صحيفة المثقف

التسامح حق للجميع على أساس الاعتراف بالآخر وحماية حقوقه

1223 التسامح لماجد الغرباوي(التسامح يعني الاعتراف بالآخر والتعايش معه على أساس حرية العقيدة وحرية التعبير دون تكرم أو مِنَّة)... ماجد الغرباوي

(التسامح هو ضرورة حياتية، تبقى الحاجة قائمة لها ما دام هناك إنسان يمارس العنف والإقصاء والتكفير، ويرفض التعايش السلمي مع الآخر المختلف. وتتزايد الحاجة للتسامح مع اتساع رقعة التنوع الإثني والديني؛ لامتصاص تداعيات الاحتكاك بين القوميات والثقافات والأديان المختلفة).

هذا هو فحوى كتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح"1 للأستاذ ماجد الغرباوي.

يرى الكاتب أن ما نشاهده اليوم من صراع محتدم بين القوميات والأديان والمذاهب يكشف عن رخاوة الأسس التي يقوم عليها مفهوم التسامح أو غيابه، فهو في نظر الأوساط المتصارعة، لا يعدو كونه قيمة أخلاقية تتحكم بها المؤثرات الاجتماعية والسياسية. وهو في أحسن الأحوال منّة وتفضل مشروط؛ قد ينقلب إلى ضده إذا فقد رصيده الأخلاقي، وما نحتاجه فعلا لتوطيد العلاقة بين الطوائف والقوميات مفهوم يرتكز إلى أسس. فالتسامح إذن هو حق لجميع الأفراد على أساس الاعتراف بالآخر، وحماية حقوقه2.

يتوقف الكاتب مع دلالات التسامح في اللغة والاصطلاح، فهو  لغوياً مشتق من السماحة أي الجود. والمسامحة تعني المساهلة، وسمح: جاد وأعطى عن كرم وسخاء؛ ليخلص إلى أن الدلالة اللغوية للتسامح تستبطن المنة والكرم. أما في الاصطلاح فهو: (موقف ايجابي تجاه العقائد والأفكار، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة؛ بعيدا عن الاحتراب والاقصاء؛ على أساس شرعية الآخر المختلفة دينيا وسياسيا، وحرية التعبير عن آرائه وعقيدته)3.

يتساءل الكاتب: ما المطلوب من الشخص المتسامح؟ هل المطلوب التنازل عن القناعات الفكرية والعقدية نزولاً عند رغبة الآخر، أو ضرورة يقتضيها التسامح؟ أو أن التسامح يعني الانصياع والتبعية والرضوخ للمختلف؟    يجيب بأنه لا هذا ولا ذاك، وإنما التسامح يعني اعترافاً بالآخر والتعايش معه على أساس حرية العقيدة وحرية التعبير، لا تكرما ولا منة، وإنما حق باعتبار تعدد الطرق إلى الحقيقة، وأن هذه الأخيرة موجودة لدى جميع الاتجاهات العقدية؛ على أساس وحدة الحقيقة وتعدد التجارب الدينية.

منابع اللاتسامح

أما في الحديث عن منابع اللاتسامح، فيقول الكاتب، "تتعدد منابع اللاتسامح تبعاً لطبيعة المجتمع ثقافيا وفكريا وعقيديا، وأيضا تبعا لمستوى حضور الدين، ومدى تمسك المجتمع بالقيم الدينية والأخلاقية. لكن ثمة منابع تعد الأهم بينها، وهي المنابع التي تفضي إلى التعصب الديني والقبلي والسياسي؛ وما ينتج عنها وما يعمق وجودها ويركز فاعليتها من مفاهيم وقيم. ولا شك أن تفكيك هذه البنى وإعادة تشكيلها؛ بما يخدم قيم التسامح وبناء مجتمع متسامح، مهمة شاقة وصعبة، تتطلب خطاباً ثقافياً وفكرياً قادراً على تشكيل أجواء تساعد الناس على التماهي مع القيم الاجتماعية الجديدة، والتخلي عن القيم السلبية الموروثة، أي التماهي مع قيم التسامح من أجل بناء مجتمع يمكنه استيعاب التناقضات والتقاطعات الحادة بين الأديان والمذاهب والقوميات"4. متوقفاً عند بعض مصادر اللاتسامح، منها:

- منطق العنف: لقد ظل العنف منطقاً مستحكماً داخل المجتمعات غير المتحضرة، أي المجتمعات التي ترفض الاحتكام للقانون، وترتكز للعنف في تقرير مصيرها، وانتزاع حقوقها، وتسوية خلافاتها. واستمر العنف صفة ملازمة لكثير من الشعوب؛ رغم اختلاف الظروف وتطور الحضارات. ولهذا الظاهرة أسبابها وجذورها التاريخية، حيث يقول، "فلجوء الإنسان البدائي للقوة والعنف كان دفاعاً عن النفس؛ بسبب الأخطار المحدقة به. ولما ظهر التنافس بين أبناء المجموعة البشرية الواحدة واحتدم الصراع على المراعي والحقول، لجأ الإنسان للعنف والقوة للدفاع عن حياته وعائلته وممتلكاته"5. ما يستدي فهم مهمة ثقافة التسامح، وضرورة انتشارها، وتثقيف الشعب عليها؛ عبر خطاب مؤهل، قادر على استنبات قيم جديدة، بدلا من النسق القيمي الذي نطمح لاجتثاثه؛ حتى يصبح التسامح مسؤولية تاريخية، يتصدى لها جميع أبناء الوطن، من أجل الوطن ووحدته وسلامته وأمنه ومستقبله.

- الولاء القبلي: لقيم العشيرة أو القبلية تداعيات خطرة في إطار مجتمع يضم عددا من القبائل، لا سيما حينما تتصادم القيم فيما بينها، أو بينها وبين قيم وقوانين الدولة. ولعل أهم هذه التداعيات انشطار الولاء، الذي هو عماد التماسك الوطني، وركيزة وجود الوطن، الذي سينهار وتلتهمه الانقسامات وتقاطع الولاءات؛ إذا لم يشعر الفرد بانتماء حقيقي للوطن. ما يعني أن العقل الجمعي للقبيلة يمثل خطرا كامنا، إذ يمكن تعبئته وتحريكه بشكل غير واع.

- التطرف الديني: يعتبر التطرف الديني أحد أخطر منابع اللاتسامح، لتلبسه ببعد شرعي، وتوظيفه للنص الديني، وقابلية الناس لتصديق، وقدرته على التخفي والتستر تحت غطاء الشرعية، والواجب والجهاد والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ما يستدعي "وعي يعري حقيقته، ويكشف زيفه، وإلا فإنه ينطلي بسهولة على ذوي النوايا الطيبة من البسطاء، ممن لا يفقهوا أساليب الخطاب وطريقة توظيف الآيات، ولا يميزوا بدقة بين الأحاديث والروايات الصحيحة والموضوعة. وما هو عام في النص وما هو خاص، وأيهما مقيد وأيهما مخصص، وإنما يكفي لتصديقها والتفاعل معها انتماؤها للمراجع الاسلامية، بما فيها كتب التراث، وأقوال الرجال، أي الخطاب النصي والشفهي؛ بل إن تأثرهم بكلام الخطباء أقوى وأسرع، لذا ليس غريبا أن يكون أكثر المتطرفين الدينين ممن لم تسعفهم كفاءتهم العلمية والثقافية في إدراك الحقيقة"6.

أسس التسامح

أما أسس التسامح، فمتعددة برأي الكاتب، ومنها:

- حقوق المواطنة: ويرى أن المجتمع إذا لم يكن مهيأ نفسيا وفكريا وثقافيا للاعتراف بالآخر، لأي سبب كان، فإن قبول الآخر وقبول التعايش معه أمر تفرضه وحدة الوطن، من أجل استتباب الأوضاع واستقرار الأمن والسلام. ولذلك تشكل حقوق المواطنة أحد الأسس الكفيلة بإرساء دعائم التسامح داخل المجتمع. فالالمواطنة ليست "سوى الاعتراف بالآخر وبحقوقه، وقبول التعايش معه سلميا وفق حقوق مشتركة لجميع المواطنين (حسب نضج المجتمع فكريا). وهي قضية تمليها وحدة الوطن والحرية الشخصية والاعتراف المتبادل بين أبناء الشعب جميعا. رغم تنوع خصوصياتهم. أي أن جميع الأفراد، وفقا لحقوق المواطنة، متساوون في الحقوق والواجبات على أساس التساوي في انتمائهم للوطن الواحد"7.

- سيادة القانون: فكما أن حقوق المواطنة هي الأساس الأول لإرساء قيم التسامح في المجتمع، فالقانون وسيادته هو الأساس الثاني لها. بل لا يمكن للتسامح الاستمرار في تأثيره الاجتماعي، ما لم يكن هناك قانون يستند إليه ويدافع عن قيمه. ما يعني أن تثبيت الحقوق وفرض الواجبات وتحديد السلطات، تتوقف جميعها على وجود قانون فاعل، يتوافر على قوة ردع عالية. لذلك صارت حقوق المواطنة إحدى القضايا التي تتوقف فاعليتها على وجود قانون متماسك وفاعل. أي كما أن حقوق المواطنة تحتاج إلى قاعدة فكرية وثقافية متجددة تغذي أبناء الوطن الواحد بقناعات حقيقية، تحتاج هي أيضا إلى قانون لتفعيلها وحمايتها.

- إعادة تشكيل قيم التفاضل: معتبراً أن الارتكاز إلى القيم الإنسانية سيكون الحل الأمثل لمشكلة تعدد القيم، وتسوية التفاضل الطبقي القائم على منظومة القيم ذاتها. هذا إذا أخذنا بنظر الاعتبار تأكيد الدين على البعد الإنساني في العلاقات العامة داخل المجتمع المتعدد. فالناس في نظر الاسلام إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

ويرى الكاتب أن التفاضل في القرآن يقوم على أسس منها:

- التقوى: مصداقا لقوله تعالى، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ". وفي المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". ما يجعل "التقوى قادرة على كبح جماح النزوات الشيطانية لدى الإنسان وخلق أجواء حميمية مفعمة بالحب والوئام"8.

- العلم: وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في بعض آياته التي أشار مضمونها إلى أفضلية المؤمن الذي أتى علماً، التي ربما –بتعبير الكاتب- تشمل مطلق الإنسان العالم، وليس شريحة خاصة. قال تعالى، "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ". ولا شك أن العلم الذي تنتفع منه البشرية يستحق التقدير والاحترام، ويصلح بجدارة لأن يتحول إلى قيمة تفاضلية، يفضل على أساسها الإنسان العالم، احتراماً وتقديرا لجهوده الخيرة في خدمة البشرية. أما إذا قام التفاضل على أسس لا إسلامية، ولا إنسانية، فهو ليس تفاضلاً؛ بقدر ما يكون تحقيراً للآخر ونوعاً من التعالي والإعجاب بالذات.

- إطلاق الحريات العامة، فهي تلعب دوراً كبيراً وفاعلاً في ترسيخ قيم التسامح بين أبناء الوطن الواحد. والعكس عندما يعيش الشعب الاضطهاد والكبت والحرمان، فإنه يفضي إلى الخوف والنفاق والتكتم واخفاء الحقيقة وانتشار العنف واللاتسامح. ويبقى الوضع في حالة ترقب وتأهب وإنذار مستمر، حتى تتحول النشاطات الفكرية والثقافية إلى حركات سرية. وهنا تكمن الخطورة، والحل هو الحرية؛ وفق ضوابط معقولة ومقبولة.

وفي الأخير أكد الكاتب على أهمية الرحمة التي تعتبر عامة لا تختص بفرقة أو جماعة وإنما هي شاملة. وهو ما عبَّرَ عنه قوله تعالى، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ". وما لا ريب فيه، إنه حيثما كانت الرحمة فلا كراهية ولا إكراه، وذلك أن الكراهية من لوازم العدوان والنقمة، بينما الرفق والعطف والرأفة والعدل والإحسان من لوازم الرحمة.

 

الكاتب: عبد الغني الزردي

نقلا عن مجلة تعايش

https://peacems.com/taayosh/articles/other/o-a05-az/

................................

هوامش

1- التسامح ومنابع اللاتسامح.. فرص التعايش بين الأديان والثقافات، ماجد الغرباوي، ط 2008م، اصدار الحضارية، بغداد، ودار العارف، بروت.

2- المصدر نفسه، ص11.

3- المصدر نفسه، ص20.

4- المصدر نفسه، ص26.

5- المصدر نفسه، ص 27.

6- المصدر نفسه، ص 56.

7- المصدر نفسه، ص 76.

8- المصدر نفسه، ص 118.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم