صحيفة المثقف

العدم من منظور فلسفي

علي محمد اليوسفتعريف: العدم هو الوجه الآخر للوجود حسب ما تذهب له الموسوعة الحرة، وبذلك يكون العدم في علاقة متداخلة تشبه علاقة الفكر باللغة أوعلاقة الروح بالجسد فلا معنى لوجود أحدهما في غياب تعالقه المتداخل بالآخر.. والعدمية Nihilism المشتقة من العدم تذهب الى أن العالم كله بما في ذلك وجود الانسان بلا قيمة وخال من أي مغزى أو معنى حقيقي..وهو ما يرتّب على الانسان أن يستغل حياته من منطلق التسليم بهذه الحقيقة الحتمية التي لا يمتلك درءا لها ولا الأفلات منها..بما يتوجب عليه تنضيج تفكيره بأستمرار من أجل أن يسمو بحياته عن حياة الحيوان الذي لا يعرف ولا يدرك معنى العدم... كما أن على الانسان أن يدرك ويتصرف من خلال التسليم بحتمية العدم بأن الحياة الانسانية قيمتها الحقيقية أنها فانية ولها نهاية...

ويعرّف عالم الفيزياء النظرية لورانس كراوس أن العدم يتألف من لا زمان ولا مكان ولا مساحات ولا جزئيات ولا تنطبق عليه قوانين الطبيعة على الاطلاق.. وبناءا عليه نستطيع القول بأن العدم هو وجود حدسي غير موجود ولا مدرك، ولا يحده الزمان ولا المكان قانونا الطبيعة اللذان يحكمان الوجود في أدراكنا الاشياء بالطبيعة..وتجاهلنا القلق الوجودي للعدم لا يقدم ولا يؤخر من حقيقة أنه يحزم حياتنا بحتمية لاخلاص ولا فكاك منها هي الموت والفناء.

وبالعودة الى فهم كراوس للعدم من وجهة نظر فيزيائية نجده يقول اذا كان من الصعب علينا تخيّلنا العدم بأنه (لاشيء) وغير حقيقي ،فهناك العديد من الاشياء بالعلوم لا يمكنك حدسها لكن ذلك لا يعني عدم وجودها..ويختم تايسون وهو عالم فيزياء أيضا القول معضلة العدم لا تحل أبدا..

العدم والفلسفة

يعرّف هيدجر العدم بأنه النفي القاطع لكل وجود أو شيء يحكمه الفناء الحتمي القطعي بالموت.. والقول بأن العدم موجود قول متناقض لأن العدم سلب وهذا ما يقرّه العقل...

.. وتعقيبنا أن العدم ليس وجودا (قبليا) متعيّنا يسبق وجود الموجودات في عالم الاشياء التي يستهدفها الفناء ،كما هو ليس وجودا (بعديا) يخلف نهاية الاشياء المحكومة بالعدم.. أي حقيقة وجوهر العدم أنه أستدلال أفتراضي غير مدرك يسكن جوهر الاشياء كما تسكن الدودة قلب الشيء المحكوم بالنفي العدمي على حد تعبير سارتر، العدم هو أستدلال أفتراضي لموجود غير بائن للادراك لا كمظهر ولا كجوهر على السواء..والعدم هو حالة من ملازمة الوجود لا يمكننا التعبير عنها بالكلمات، فالعدم ليس جوهرا ولا ماهية ولا موجودا منفصلا متعيّنا يمكننا أدراكه بحواس وأحساسات الادراك العقلي بل هو ملازمة دائمية للموجودات لأفنائها.. أنه حقيقة مطلقة نعرف نتائجها بالحدس ولا نعرف ماهيّاتها بالادراك.. نستشعر تقويضه الموجودات الحية وأفنائها،، لكننا عاجزين معرفة ماهية العدم والاحاطة به لا بالادراك ولا بالتعبير عنه بالكلمات.. وحدس العدم يتيح لنا معرفة الموجودات على حقيقتها قبل أستهداف العدم الحتمي لها كما الموت في أفنائه الكائنات الحية من الوجود.. وأبلغ تعبير عن ذلك أنما جاء على لسان سارتر في تعريفه معنى العدم بقوله أن العدم يركب ظهر الوجود المحكوم بالفناء والزوال لا يتقدمه ولا يسبقه بل يلازمه ملازمة الظل والقرين المتداخل به.. وهو كالسوسة في باطن الموجودات والاشياء التي تنخرها..

العدم هو غير اللاوجود أو الفراغ (الخلاء) الذي يتوسط موجودين محكومين بالفناء بل هو يلازمهما كجزء من تكويناتهما كلا لوحده وصولا الى حتمية فنائهما لا قبليا ولا بعديا عنهما بل في ملازمة حتمية لا أنفكاك لها.. فالعدم لا يسبق الوجود ولا يأتي بعده، بل يداخله وهو دلالة أفتراضية يستهدف غيره من الموجودات والاشياء بالفناء،، وهو لا يفنى بالفناء ولا يعدم نفسه كما في تعبير هيدجر، بل هو نتيجة حتمية شاخصة متبقية بعد فناء الموجودات المحكومة بحتمية العدم والزوال.. أنه الموت الذي يعدم الحياة ولا يعدم نفسه في أستمرارية بقائه كحقيقة أزلية في معايشته الحياة والانسان والطبيعة والموجودات.. ..

العدم والقلق

يتحدث هوسرل عن العدم من منظور فلسفي فيعتبره لصيق القلق النفسي المتداخل في الوجود الانساني، ويأخذ القلق عنده دور العدم في حين نرى العدم ليس حالة من حالات القلق النفسي التي يمكن الشفاء منها بأنفصالها عن الوجود المادي للانسان فقط والقلق لا يشمل كافة أشكال الكائنات الحية الاخرى مثل الحيوان المحكومة هي الاخرى بالعدم فهي لا تشعر بالقلق من الموت الذي سيدركها..

فالعدم يطال الوجود كاملا برمته ويبقى القلق مرهونا بالموت الذي هو شكل العدم والفناء عند الانسان..وأنفلات السيطرة على العدم وأنعدام أمكانية الاحاطة به والتعبير عنه بالكلمات لا يجعل منه قلقا نفسيا يلازم الوجود بأنفصالية مستقلة والخوف منه.. بل بأعتباره وجودا متداخلا ملاصقا الوجود الانساني ويتهدده بالموت والفناء.وعندما نقول العدم هو الوجه الآخر للوجود فليس معنى هذا أننا نستطيع أدراك العدم كما هو الحال مع أدراكنا الوجود، فالعدم جزء متداخل بالوجود لكنه لا يمتلك وجودا متعينا بل هو أفتراض حدسي فقط نلمس نتائجه دونما أدراكه..

وعندما يعبر هيدجر (أن العدم مصاحب للوجود وليس نفيا للوجود) يكون وضع العدم في مفهومه وسياقه الوجودي الحقيقي الصحيح، فالعدم  ينفي الوجود لأنه جزء لصيق بهذا الوجود، ويتعذر على العدم بأعتباره وسيلة أعدام الوجود أن يعدم نفسه ولا نستطيع الجزم أن العدم يفنى بفناء الوجود..فالعدم ليس وجودا قبليا ولا وجودا بعديا يمكن حدسه كمدرك بعد فنائه موجوده المتداخل معه.. ولا نجد نفس الدقة السابقة في عبارة هيدجر التي مررنا بها قوله (فنحن يخرسنا القلق ويطوينا العدم فلا نقوى على نفي الوجود عنه ولا أثباته، ولا يعني هذا أن يكون في القلق فناء للموجود في مجموعه بل أن الموجود يترنح ويتأرجح ويغيب بسببه) 1، هنا هيدجر يجعل من القلق بداية العدم معتبرا القلق هو حالة نفسية لا تعدم الوجود بمجموعه بل تتركه مترنّحا؟؟ القلق ليس عدما ولا ينوب عن العدم في أستهدافه الوجود بالفناء.. القلق حالة من التهيؤ النفسي غير المجدي من العدم..لكن القلق ليس هو العدم بذاته بل مظهرا من مظاهر النفس والتحسّب له..

وفي تعبير برجسون (ان ما يسلب عنه الوجود بكلمات مثل العدم أو الخلاء لا يدخل في نطاق الفكر بل الوجدان، والعدم صيغة وجدانية للفكر، والعدم المطلق فكرة زائفة ) 2، ونكمل مع هيدجر نفس المنحى قوله (اذا كان المنطق لا يوصلنا الى العدم فمن الممكن ان نلجأ الى لغة العامة، لأن العدم ينبغي أن يوجد بطريقة وأخرى والا ما كان موضوعا نبحثه هنا) 3 .

من الملاحظ في تعبيري برجسون وهيدجر على السواء في اختلاف بسيط فقط أن العدم في الوقت الذي لا تستوعبه اللغة ولا المنطق في تحديد ما هو.. يكون متوجّبا أستحضاره كموضوع فلسفي ميتافيزيقي يكون أرتباطه بالوجدان وليس أرتباطه بالوجود المادي للاشياء في فنائها الحتمي، لكن المنطق الفلسفي يقر بأن العدم قرين أفنائي للموجودات المادية والاشياء في الطبيعة من بينها الانسان كوجود يدركه الموت والفناء، وتعبير برجسون يدور في نفس الدوامة الميتافيزيقية بأعتباره العدم صيغة وجدانية للفكر، والعدم المطلق فكرة زائفة حسب تعبيره..والدلائل الحقيقية تشير الى أن العدم في الوقت الذي لا يكون وجودا منفردا لوحده بل مصاحبا دائميا للموجودات المادية فهو بالضرورة الادراكية أن ما يقوم بنفي المادة لا يكون فكرا بل هو موجود يستمد ماديته من مواضيع أعداماته المادية.. والعدم بمعنى الفناء هو أكثر صيغة تجريدية مقبولة تمكنّه من أن يكون العدم المطلق ليس فكرة زائفة بل فكرة حقيقية يمكننا أن نجد حقيقتها في أقترانها بالوجود من حيث هو مطلق فاني ومعدوم على الدوام ولا يمكننا تصور موجودات لا يطالها العدم..فليس بمقدورنا القول أن الموت الذي هو عدم مطلق ليس مطلقا..

 

علي محمد اليوسف /الموصل

.............................

هوامش

1- الفلسفة واللغة /عبد الوهاب جعفر ص 86

2- المصدر اعلاه ص84

3- المصدر اعلاه نفس الصفحة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم