صحيفة المثقف

رهانات المستقبل اللبناني والتحرر من الخوف

بكر السباتينالحريق في لبنان سيعقبه الفرج.. الحراك اللبناني يغير قواعد اللعبة الطائفية ويقوض أحلام زعماء الطوائف في تثبيت اتفاق الطائف، الذي يقنِّن التقاسمَ الطائفي في الدولة اللبنانية ويشرذم طاقاتها باتجاه المحاصصة في المداخيل حتى أتخمت الطوائف على حساب الشعب المغبون المتعثر في أحواله المعيشية، واندلقت كروش زعماء تلك الطوائف وترهلت التنمية المستدامة في لبنان. صحيح أن المقاومة المتمثلة بحزب الله في الجنوب اللبناني، هي خط أحمر بالنسبة لمعظم اللبنانيين، والتي في نظر مؤيديها تعتبر مع الجيش اللبناني، صمام الأمان الضامن لأمن الجنوب اللبناني وحمايته من الأطماع الصهيونية التمددية التي تحلم بضفاف الحاصباني، لكن إسقاط الطائفية أيضاً سيعزز من قوة لبنان وتماسكه وتسرِّع من عجلة التنمية المتعثرة.. فلكل عنوان تفاصيله.. واليوم يرفع لبنان عنوان التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد بعيداً عن الطائفية البغيضة، من أجل لبنان قوي يحكمه قادة يتمتعون بالكفاءة ويحسنون التصرف في الأزمات كي تناط بهم مهمة إنقاذ لبنان.. وفتح الطريق أمامه نحو المستقبل.

لذلك يواصل اللبنانيون احتجاجاتهم في لبنان.. وتشهد البلاد شللا كاملا بعد ثلاثة عشر يوما من خروج المتظاهرين إلى الشوارع، حيث اتسمت بقطع طرقات رئيسية وتسببت بإغلاق المصارف والمدارس والجامعات، للمطالبة بإسقاط الطبقة السياسية برمتها، والسير وراء شعار لا للطائفية نحو لبنان يقوم على الكفاءات وانتخابات مدنية غير فئوية.

ومنذ 17أكتوبر، تكتظ الشوارع والساحات في بيروت ومناطق عديدة من الشمال إلى الجنوب، بالمتظاهرين في إطار حراك شعبي عابر للطوائف على خلفية مطالب معيشية ومحاربة الطغمة الفاسدة التي تتعامل مع لبنان كمزرعة يتقاسمون مخرجاتها مع زعماء الطوائف الذين ينتمون لأجندات خارجية، منها التي تقف ضد العدو الإسرائيلي وفق الأجندة الإيرانية كحزب الله وحركة أمل، والتي تتهمها الأطراف الأخرى باستحواذها على القرار اللبناني، وأخرى تستقطبها أجندة صفقة القرن والتي تحركها السعودية في لبنان مثل سعد الحريري وربما سمير جعجع قائد القوات اللبنانية، ناهيك عن وليد جنبلاط الزعيم الدرزي المشهور بتقلباته، وبعضهم ما لبثوا في ارتباط وثيق مع أحلام فرنسا الفرنكفونية مثل الكنيسة المارونية وبعض من لهم مصالح مباشرة مع فرنسا. وعليه فقد ظل لبنان رهينة لهذا التقاسم الذي وضعه المتظاهرون على محك الاختبار.

من جهتها قدمت الحكومة برنامجاً إصلاحياً طارئاً لإنقاذ البلاد ولكن لم ينفذ منه شيئاً بعد مرور أكثر من أسبوع على طرحه، وهذا ما جعل الاحتجاجات تتصاعد وترفع من سقف مطالبها المشروعة؛ لذلك قال الحريري في كلمة للشعب اللبناني، يوم الثلاثاء الماضي إنه "وصل إلى طريق مسدود"، ألحقها بعبارة توحي بأنه يقف مع مطالب الحراك الشعبي ربما لإنقاذ صورته المهترئة في عيون الشعب، قائلاً: "ولابد من صدمة لإحداث تغيير في البلاد".

صحيح أن رئيس الوزراء سعد الحريري قدم استقالة حكومته إلى الرئيس ميشال عون، يوم الثلاثاء الماضي بغية نزع فتيل الأزمة لكن الاحتجاجات ظلت مستمرة ولو بحدة أقل

ورغم ترحيب المتظاهرين باستقالة الحريري والهتافات المؤيدة للاستقالة في الميادين، إلا أنها لم تلبي كل مطالبهم والتي ارتفع سقفها إلى تغيير النظام السياسي في البلاد بعيدا عن المصالح الفاسدة والطائفية.. وأنها ضد الفساد وتطالب بحكومة فاعلة تعالج الأزمة الاقتصادية، مما أصاب البلاد بالشلل التام. أي أن النظام اللبناني برمته هو المستهدف.. ورغم ذلك ومع تراجع حدة الاحتجاجات أعيد فتح الطرق الرئيسية المغلقة يوم الأربعاء عقب استقالة الحريري، بناء على طلب الجيش، لكن بعض الطرق ظلت مغلقة.

ووفقا للدستور فقد طلب عون من الحريري الاستمرار في تسيير الأعمال لحين تشكيل حكومة جديدة، لأن مغادرته مكتب الرئاسة سيضع لبنان في أزمة حكومية عانت البلاد طويلاً للخروج منها ومن ثم تشكيل هذه الحكومة الهزيلة والمتصدعة حتى جاء الشعب ليوقظها من سباتها الطويل في جحر الطائفية والفساد بدون هواء يعيد إلى التنمية المستدامة الحياة.

مقابل كل ذلك، فإن اللبنانيين تعلموا من تجارب الربيع العربي الذي أحبطها الانتظار والتراخي حتى سقطت الشعوب العربية في أشداق السلطات المتربصة بها وأهلكتها الأجندات المتصارعة، فاستعادت الطغم الفاسدة قواها وتمددت في الدولة العميقة لكل قطر؛ وتجاوزاً لهذا المصير المحتمل؛ فقد عادت وتيرة الاحتجاجات في لبنان إلى التصعيد من جديد، حيث تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع دعوة للاعتصام أمام مصرف لبنان وأمام مقرات حكومية صباح اليوم الخميس الموافق 31 أكتوبر 2019، وهو الأمر الذي قد يؤثر على قرار استئناف عمل البنوك يوم غد الجمعة.

وكانت جمعية مصارف لبنان أعلنت أن البنوك ستستأنف عملياتها العادية وتستقبل العملاء ابتداءً من يوم الجمعة، منهية إغلاقاً استمر أسبوعين.

وفي سياق متصل، شدد بيان من قيادة الجيش على الحق في الاحتجاج السلمي، ولكن "في الساحات العامة فقط"، وحث المتظاهرين على المساعدة في إعادة الحياة إلى طبيعتها.

وقبل وقت قليل من إعلان الحريري، اعتدى مهاجمون بالعصي والحجارة على موقع التجمع الرئيسي للمتظاهرين في وسط بيروت. وعمد عشرات المعتدين على تكسير وإحراق الخيم التي نصبها المحتجون في ساحة رياض الصلح في وسط بيروت وهاجموا متظاهرين كانوا لا يزالون في المكان. وهرعت قوات الجيش إلى منطقة الحدث، وطوت الصفحة بتقديم الحماية للمتظاهرين الذين ثمنوا ذلك، واتهم البعض أنصار حزب الله وحركة أمل بافتعال الحادث، وربطوا ذلك بما فهم من خطاب السيد حسن نصر الله بأنه تهديد للحراك، بينما ارتدت سهام الاتهامات -من جهة أخرى- إلى مدسوسين ينتمون لأجندات سعودية تسعى لخلط الأوراق، وضرب الحراك من خلال حث المتظاهرين على الاصطفافات الطائفية خلافاً لما تنادي بها الحناجر حيث أجمعت على إسقاطها وقطع الطريق على أجندات مثيري الفتن الطائفية لصالح مدنية "لبنان" وطن الجميع، وإنعاش الديمقراطية الحقيقية التي تقيدها المحاصصة الطائفية، والبحث عن الكفاءات اللبنانية التي سيناط بها إنقاذ البلاد الذي عصفت ببنيته الاقتصادية والسياسية هذه الانتفاضة الشعبية القائمة على مطالب مدنية صرفة، وهذا بدوره سيعيد لبنان إلى مكانته بين الدول بعيداً عن الفساد الناجم عن التقاسم الطائفي وإهدار المال العام والتسيب في توظيف القروض الممنوحة للبنان من قبل صندوق النقد الدولي الذي أدى إلى إغراق البلاد في ديون أدرجته ضمن الدول الأكبر مديونية.. حتى وصل به الحد وفق شروط الجهات المانحة لفرض ضرائب على الوتسأب، وكانت الشعرة التي قسمت ظهر البعير، إذ انفجر الشارع اللبناني إزاءها لتفتح ملفات الفساد. وتراكمت الأسئلة في العقول، وأخذت الهلوسة السياسية زعماء الطوائف إلى منطقة الارتباك التي كسر فيها حاجز الخوف..

وللعلم فإن الاحتقانات بدأت في لبنان منذ نشوب حرائق الغابات في بيروت فكشفت المستور وعرت شبكات الفساد في الدولة العميقة. ويبدو أن ما خفي منها كان أعظم لذلك تستمر الاحتجاجات غير أبهة بالتهديد ولا الوعيد أو العنتريات مجهولة المصدر.. فالشعب يمتلك الآن زمام الموقف ويستعد للتغيير بعد أن غير قواعد اللعبة الطائفية في لبنان المأزوم من أخمص القدمين حتى الرأس، فأصيب الشعب المغبون برهاب الطائفية وفزاعة الأمن والأمان التي ترفرف فوق قلاع الطوائف.. والآن تأخذه اليقظة إلى التغيير والتحرر من الخوف.. ورهانات المستقبل قائمة على ذلك.

 

بقلم بكر السباتين..

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم