صحيفة المثقف

سيكون عرسنا أجمل

بكر السباتينتوسدت جيهان ذراع والدها الذي بللته بدموعها السخية وقد أنهكها الهذيان، وجبينها يتصبب عرقاً كأنه مرجل.. تداعب الأخيلة عقلها الذي يحاول أن يفهم الكثير من الأمور ولكن دون جدوى.. وها هي من جديد تبحث عنهما في ذاكرتها كي تهرب قليلاً من خوفها الذي أوشك أن يكتم أنفاسها.. تراهما يأتيان فتبتهج، تراهما يتعانقان محفوفين بأخيلة الحنين.. كانت والدتها تستيقظ من الغياب لتتوسد قلب والدها الشفوق وهي تهدل بالدعاء لأجلها. أما والدها فقد كان دائماً يقف إلى جانبها كنخلة سامقة فيحتضنها بظله.. وكدأبه كلما سأل عن غزالته الصغار فقد كان يبرر غيابها الأبدي قائلاً والألم يعتصر قلبه:

"لقد رحلت إلى الجنة لتهيء لأحبتها مكاناً هناك"

ذريعة كانت تريح جيهان كلما بحثت عنها في الملمات، فتظل مع والدها الذي أنهكه الانتظار؛ وقلب غزالته كما كان يدللها، يخفق بدلال في هذه النخلة التي تفترش جيهان ظلها بينما تهجع بين يديها الحانيتين كأنها فرخ حمامة أسبل جفنيها الهديلُ ولمع في زغبها الناعم بريق الأمل..

"أمّاه! ليتك تشهدين هذه اللحظات التي أشعر فيها بسعادة غامرة رغم السقم الذي راح يقتات على ضعفي في هذا الجسد الواهن الذي يعاني من إرهاصات السفر البعيد بلا عودة.. إنه عماد يا غالية.. ستحبينه لو كنت بيننا يا غزالة الروح، وهو يتناوب على راحتي أثناء مرضي وكأنه من افراد الأسرة"

وتكمل في سرها حزينة:

" لكن الزمن تغير يا أماه، ووالدي بكل هيبة النخلة التي تفترش سماءنا يريدها زيجة سريعة دون أن اعترف لحبيبي بالحقيقة المرة! فأنا مريضة بالسرطان وعماد يجب أن يعرف.. وأشقائي لا يريدون هذه الزيجة التي يعربد شيطان الطمع في تفاصيلها لفرط أنانيتهم؛ ففي نظرهم أنني مسافرة إلى الغياب كي لا يرثني عماد عند الممات"

هذه المرة كان نشيج بكاء والدها مسموع إلى درجة الحرج؛ إذ تسلل من تحتها وهي تتمرغ على حجره؛ نائياً بنفسه إلى الشرفة كي يختلي بها مع أحزانه؛ بينما قررت جيهان أن تعترف لعماد بمصابها الجلل حتى لا يتحول الزواج إلى مكيدة! خرجت إلى حيث كان والدها غارقاً في دموعه.. ستغير مزاجه.. فترقص له بدلال كأنها غزالته.. فتستيقظ نسائم الحنين.. تحرر سعف النخلة من سوءة الحزن والأنين.. تغني له جيهان أغنية كانت ترددها والدتها على مسامعه قبل أن يطوي الغياب أثرها الطاهر" من غير ليه" لعبد الوهاب. وكأنها كوت قلبه فاستسلم للبكاء وهي مسترسلة بالغناء.

ثم جاءت تلك المكالمة الغامضة التي غافلت فرحها.. وأطفأت مواقد السمار في في ليلة ادلهم فيها الغدر وانطفأ القمر.. كان حبيبها عماد في الجانب الآخر يبث سمومه! أو هكذا فهمت الأمر، نعم! كان صوته المهزوم يمزق قلبها المغبون المطعون في الظهر:

"لا بد من فسخ الخطوبة؛ فلدي الأسباب الموضوعية لذلك".

ماذا!؟

بكل بساطة هذا الوغد يريد التحرر من حبنا الذي جمعنا طويلاً!

فهل حقاً ما كان يقال عنه حينما عزما على الارتباط، في أنه يبدل حبيباته كالخاتم في إصبعه!"

وتأكل الأسئلة المبهمة رأس جيهان المصدوع:

هل كنت ألعوبته التي سينفضها كالغبار عن بريق حياته الموعودة!

أم أن أشقائي صارحوه بالحقيقة الموجعة فلم يحتمل حياته مع مريضة بالعضال!

لو كان الأمر كذلك فمعه حق! لأن الموت سيطويني على عجل قبل أن أصل إلى أول قبلة موعودة بيننا؛ حينما نحلّ لبعضنا.. لن أبكي بعد اليوم ما دمت سأطيع أشقائي بمراجعة مركز السرطان! ولتهنأ يا عماد بحبيبة قلبك الجديدة -إن كان الأمر كذلك- مع تمنياتي لكما بالسعادة الغامرة!.

ثم تلقي سؤالها قبل أن تلوذ إلى صمتها العميق:

أحقاً تفعلها!! لست أظن!

أخذت جيهان تمسد عينيها الجميلتين بإبهامها لتريح أعصابها.. قالت في سرها:

" هل ستفتقد سوادهما الذي وصفته بالليل، حينما يلتهمهما المرض اللعين يا عماد!

أم..!

لا بأس.

وفي اليوم التالي كانت جولة جيهان مع الكيماوي أقل وطأةً من ألم الفراق لحبيبها الذي ودعها بمكالمة غامضة.. ورغم قساوته كانت تختلق له الأعذار، هامسة:

"لست وغداً يا عماد.. ربما علمت بمصابي فلم تحتمل وجعي!"

ثم سادت ذاكرة جبهان حمرة الغسق، وأخذتها غيبوبة المرض إلى منطقة الخطر.. أرتبك حينذاك كل من في البيت "اتصلوا بالطوارئ" خرجت محمولة على أكتاف شقيقيها، الارتباك ساد الموقف الجلل، يتقدمهما رجل طويل كنخلة، لكنه بدا متهالكاً من الألم. كان يصلي لله كي يحفظ ابنته الجميلة.

وبغتة أوقد الفجر مصابيحه فتبدد الظلام في حشاياها.. كيف هبط عليها حبيبها كالقدر!ّ إنه عماد جاء يسأل عنها! اندفع إليها باكياً كالصغار، اختطف يدها وضمها إلى صدره.. شعرت بقلبه النابض يوشك أن يقفز من مكانه:

"جيهان! جيهان..

أهذه أنت يا حبيبتي!

لماذا تخفين عني ما أصابك!

إنه السرطان اللعين إذن الذي جمعنا من جديد!".

رغم قساوة الألم.. كان بوسعها أن تشرق في وجهه كزهرة النور.. ولكن حدث مع جيهان ما غير الموقف من جذوره.. حينما باغتهما الطبيب موجهاً حديثه لعماد:

" سيد عماد، جاء دورك.. الأجهزة معدة لك.. الكيماوي يا بطل"

وأدركت جيهان أن حبيبها لم يكن وغداً.. نعم.. السرطان هو الوغد.. فضغطت جيهان على يده بكل ما في قلبها من ألم ورجاء.. قالت له والدموع تطفر من عينيها:

"تشجع يا حبيبي، سننتصر على هذا المرض الخبيث، معاً نكون أقوى! قريباً سيكون عرسنا أجمل.. نعم أجمل".

وظلت تردد ذلك في سرها حتى وهو يبتعد فتبتلعه الأبواب بمعية الطبيب والحمائم البيض، وقلبها يهمس:

" نعم سيكون عرسنا أجمل".

***

قصة قصيرة

بقلم بكر السباتين..

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم