صحيفة المثقف

"الحافة" للقاص المغربي خالد الكبير.. سردية تمسخ الكائن

احمد الشيخاوي[كما أن العاشق أكّد صحة ما أدلت به حبيبته القاصر مضيفا أنه كان يرغب بالزواج بها لكن والدتها رفضت تزويجه إياها بسبب عطالته](1).

في مجموعته القصصية "الحافة" الصادرة حديثا عن جامعة المبدعين المغاربة، يقف المتلقي عند حدود سردية مغايرة تماما، تنم عن روح جديدة في الكتابة القصصية، حين تتوسل الصور الأكثر غرابة، مغترفة من حياة الكائن الواقع في حيّز البرزخية، وكله من صنع الفاقة الملازمة وأضرب التخلف، في رحم ثورة العقل البشري، وهنا يطرح السؤال العريض، لماذا يظل المغربي متمسك بذاكرة الخرافة والشعوذة، في غمرة هذه العالمية والعولمة التي أفرزت خطابا جديدا وماديا صرفا بالأساس، في قراءة زمكانية ونصوص إنسان ما بعد مثل هذه الثورة وهذا الإزدهار..؟

ولك كامل هذا التسلّح بمنظومة أشكال الشحاذة والمكر والثعلبية والدهاء السلبي، كلون من الانحباس في عتمة الذات المشدودة إلى فخاخ الدوغمائية والأنانيات، قصد نيل الأقل والظفر بما هو بخس، وملطخ للسمعة والهوية والمنزلة، وفقا لتاريخ معين، راحت تتداخل معه حدود المفارقات والعجائبية والأضداد؟

وعموما، نلفي نصوص هذه المجموعة، مغرقة في صور جلد الذات، انتصارا لبهيمية مدسوسة، ومن أجل إثبات الذات، وإبراز مناحي القدرة على التفوق، وقهر الآخر، وإن بأساليب قذرة وغير مشروعة.

هو إغراق في صور مبطنة بالغرائبي، ومحيلة على خلل في ثقافة جيل، التبست عليه دروب الحقيقة والخيال، وعصفت به بينية الوجود، باشرئباب إلى المجازات والشطحات والتمكين للاوعي من مسرح النضال الذي يترجم دناءة وجاهلية الكائن، من جهة، ومن جهة ثانية، هواجس الانصهار في روح الواقعية واجتياز امتحانات الذات والوطن والحياة، عبر تقمص أدوار الشخصيات الأكثر خبثا ومكائد، عبر تراتيبة زمنية محددة، بل والذهاب أبعد من ذلك، الإتيان بأبجديات مختلفة ومتنوعة ومبتكرة في انتهاك حقوق الآخر، من خلال جلد الذات، بالطبع، وخلع رداء الإنسانية، بتفعيل المنوم في أدغال الذات، من بهيمية وبربرية متشربة من إستراتيجيات وتكتيكات العصر السالبة والناقصة والمشينة.

ومن هنا، الحافة، باعتبارها تيمة أليق بهذا المنجز المنذور للصور الشاذة، في عالم متكالب على حقوق الكائن، ووالغ بنتانة الإيديولوجي في نبع إنسانية هذا الكائن.

هو خلل وجودي مربك، تحاول أن تجسده هذه السردية في تملكها للحالة الإنسانية المقموعة بنظير هذه إكراهات، تملي عليها منظومة أقنعة، يمتزج فيها الواقع والخيال، ويسبح مع أفلاكها، منطق اللاهوت وفلسفة العقلاني.

نقرأ للقاص قوله: [وفي الأخير قررت مصالح الجمارك إرجاع العلبة لصاحبتها، والاعتذار لها عن عدم تنفيذ رغبتها ورغبة زوجها، وما إن حصلت الزوجة على العلبة الزجاجية قصدت حمام المطار لتشرف بعض الماء،على وجهها، كي تستفيق من هول الصدمة التي أحست بها عندما زفت لها مصالح المطار الخبر، لم تكن تعلم بزيارات زوجها المتكررة لبلده صحبة إحدى صديقاتها، ولم تفكر يوما أنه من الممكن أن يقدم على خيانتها. وبعدما انتهت واستفاقت من صدمتها، أفرغت محتوى العلبة بإحدى بالوعات الحمام، وصعدت بعدها مباشرة للطائرة وهي مبتسمة، كلها فرح في عدم تحقيق رغبة زوجها](2).

في قصة " الحافلة " التي استهل بها القاص المجموعة، نطلع على عالم النفاق واصطناع العاهة، بغية الهيمنة على الحيز الكافي الذي لا ينغص السفر.

راكب يدفع بحيلة ادعاء العرج، شهوة أربعينية، في تبوأ مقعد فارغ بالقرب منه، ولو أن مكان فتاة في بداية أنوثتها، وصغر سنها، كان سيبدّل الموقف، جملة وتفصيلا، زد على ذلك امتعاض سائقي الحافلات من مدونات التأمين، ما أضفى على الأقصوصة، نوعا من السخرية التي تعري عيوبا وأعطابا مجتمعية وبشرية .

والأغرب من ذلك، ما جرى على لسان السارد، في مناسبة تفضح التدجيل والسمسرة والمتاجرة في الدين، من خلال شخصيات "الفقيه " المتقلبة، حين ولج أحدهم مقبرة، وقد لبسه الرعب، من بضع شباب عكفوا على إدمان الحشيش، إلى أن انتهى به المطاف، في خصام ملتهب مع أحدهم منم يتكسبون بقراءة القرآن على الموتى، والمضحك أن هذا الفقيه طلب من خصمه، رخصة التلاوة على الموتى، وقد غررت به فتاة اتضح أخيرا أنها تعاني من مرض نفس وقد ألفت مثل تلك المواقف، وكيف أن القبر فارغ في الأصل، وأن أحدهم أعده لصالحه وأوصى بأن يدفن فيه، بعد موته، وتلكم مفارقة احتكار القبور التي باتت مكلفة في الكثير من مدننا، لكل أسف، مثلما تخبر بذلك قصة " حديث المقبرة".

وغير بعيد عن هذا المعنى، قصة الشخص الذي دل على طريقة تخلصه من عجزه الجنسي، تكمن في مضاجعة فتاة ميتة، وكان أن رشا حارس المقبرة ليتم له ما أراد، ليصعق في النهاية بجثة ذكر، زادت من أوجاعه وعمّقت حالته النفسية المزرية التي تلطخها أحاسيس الخيبة ومشاعر العجز الجنسي الثقيلة، كما في قصة " بركة القبور".

ويقول :

[وأشفق لحاله..وأخذ سؤال يلح في رأسه..ويطرح نفسه بقوة..ولم يستطع منه فكاكا:

- أي حظ تعس هذا الذي جعل هذا الطفل وأمثاله هكذا، ويدفع بهم إلى هذا المصير..؟

ظل يتابعه باهتمام.. وعن كثب والألم يعتصر روحه، وفجأة انطلقت الحافلة تغادر المحطة، فشيع الطفل بنظرة إعجاب وافتخار..وهو يلوح له بيده، فأجابه الطفل بابتسامة عريضة بريئة وهو يلوح له بإشارة الوداع](3).

إنها أمومة من نوع آخر، تتمزق لها هوية هذا الطفل الضائع، الذي تغتصب طفولته يوميا، على نحو مقزز،وداع على الخجل والانكسار، من مشهد ذابل، تنزف له إنسانيتنا.

وترشقنا أقصوصة " تبادل الأدوار " بمقلب يتبنى بعض النظريات العلمية الآخذة بالتفشي، فيما يرتبط بحمل الرجال، وهوز طقس يتم تدويره " حلميا " وعبر برزخية، غوصا في عالم العقم المثقل بالمعاناة والمكابدات.

كما أن أقصوصة " عروس لعريس آخر" تلعن راهن استثمار ضعف الأنثوي، بخاصة حين يصدر الانحراف والنشوز عن جهات تدعي التثقف والرقي والتحضر، وتشغر مناصب المسؤولية والأمانة في مؤسسات الدولة، قطاع الصحة هنا، بحيث سوف يغتصب ممرض فتاة صغيرة باغتها الداء ليلة عرسها.

ذلك ويتم تمرير كهذه رسائل ممعنة في دوال الشذوذ، وعق الفطرة، بكيفية هادرة ومرعبة، للتدليل على حساسية وخطورة مفرطة، باتت تعيشها مجتمعاتنا، تجنيا على الكائن، وتوليد لصور الانحراف النفسي والاجتماعي، المؤذن بالخراب والنهايات المأساوية.

تلكم مجموعة " الحافة " وقد عقّت هي بدورها أساليب القص، قديمها وحديثها، لتبصم خطابا مغايرا يحاول لملمة هوية الكائن الممسوخ، داخل أوساط تتلوى بين أوجه الاستنكار، وغض الطرف في الكثير من المناسبات.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

..........................

هامش:

(1) مقتطف من نص "العاشق العاطل" صفحة11.

(2) مقتطف من نص "جرة الرماد" صفحة 65.

(3) مقتطف من نص"طفل المحطة" صفحة119 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم