صحيفة المثقف

تداعياتُ أوَّلِ الشِّتاءِ ..

عاطف الدرابسةحين أخرجُ من الخريفِ، وأضعُ حرفي في أوَّلِ الشِّتاءِ، أُحسُّ بأنَّ ما أكتبُه يتيمٌ، يُشبِهني ويُشبِهُ آلافَ النَّاسِ .

أوَّلُ الشِّتاءِ، أزرعُ حروفي في قلوبِكم، تأتيكُم صادقةً ؛ لأنَّ قلبي ينبضُ بصدقٍ وبساطةٍ، وحين أتحدَّثُ عن الحبِّ الذي أحملُه لكم، ولهذا العالمِ، فإنَّ هذا الحبَّ يأتيكُم صادقاً بريئاً، فهو مرتبطٌ على نحوٍ ما بحالةِ اليُتمِ تلك .

في أوَّلِ الشِّتاءِ، تبدو لي المواقدُ امرأةً، مرَّةً تُشبِه أُمِّي، ومرَّةً تُشبِه حبيبتي، وبيني وبين النَّارِ علاقةُ دفءٍ وبرودةٍ في آنٍ .

حين أُواجهُ موقدَ النَّارِ، أُحسُّ بيُتمِي أكثر، وأحسُّ بجسدِي الغائبِ عنِّي منذُ زمنٍ أكثر، فتُحاصرني الأسرارُ، حصارَ العدوِّ، وأشعرُ بأنَّها تحاولُ أن تفلِتَ من صدري، ومن عقلي، لتضعَ نفسَها في قلبِ النَّارِ، وحين يغمرني اللَّيلُ، ويرسمُ صورتَه في أعماقي، يظهرُ على وجهي بشكلٍ مختلفٍ، وكأنَّه يستعيدُ شكلَه القديمَ، حين كان مأوىً لأحلامِ العُشَّاقِ، وقُبَلِ العذارى، ومكرِ السِّياسيِّينَ .

أشعرُ أنِّي بحاجةٍ إلى مصباحٍ لا يُشبه المصابيحَ، يُضيء بشُعلةٍ من أنفاسي، أو بشُعلةٍ من جمرِ روحي، أو بشُعلةٍ من أغصانِ حرفي، حين صارت هذه الأغصانُ حطباً .

وبيني وبين مصباحِ أوَّلِ الشِّتاءِ، علاقةٌ ترتبطُ بقانونِ الجاذبيَّةِ، فحين يرتعشُ جسدي، أو يرتجفُ قلبي، أرى شُعلةَ النَّارِ بين زُجاجِ المصباحِ ترتجفُ، وترتعشُ، كأنَّها تشعرُ بالبردِ مثلي .

حين أدخلُ في أوَّلِ الشِّتاءِ، أشعرُ بعقلي يتخلَّى عنِّي، أو يخذلُني، كلَّما حاولتُ أن أفكَّ غموضَ حالةٍ، أو أُفسِّرَ رمزاً بقصيدةٍ، أو بلوحةٍ، أو بقصةٍ قصيرةٍ، تتوقَّفُ أجهزةُ عقلي عن العملِ تماماً، كأنَّ هذا العقلَ عتيقٌ في العمرِ، لا تُجيدُ أجهزتُه فهمَ ما جرى، وما يجري، ويبدو أنَّه مصابٌ بالجمودِ، يرفضُ أن يعملَ خارجَ اللُّغةِ، أو خارجَ الدِّينِ، أو خارجَ التَّاريخِ، كأنَّه مولعٌ بالقيودِ، ربَّما أنَّه متأثِّرٌ بحكمِ البيئةِ، أو التَّكوينِ بالعقلِ العربيِّ، فهذا العقلُ لديه موقفٌ من التَّغييرِ، أو من التَّجديدِ، أو من الفلسفةِ، أو من المنطقِ، أحاولُ أن أجدَ مُسوِّغاً لذلك، فتقودُني الأسبابُ إلى السُّلطةِ وتجليَّاتِها، فكلُّ العقولِ السُّلطويَّةِ، هي عقولٌ ثابتةٌ، راسخةً رسوخَ جبالِ الشَّراة، أو رسوخَ صخورِ وادي رمٍّ.

كلَّما دخلتُ في أوَّلِ الشِّتاءِ، أُصابُ بحالةِ انفصامٍ، فينقسمُ عقلي نصفينِ : عقلاً بدئيَّاً خالصاً، يستبطنُ وحشيَّةً فيها غُلوٌّ، وهمجيَّةٌ فيها فوضى، ويذهبُ إلى أقصى حالاتِ التَّطرفِ، وعقلاً مثاليَّاً، يتكلَّفُ الفكرةَ، والمعرفةَ، والتَّجددَ، والانعتاقَ، ولكنَّه سرعانَ ما ينحسرُ كانحسارِ اليقينِ، أو الإيمانِ في النَّفسِ، فيعودُ إلى شكلهِ الأوَّلِ: عقلاً متوحشاً همجيَّاً، لا يُفرِّقُ بين الرَّقصِ على إيقاعِ الماءِ، والرَّقصِ مع الدِّماءِ، حين يُؤمِنُ أنَّ الدَّمَ طريقٌ وحيدٌ للحياةِ .

 

د.عاطف الدرابسة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم