صحيفة المثقف

في ظلال السنديانة

بكر السباتينثلاث قصص قصيرة

في ظلال السنديانة

خرج من بينهم إلى الشرفة الخارجية تاركاً الوغى مشتعلاً، والشيطان يعربد في التفاصيل.. تلمس ذلك الشاب اليافع طريقه متكئا على بقايا صبره المرفود بثقافته المجنحة دون قيود، قاصداً على أقل من مهله ذلك الجانب المنعم بظلال السنديانة العالية، وهي تخترق الفضاءات من أمامه نحو السماء الرحبة، ويتذكر كيف أنه شارك المرحوم والده بغرسها قبل عقود، وكان حينها يوصيه قائلاً:

"الساكت عن الحق شيطان أخرس"

لكن الحقيقة تدمي صاحبها أحياناً، وها هو يخرج من بين أهله مضعضعاً، لمجرد أنه سئم من نعيق الغربان، فعل ذلك مبتغياً رد الطيور إلى أعشاشها.. "عدوكم يحتل فلسطين وتتباكون على كل شعوب الأرض! تخلون الساحة الفلسطينية وتنضوون تحت بنادق الغرباء في الجبهات الأخرى! هذا هراء! هل فكر أحدكم ولو بقرش واحد يتبرع به لضحايا غزة من الفلسطينيين، بينما تبذلون الغالي والرخيص لدعم ضحايا الإرهاب في جزر الواق واق!؟ هذا هروب وانهزام!".. نعم.. الشاب المنفعل يخرج لتوه إلى الشرفة تاركاً وراءه النقاش في احتدام شديد، حتى أن زوج أخته الشيخ سلامه نعته باليساري المتنكر لدينه! ليرد عليه والغيظ يعتصر ضميره قائلاً: ها هي فلسطين المحتلة من قبل الصهاينة لا يفصلنا عنها إلا الحدود! والأقصى يشارف على الانهيار، فيرد الشيخ عليه وكأنه نبي منزل:" يا هذا للبيت رب يحميه".. فيلوذ الشاب إلى الصراخ معبراً عن غضبه الجامح: "أنتم العبء على الدين فلا تسيئوا له بمكركم وكأنكم أولياء لا تقترف قلوبكم خطيئة".. وصار الشاب بعد هذه العاصفة الهوجاء خارج نواتها في الشرفة المشطوفة بضوء الشمس المتوارية خلف سنديانة الدار.. درئا منه لاشتعال الموقف إلى درجة الغليان. والتهم بالكفر تلاحقه.. يتهامس بها أصحاب البطون المندلقة وهم يعجنون الوسائد المحشوة بالبولسترين، والموزعة بألوانها الجميلة على الأرائك المصنوعة من الزان العتيق، والمنقوشة بالرسومات الفاخرة، تحيط بطاولات فرشت بأصناف الفواكه الطازجة، وأطباق المكسرات من النخب الأول، وأسنانهم تضرس وتطحن ما لذ وطاب وقد غاصت بهم صالة المعيشة الأنيقة في بيت العائلة الحجري..

خرج هذا الشاب إلى الشرفة وقد باغته إحساس طارئ بالغربة، حتى يجدد الهواء الفاسد الذي يملأ رئتيه، وقد انتابته نوبة سعال شديدة فانتفخت لهولها أوداجه، حتى كادت لفرط قوتها أن تخرج أحشاءه من فمه الملجم، فقد أسرف الشاب المتحمس في النقاش العقيم مع عقول ما لبثت أسيرة الماضي والأقوال المأثورة دون أن تنتزع الحكمة من جوهرها، فتصادر رأيه لمجرد أنه اختلف معها.. فاستراحت أنفاس العائلة لخروجه وحيداً كالمطرود من الفردوس!، كأنه جيفة تخلصوا منها أو شيطان آثم تحرروا من عربدته، كأنهم بذلك يصدون عن سكينة أرواحهم الهاجعة زوابع الفوضى والتغيير، الخوف يكتف عقولهم ويزج الطيور الخضر في أقفاص هم صنعوها بأنفسهم.. يحرمونها من فردوس الحرية لمجرد أنها غردت خارج السرب فاستحقت القمع بذريعة أنها لم تفقس من البيضة بعد! فهم لم يعتادوا على أسئلته اللاذعة التي وضعت اليد على الجراح.. وألجمت عقولهم المبرمجة على الطاعة العمياء للهاتف المقموع في حشاياهم المكفهرة. حتى أن أحدهم تمنى لو يلفظ هذا المقاتل العنيد أنفاسه ويريح أهله من تطرفه العقيم، حتى لو باغتوه يصلي لله فهو في نظرهم مرائي يسعى للظفر بودهم" هراء" وبالنسبة لهم فقد كان إذا ما حاورهم بطريقته التي تضج بالأسئلة المقلقة وكأنه يوقف اللقيمات في حلوقهم المرطبة بالزيف "نعم للزيف طعم الشهد لمن لا يميز طعم الشهد الأصيل"..

وها هو الآن في الشرفة الواسعة، والطيور من فوقه تتهادى هابطة على السنديانة وهي تغمر المكان بالزقزقة الآسرة.. وأصص الزهور الفخارية تنتشر على السور الحجري الواطئ المحيط بالشرفة وهي تعبق المكان بطيب القرنفل والنرجس مطلة بألوانها البهيجة على المروج الخضر المرقطة بشقائق النعمان الحمر، كأنه ثوب الربيع القشيب.. فيستشعر الشاب اليافع بالربيع مزدهياً في قلبه الشفوق، فيرتدي ثوب السكينة مع الذات، متنسماً أريج الأمل العابر للمسافات حيث لا عوائق ولا كوابح تسد في وجهه الطريق.

أحس الشاب بصهيله ينبعث من أعماقه الجامحة.. فاستدار بغتة إلى حيث الضجيج المتصاعد في صالة المعيشة حيث أفراد العائلة أخذوا يتصارعون في حوارات عقيمة لا تنتهي، كأنها حلبة أخذت تتصارع فيها الديكة ويتخللها نقيق دجاجات هربت إلى المطبخ المفتوح على الصالة الواسعة، وقد تسرب الأطفال من بوابتها إلى الشرفة، وكانوا يطاردون كرة صغيرة استقرت عند قدمه.. فاستوقفهم ذلك، وكان الطفل الرابض في أعماقه قد استيقظ على الموقف الجميل، فتحكم بعقله وراح على إثر ذلك يراوغ الصغار مداعباً، والأطفال يضحكون بمرح شديد، فاسترعى ذلك انتباه من بالصالة إذ خرجوا إلى ساحة اللعب وقد استعادوا مرابع الطفولة وشقاوتها، فتحولوا إلى أطفال أشقياء وهم يطاردون الكرة التي جمعتهم من جديد..

**

 (2) الحذاء وجرة العسل

اشترى متعوس الحظ، عدنان، حذاءً بالياً من سوق الملابس القديمة. دهنه جيداً.. ودق بعض المسامير التي كانت نافرة تحت ضبانه المتآكل.. وانتعله نافشاً ريشه كأنه امتلك الدنيا. فالحذاء بالنسبة لفقير مثله يعني امتلاك سيارة فارهة.. ثم مضى يطوف به الأزقة التي لم تعد تتسع لفرحته الغامرة، فيُخال له بأن عيون الدهشة تطل عليه من النوافذ المفتوحة، وأقرانه في الجوار يباركون له هذه الغنيمة الجميلة؛ لكن المتعوس فكر على طريقة الجرة والعسل. سيبيع هذا الحذاء في السوق بسقف السيل. ونجح في صفقة البيع؛ ليعود حافي القدمين إلى البيت والأرباح ترن في جيبه المثقوب بعد أن عقد بطانته الداخلية بخيط متين وجده على الأرض:

" لا بأس فالتجارة مغامرة" عبارة كانت تتجاوب دائماً في عقله المتحفز المتفائل وقلبه الذي يتقبل كل الإحباطات..

ثم ينتعل عدنانُ حذاءَ أخيه المثقوب المدسوس تحت خزانة الملابس المتهالكة. يخرج هذه المرة وأحلامه تداعبه متسائلاً في سره عن أفضل السبل التي سيستثمر بها ما جناه من نقود. ويا لسوء الحظ! فجرة العسل هذه المرة انكسرت لتضيع أحلامه! فثمة مفاجأة باغتته من حيث لا يتمنى.. حدث ذلك أثناء سيره الواثق على قارعة الطريق.. إذْ تم اعتقاله من قبل رجال الشرطة والأسئلة تزدحم في رأسه: "ترى ماذا يجري! أغيثوني بجواب!".

وأمام المحقق أدرك عدنان كيف أن التعاسة ولدت معه كما كانت تقول أمه:

"أنت قليل الحظ كوالدك المرحوم الذي تركنا جوعى في مهب الريح".

إنه الحذاء! إذ وجد المتعوس كل أطراف صفقته قيد التحقيق: "أنتم طرف الخيط لعصابة كبيرة تقوم بسرقة المحلات التجارية في سوق الملابس المستعملة".. حتى إذا ما أشار أحدهم إليه بالبنان صارخاً:

" هذا هو اللص يا سيدي"

تحول وجهه في لحظات إلى حبة بندورة من جراء الصفع والركل.. وبَلِمَ عاجزاً عن رد التهمة.. ثم زُجَّ به في الحبس. فصار المتعوس يفكر وهو قابع خلف القضبان كيف أنه لن يمشي منذ الآن إلا حافي القدمين "الحذاء اللعين". ولم تنته الحكاية عند هذا الحد.. لأن عدنان كان يفكر في الثغرات التي أفشلت صفقة الحذاء.. سيعيد الكرة من جديد.. وكان التفاؤل يأخذه إلى صورة المحقق وهو يبشره بثبوت براءته، ولسان حاله يقول:

"أتوقع حدوث الأمر، فقد قرأت ذلك في عيني ضابط التحقيق بعد أن يأس مني أثناء لكمته الأخيرة التي أصابتني بهستيريا أخافت الجميع".. كان عدنان أثناء ذلك يتحسس وجهه المتورم وذاكرته تعيده إلى حضن أمه وهي تربت على كتفه متمتمة:

"أنت متعوس الحظ كأبيك.. فقد...!".. وفجأة تنطوي كل المشاهد في رأسه المأزوم.. وتنخرس ذاكرته التي غشاها الطوفان.. وقد شنف عدنان اذنيه إلى السجان وهو ينادي على أسماء الموقوفين بصوته الأجش؛ ليراجع ضابط التحقيق من جديد.. ينتابه القلق.. يبدو لوهلة أنه سيقضي عمره يحلم بالفرج دون بارقة أمل تضيء له ظلام السجن الذي زج فيه مظلوماً، يرسل نظراته اليائسة إلى بوابة السجن، يلتهم الضجيج صدى صوته اليائس، كأنه يتجاوب مضخماً آفلاً في قاع بئر عميقة.. تدور به الأفكار في دوامة كأنها زوبعة رملية وسط الصحراء، ومشاعره التائهة تراوح بين جرة العسل وخيبة أمه بمتعوس الحظ الذي يشبه والده حيث فقد الرجاء. تأخذه الغيبوبة إلى ذلك الصقر الذي تجاوز السجن محلقاً في السماء وقد اختطف الحذاء من يد المحقق بقوة، صارخاً في وجه حظة السيء:

"هذا حذائي يا لصوص.. فقد دفعت ثمنه وأرغمت على المشي حافياً لأجل الربح".

لم يأبه عدنان بأزيز الرصاص الذي أطلقه لسان السجان وهو ينده على اسمه:" "أين أنت يا عدنان!".

ثم ساخراً:

" هل شربت الحليب يا ماما فنمت على القضبان!

خيبك الله..

هيا ورافق العسكري إلى ضابط التحقيق".

ثم يستأنف النداء.

**

(3) (برج الحمام والحريق)

قاده الشوقُ لبرجِ الحمامِ يشعلُ سيجارةً مستأنساً بالهديل..

" البرجُ ليس منفضةَ سجائرٍ"!!

قالها ماردُ الدخانِ المتلوي صاعداً فوق رأسهِ كأنه حارسٌ لحمامة الروح!! ولما انتبه على الحريق؛ أجاب مرتعدَ الفرائصِ كالمجنون.

"فقط! ألقيت قمع السيجارة خلفي".

فهبت الريح في وجهه غاضبة كالبركان:

خطفتُ من القمعِ رعونتك وألقيتُ به على الريشِ الذي يكسو حماماتِ البرج وزغبَ الصغار، فاشتعلَ الحلمُ وانكتمَ الهديلُ.. ومن حرارةِ الروح كما ترى بأم عينيك المرتعبتين؛ إذْ تنطلق قنابلٌ من روحِ وريشٍ عبرَ فتحاتِ البرج، لتتوهَ في مراميها؛ ويحتفي الموتُ بعدها بالقرى والحقول التي قلبت فيها النيران المتأججة المصائب وزرعت الموت..

أنت من أشعل الحريق أيها الأرعن الكسول..

***

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم