة لمعاناة الوطن وتشظيه...

- المشهد الخامس (المشهد الأخير) الاستشهاد

تتجلى المفارقة الختامية بقفلة مدهشة فجائية التوقيت بمفارقة توازي علامية العنوان والعتبات التمهيدية السابقة فاستحضرت القاصة فكر القارئ وهدهدت مشاعره ليبحث عن قصد ما شاهد من لقطات وسمع من حوار فتراءى له منظر العملية الانتحارية البطولية بأوان مشهد انتحاري مشرف بكل ما يتمتع (سيف) من طراوة عمر ومستوى ثقافي وأحلام حياة، فلا يضاهي الوطن الا الروح لذا التضحية بالنفس من أجل طرد المحتل ورفض الأجنبي على ارض الوطن شجاعة بالغة بفخر عربي (فالجود بالنفس أسمى غاية الجود)، لا حرية بلا دماء وتحرير تراب الوطن بدماء مواطنيه، وما سيف الا رمز لكل مواطن عراقي ...

الخلاصة

- ومن خلال معايير إجرائية سابقة ومقاربات سيمائية، جوهرية الخصائص للقصة القصيرة من عناصر علامية، واشارات زمنية وشخوص رمزية وتقنيات فنية وأنساق سرد تقليدية بأسلوب فني مترابطة الأجزاء، متنامية الانسياب، مكتملة بكائن موحد الأسس، ومعمارية كيان بديناميكية موضوع نستكشف ان العنوان علامي المركز، متنامي الحركة من أول العتبات لخاتمة خطاب لاستشفاء سؤال القارئ ...

 

إنعام كمونة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم