صحيفة المثقف

طرابلس تحرف المظاهرات عن سياقها المدني باتجاه الطائفية

بكر السباتينمن يقف وراء ذلك؟!

بدأت المظاهرات في لبنان وخاصة بيروت تحت مظلة محاربة الفساد ونبذ الطائفية بكل أبعادها والدعوة إلى وأد مخرجات اتفاقية الطائف التي يتمترس خلفها زعماء الطوائف في لبنان وتأسيس دولة مدنية تقودها حكومة تكنوقراطية تقوم على الكفاءات بغض النظر عن الطائفة، دولة لبنانية يمثلها شعار الأرز، وتمتلك أجندة وطنية خلافاً لما هو سائد حيث ارتباط الرئاسة اللبنانية اليوم بالكنيسة المارونية المدعومة من فرنسا، ورئاسة الوزراء السنية المدعومة من السعودية، والبرلمان اللبناني الذي يترأسه نبيه بري المدعوم من إيران.. دولة تمتلك جهازاً رقابياً محايداً لتخليص لبنان من الفساد وهدر الأموال العامة لتخفيف عبء المديونية اللبنانية وخدمتها، حيث أن مقترحات صندوق النقد الدولي ومنها فرض رسوم على خدمة "الواتسأب" هي من أشعل فتيل الثورة السلمية في بلاد الأرز. ولكن ثمة أمر مريب يحدث في شمال لبنان.. وأعني هنا طرابلس ثاني مدن لبنان من حيث الكثافة السكانية وعوائد ناتجها المحلي على الاقتصاد اللبناني، وهي ذات غالبية سنية.. فقد جاء من بين الجموع الغفيرة التي تبنت شعار محاربة الفساد وتقويض الطائفية من يؤجج نارها وينفخ في الجمر حتى ينشب الحريق الذي لا نتمناه للبنان الذي ما زال يعاني من نتائج الحرب الأهلية منتصف العقد السابع في القرن الماضي، والتي لم تبق ولم تذر.. ولو تتبعت موقع طرابلس من خريطة الأحداث الإقليمية لأشرت ببنانك إلى فئات سلفية مدسوسة ذات أجندات باتت مكشوفة، تسعى لإخراج الحراك الشعبي في عموم لبنان من سياقها بتبني شعار ات طائفية ضد حزب الله مباشرة، دون احتساب الوضع الأمني في جنوب لبنان ودور الحزب في ضبطه مسانداً في ذلك الجيش اللبناني، مع أن الشعار العام لمظاهرات لبنان الذي ينادي بوأد الطائفية سيشمل الملف السياسي لكل الطوائف اللبنانية نحو دستور مدني بعيداً عن المحاصصة واعتماداً على الكفاءات. وكأن الغاية من إثارة الفتن الطائفية هو إعادة خلط الأوراق من جديد في منطقة ملتهبة، فمن يقف وراء رفع هذه الشعارات الطائفية يا ترى!؟

هذا يعيدنا إلى بعض الحقائق التي تتعلق بلبنان*"ما لبث هدفاً رئيساً للتطرّف والتشدّد الإسلاميين منذ اندلاع النزاع السوري العام 2011. وقد فتك المتطرّفون المُلتحقون بجماعات جهادية سلفية (على غرار تنظيم الدولة الإسلامية المُعلن ذاتيا، وهيئة تحرير الشام المعروفة سابقاً بجبهة النصرة ثم جبهة فتح الشام) بأعداد كبيرة من المدنيين، عبر عمليات تفجير انتحارية وهجمات بالصواريخ داخل بيروت وخارجها، وخاضوا معارك دامية مع الجيش اللبناني. وفي العام 2014، كانت أعداد هذه الجماعات وقوتها تتنامى إلى درجة أنها باتت تُسيطر بفعالية على أجزاء من سهل البقاع، وصيدا، وطرابلس، حين كانوا يسعون، وفق ما قال مسؤولون أمنيون، إلى إقامة (إمارة إسلامية)". هذا ما قاله رافاييل لوفيفر في كتابه "الجذور الاجتماعية- السياسية للتطرّف السلفي في لبنان" وهو باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث تتركّز أبحاثه على الحركات الإسلامية السنّية في لبنان.

صحيح أن طرابلس مثلت ذات يوم منطلق الدعم اللوجستي السعودي لتنظيمي النصرة وجند الشام في سوريا كونها تمثل معقل السلفية الجهادية، وفق أجندة طائفية أدرجت حزب الله والجيش العربي السوري في قائمة "الزنادقة" الأعداء، وكأن ثقافة المدينة تقوم على مركزية المكون الطائفي.. إلا أن هذا لا يعني بأن الطرابلسيين هم جزء من المشروع السلفي رغم أن المكون السني يشعر بالغبن في كثير من الملفات الداخلية إزاء مكتسبات الطوائف الأخرى، لأن السلفية استقطبت الكثير من العرب وخاصة الخليج العربي.. فهل يكون الحل برفع شعار الطائفية الذي يتبناه السلفيون! وما يرافقه من خطاب إعلامي بربوغاندي تضليلي لضرب خاصرة سوريا كلما استعادت عافيتها! وتحويل لبنان إلى اسفنجة لامتصاص الارتدادات الناجمة عن فشل المشروع السلفي المدعوم سعودياً، فلبنان وطن الجميع كما هي سوريا.. والدور التنموي الذي يقوم به السلفيون في المناطق الفقيرة جعل لهم قاعدة جماهيرية لا يستهان بها.. طبعاً هذا لم يكن متاحاً دون الدعم الخليجي مثل ببناء المدارس والمراكز الصحية ودعم المبرات ودور الأيتام، وهذا ما جر طرابلس لتكون منطقة الدعم اللوجستي للنصرة وجند الشام.. وربما من هنا توقدت أحلام السلفيين لإقامة إمارة إسلامية في جزء من لبنان على محاذاة سوريا تمهيداً لإقامة دولة الخلافة فيها.

وأخيراً ينبغي العلم بأن الطرابلسيين يمثلون جزءاً من المكون السني في النسيج اللبناني، ولا بد أن يتمسكوا بخيار إسقاط اتفاقية الطائف لصالح دولة مدنية يستطيع أي لبناني يتمتع بالكفاءة اللازمة من تبوء أي منصب مفصلي في مرافق الدولة الحساسة، وفق بنود دستور يكفل له ذلك، ونظام ديمقراطي حقيقي.. فالطائفية تمثل العدو الأشرس للبنان يأتي بعده العدو الإسرائيلي المتربص بوحدة لبنان والذي يقوم كيانه على طائفية الدولة "اليهودية" الذي يتمترس ضده حزب الله بالتنسيق مع الجيش اللبناني؛ لتحقيق معادلة الردع الموضوعية التي يؤمن بها معظم اللبنانيين من كل الطوائف على أن تظل قواتهم في ثكناتهم من حارة حريك حتى الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة.

من هنا لا بد من العودة إلى شعار "كلنا لبنانيون بكل طوائفهم.. معاً لدولة مدنية تتمتع بدستور غير طائفي" كسائر بلاد الأرض.. لذلك لا بد من تنقية الفضاء اللبناني من سموم الشعارات المثيرة للفتنة الطائفية.. فلبنان لكل اللبنانيين، ومرافق الدولة للكفاءات اللبنانية بعيداً عن المحاصصة الطائفية البغيضة حتى يقتلع الفساد من جذوره في الدولة العميقة وتشابكاتها الطائفية.

 

بقلم بكر السباتين..

6 نوفمبر 2019

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم