صحيفة المثقف

لا بدَّ مِنْ كَسَلٍ

شوقي مسلمانيكان يُنقِصُ ويُضيفُ

خلالَ القرونِ والآلافِ مِنَ السنين.

**

لكلِّ زمانٍ عقل أم لكلِّ عقلٍ زمان؟

لكلِّ مقامٍ مقال أم لكلِّ مقالٍ مقام؟

كلُّ حيّز له حركة أم كلُّ حركة لها حيِّز؟

حياةٌ لكلِّ مسافة أم مسافةٌ لكلِّ حياة؟

دمعةٌ في كلِّ عين أم عينٌ في كلِّ دمعة؟

وكلُّ جسمٍ في رحيل أم كلُّ رحيلٍ في جسم؟. 

**

لا بدَّ

مِنْ كَسَلٍ

لتطيرَ فراشةٌ 

رأوا محيطاتِ غابات

الظَهرُ كان محنيّاً

محاصراً بخطرٍ مِنْ كلِّ جهة

كنّا هناك وهم رأوا

انحسرتْ محيطاتُ الغابات

كانت أمواجٌ من الملحِ تتقدّم

انقضتْ أحقابٌ وأحقاب

بينَ الحجارة    

كنّا هناك وهم رأوا

وبعدَ كلِّ مرحلةٍ كانوا يقولون:

"كنّا في ضلال"

"بئسَ مَنْ أدركَ الفكرةَ وتخلّى عنها" 

"بئسَ مَنْ أدركَ الفكرةَ وانقلب"

"أعلّلُ النفسَ بالآمالِ أرقبُها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"

ابتسامةٌ عابرةٌ في ابتسامةٍ عابرة

يرتفعُ فيما يحفرُ ليهدَّ أساسات الخرافة

وها هو على قدميه، وها هو يزرعُ ويصنع

لسانُه ينطق، خيوطٌ وحبالٌ متقاطعة

ذاتها شبكة عينِ الكرةِ الأرضيّة

كأنَّ البدايات: سمكة

تمساح، سلحفاة، أسد 

ليس أن تصعدَ إنّما كيف   

على سلّمِ عظامٍ وجماجم

أم على سلّمِ موسيقى الحبِّ؟

يقول أنّ عينَ النظام

ذاتها عين العبث، حياةٌ وموت  

"أقسِّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ

وأحسو قراحَ الماء والماء بارد"

"بئسَ مَنْ أدركَ الفكرةَ وتخلّى عنها ". 

**

وقرّرَ مرّةٍ أن يفرَّ

ويوماً لم يقرِّر

وفي الوقتِ المناسب

ويوماً لم يعمل عملاً

في الوقتِ المناسب

لم يكن يوماً يأمل

وأيضاً هي المرّة الأولى

كأنّ الوقت المناسب متواطئ معه

أسرعَ وهمسَ للشمس

قيل أنّه همسَ لها عن مظالم

تُرتَكَب في الأرض

جهاراً نهاراً

لا وازع

ويسودُ ظلُّ القوّةِ الغاشمةِ

تُداسُ بالأقدامِ كلّ الشعارات

عن الحريّةِ والديمقراطيّةِ والعدالةِ 

ويقولُ بعضٌ أنّها صدّقتْ فقد رأتْ

استقرّتْ في كبدِ السماء

هبرجتْ، دلقتْ نيراناً رهيبةً صوبَ الأرض

رأى سيّدَه يركض ويحتمي بدارته مِنَ اللهب

جاءَ الوقتُ المناسب

 انطلقَ كالسهم

وهو لا يعرف إلى أين؟

ولكنّه يعرف أنّه يجب أن يبتعد 

ظلَّ يعدو بخطّ مستقيم

الريحُ تعبثُ بشعرِه

بلغ أرضاً رأى عندها بئرَ ماء

تذكّرَ أنّه رآها من قبلُ، مرّةً، قديماً

وهو بصحبةِ سيّده الجائر 

إنّه بئرُ السباع

والإسم مقتبَس من حادثة اعتداء سبع

على حمار للزير أبو ليلى  

الذي لجم كلَّ مَن يقول أنّه سبع

ثمّ هجم على السبع المستهتِر وجعلَ له رسناً

بعدما أشبعه لكماً وركلاً

وحتى سمعه يقول:

"سامحني أيّها البطل

لن أستهتر بعدَ اليوم أبداً"

واقتربَ الزيرُ مِنَ البئر

حيثُ حماره القتيل

ملأَ قرَبَ الماء

جعلَها على ظهرِ الذليل

وجرَّه نحو مضارب العرب صائحاً:

"هذه حالُ مَن يجني على حمار

كان يعيش آمناً في حمى العرب"

والحادثُة هذه انقضت منذ قرون وقرون

وقال أخونا لذاته:

"ما أدراني أن يكون بعض السباع قد فرَّ

ونجا بروحه في ذلك اليوم الرهيب 

وبلغَه نبأ موت الزير

ورجعَ إلى الناحية غير هيّاب

ليقتلَ ويسلب"؟

فرّتْ قبّرةٌ

كانت في عشٍّ قريب

أجفل   

ومِنْ دون أن يلتفت 

فرّ راكضاً كأنّه في مسّ

ظلَّ يعدو

حتى مَشارف مسافة

على امتدادِ النظر، جرداء

ولكن فيها شجرة عندها من هو مِنْ جنسه

اقتربَ فإذْ يقتعد حجراً

أمامه جهاز "لاب توب"

اقتربَ حذِراً أكثر

حيّاه بالزفير والشهيق ـ عين النهيق 

فربّما كان مِنَ الجنّ الشرِّير

فيضجّ ويختفي

ولا ضجَ ولا اختفى

واقتربَ منه أكثر بأقصى أقصى الحذر

أخيراً سمعَه يقول له  ولا يحيد نظره عنِ الجهاز: 

"اقتربْ يا بني، أنا لستُ جنيّاً شرِّيراً

أنا مِنْ جنسِك

حسناً فعلتَ أنّكَ فررتَ مِنْ وجه سيّدك 

طالما ضربك وأهانك بأمِّك وأبيك وعمومِ أهلك

ولكنْ أكثر ما استصعبتَه أنّه وحده يفوزُ بالأطايب

كاللوز والموز والأرزّ

وبالكاد يرمي لك الفتات

أخيراً بلغَ السيلُ الزبى يومَ التهمَ وحده سلّةَ توت

وحتى لم يلقّمك حبّةَ توتٍ واحدة"

وانتشلَ مِنْ تجويفٍ في جذع الشجرةِ دلواً

شربَ دامعاً، ثمّ قالَ متضرّعاً: "ساعدني"

قالَ مشيراً صوب جهة: "تنطلق غرباً

تصل إلى بحر، وتخوضه

ستبلغ بلاداً هي "أمّ الجماجم"

ودلعاً إسمها: "آنسات ونواعم"

تقصد كلّيّتها العسكريّة

تتعلّم بأجرٍ قدْره العملِ بالمجّان

وفي آخر السنة الدراسيّة سيكون إمتحان

وأنتَ وشطارتك: وسط، جيّد، جيّد جدّاً، ممتاز

ستنقلب إمّا ذئباً، إمّا ضبعاً، أو فهداً، وربّما  أسداً"

وتعاكَسَ الشيخ ذاته آليّاً، وأشارَ شرقاً، وقال: "شرقاً"

وبعدَ مسيرةِ يومٍ ستُشرفُ على رملٍ تعبر فيه سبعةَ أيّام

وستصل إلى واحةٍ مخرَّبةٍ تسمعُ منها صوتاً يقول لك:

"تأخّرتَ يا أبا صابر"

وسينبثقٌ جمَل، اتبعه، سيبلغ بك بلاداً إسمها الكتكوتيّة

ومِنْ فورك التحق بكلّيتها العسكريّة

وأنت وشطارتك بعدَ الحفظ والحفظ والحفظ

وقد تنقلب إلى غزال أو أرنب أو دجاجة

قاطعَه وقال له: "غرباً"

ودخلَ بلاد "أمّ الجماجم"

التحق بكليّتها العسكريّة

عاملاً بالمجّان نهاراً ودارساً عليهم ليلاً 

واجتهد بصبرِ حميرٍ مجتمعة

ونجح بإمتياز

وفي حفل التخرّج علّقوا على صدره ورقةً

قالوا مكتوب فيها: "أنا الناب والنابُ أنا

أنا البطلُ الرئبال قاتلُ النساء والأطفال"  

وحاولَ أن يقرأ المكتوب 

أعلموه أنَّ المكتوب ليس بالحبر الأسود الصيني

بل هو بالحبر الأبيض السرّي

أخيراً وهو في مرقدِه ليلاً

متباهياً بحالِه وبالعزّ الذي يرفل به

خطر له سيّده 

وحدّثَ نفسَه بالإنتقام

فجراً

حملَ كلاكيشه

عبرَ البحرَ بعدَ أهوال

بلغَ راكضاً ناحيةَ إبن جنسه

تمنّى لو لديه وقت ليمرّ عليه ويشكره

اجتازَ بئرَ السباع

حتى هو عند مشارف موطنه الأوّل

رآه أمامه بكلّ هيئته ينظر إليه بدهشة

قال له: "اندهشْ

يجب أن تندهش

لقد انقلبتُ إلى أسد 

هل تعلم بماذا سأجازيك

على بلاويك؟

سأثب عليك

سأنيّبك

سأخلّص الأرض منك

ومِنْ شرورك 

لكنْ لا

ليس قبل أن تموت ألف مرّة

قبلَ الميتة الأخيرة"

ولم يؤجّل عملَ اليوم إلى الغد  

رفعَ صوته زئيراً 

ردّدَ الصدى صوتَ نهيق

أيضاً وأيضاً رفع صوته

وأيضاً وأيضاً سمعَ الصدى نهيقاً 

تحسّسَ أسنانَه

لم يصطدم بناتئ

وسمعَ سيّدَه يقول له:

أحلفُ أنّ أنت هو أنت 

قفزَ نحوه

قبضَ عليه مِنْ رقبتِه

وقال: "أين كنت؟

أنا أشقى وأنت "دايرْ على حلِّ شعركْ"؟ 

وبعدَ فترة تواطأ معه الوقتُ المناسبُ أيضاً

فرَّ تحت غطاء مِنَ اللهب الآتي مِنَ عينِ الشمسِ المجنونة

مرَّ ببئرِ السباع، وترحّم على الزير، وبلغَ مشارفَ الخلاء، وقصدَ الشجرة

وكان شبيهُه تحتها على الحجر ذاته، وأمامه الجهاز ذاته

وقفَ خلفَه مِنْ دون أن يفتح فمَه أو يأتي بحركة

وبعدَ دقائق طوال قال الشيخ مِنْ دون أن يلتفت:

"أحمد الله على سلامتك يا بني"

والتفتَ ليراه على حالٍ تصعبُ حتى على الحجر

أحنى رأسَه، صرخَ به أخونا يائساً:

"عملتُ بمشورتك وانظرِ النتيجة

عصيُّ المايسترو سيّدي حفرت أثلامَاً في كلّ جسمي

هل حقّاً أنا انقلبتُ إلى أسد؟

أحلفُ أنّك ولا تراني حماراً

إلى مَنْ ألجأ؟

ماذا جنيتُ وعلى من اعتديتُ؟

أم لأنّي قليل الحظّ وهو مؤيَّد يجب أن يدوسني؟

لماذا تعينه علي"؟ 

قال الشيخ أخيراً: 

"لا يا بني"

ودعاه ليقرأ سطراً على الشاشة

وذاته قرأ:

"يجب

ومِنْ أي سبيل

أن نمنع وحدةَ البرابرة"

وقال كأنّما لذاته: 

"أيّها الأشرار.. إنّها مجزرة". 

***

محور مائل (5)

شوقي مسلماني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم