صحيفة المثقف

قراءة في رواية: قطارات تصعد نحو السماء

محمد غانيللدكتور فاتح عبد السلام.

من الروايات القليلة التي تركت صداها مدويا في خاطري لعذوبة تعابيرها العميقة ولسلاسة تداعي أفكارها المرتبة نحو وجهة تحقيق الرؤية الفلسفية العميقة لمجموعة من القضايا الانسانية الآنية نجد رواية "قطارات تصعد نحو السماء" التي صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون بلبنان في طبعتها الأولى تموز/يوليو 2019م / 1440 هـ.

اطلعت عليها بشغف كبير لانني أعرف الرجل كاتب الرواية من افتتاحياته الأنيقة بجريدة الزمان الصادرة من لندن وأختها جريدة قريش التي تصدر من نفس المدينة غير أن الأولى ورقية والثانية الكترونية وكلتاهما من الجرائد الهادفة الناجحة بالوطن العربي، وهو في نفس الآن دكتور في الادب العربي وروائي وقاص وأستاذ جامعي عراقي مقيم بلندن، نال شهرته الأدبية حين حاز جائزة الدولة للرواية في العراق سنة 1993 عن روايته"عندما يسخن ظهر الحوت".

كتب الدكتور فاتح الرواية من وجهة نظري في هذا الزمن الذي يعاني منه المواطن العربي بصفة عامة والعراقي بصفة خاصة (العراق هو الموطن الاصل لكاتب الرواية) من ويلات التقسيم والنزوح والهجرة القسرية، لذلك عبرت مختلف القصص القصيرة المكونة لفصول الرواية عن القضايا نفسها لكن في ابداع كبير في الرؤية الفلسفية العميقة.

قبعات بدون رأس

قضية اللجوء قضية انسانية آنية تشغل مختلف الكتاب، وقد شغلت الدكتور فاتح أيضا لانها قضية وطن بالنسبة له، وحسب ما قرأته من روايته، ويبقى لقارئ آخر، اعطاء تأويلات أخرى لنفس النص، وهذا حال النصوص المتينة تبقى قابلة لتأويلات عدة ولتفسرات متنوعة، فإنه قد عبر عنها في ابداع خلاق وباسلوب غير ممتنع على الفهم، لكنه يبقى راقيا في تعبيراته وتصويراته. قبعة بدون رأس هو التصوير الذي أبدعه لتمثيل حال مواطن بهوية أصلية تركها في بلاده ليحمل قبعة هوية جديدة ألبسها له البلد المستقبل.

معاناة بين وطن مكلوم وخوف من الترحيل

من القضايا الجميلة والأليمة في الآن نفسه والتي طرحتها الرواية الأنيقة للدكتور فاتح عبد السلام، قضية الخوف من الترحيل التي يعانيها كل لاجئ، حيث يخضع المشكوك فيه كل لحظة في بلدان الاستقبال لتفتيش أوراق ثبوت هويته، ومن مثله هم في غالب الاحيان بدون هوية مما يجعلهم يعانون ألما نفسيا لا متناهيا، لكن يصادفون في مسيرتهم الثبوتية من بلد الانطلاق والى بلد الاستقبال اشخاصا لطفاء يساعدونهم على الافلات من الرقابة لحين وقت الفرج، فباب الأمل دوما مفتوح في قلم كاتب يُستمد الفتح من اسمه "فاتح".

حنين لا متناه الى الوطن

يصور الدكتور فاتح عبد السلام في روايته هذه، حنين العائد الى وطنه في تعابير جميلة تجعل القارئ مشدوها متتبعا لاحداث القصة غير رافع عينيه عن الورقة من انجذابه لاحداثها وشعوره بمشاعر حقيقية كأنه يعيش فصولها، لا لشيء غير تصويراته الدقيقة لمشاهد القصة وكأن القارئ بطل من أبطالها يعود الى بلدته، ويشم رائحة فرن حيه، ويذوق شاي أيام طفولته، ويتألم حين يمر أمام بيت فُقِد أصحابه بسبب الحروب والارهاب، ألم لا متناه يشعر به حين يمر امام حديقة يابس نباتها بعد ان كانت يوما مخضرة.

بين رشوة وتحرش

تعاني المرأة والرجل في المجتمعات المتخلفة من ويلات الرشوة حيث لا تقضى أمورهم بدون دفع رشاوى كما أن الأرملة في بلدان الحروب دوما تحصل على ما تريد ظانة ان زوجها السابق كان هناك من يكن له الاحترام، فتقدم لها من اجله المساعدات، في حين ان الطمع وحده من حرك القلوب لأجلها في وطن أكلمته الحروب ردحا من الزمن كالعراق حيث انتهت اعمار مواطنيه ولم تنته الحرب.

أيهما يسبق الآخر المحطة أم القطار؟

لا شك أن محطات الرواية عبارة عن فضاءات قصصية متعددة لقطار روائي واحد يركبه أبطال تائهون وسط ويلات الحروب والاحداث الارهابية وبحث عن الهوية وسط عوالم التيه والألم وظلم المضطهد.

انهم ركاب من طراز فريد، في قطار حصري يسافر الى سماء الأمل فطريقه عمودي يصعد الى الأعلى وسِكته هوائية عوض ان تكون حديدية، يهرب مسافروه من تعسف اهل الارض على كل صاحب وطن هجره قسرا الى سماء وطن مستقبل أرحب.

من هذا الحبك الروائي النادر داخل مجموعة قصصية رائعة تحاول اثارة فضول اصحاب القريحة النقدية لفتح باب القراءات المتعددة والاستمتاع بالتأويلات المتعددة التي قد تظهر لقارئها، نضرب مثالا على ذلك ثنائية القطار والمحطة التي تتكرر في مجموع محطات الرواية القصصية والتي تفتح التساؤل كبيرا في ذهني، يا ترى من يسبق الآخر، القطار أم المحطة؟

كل راكب يظن محطته القصصية بداية الرحلة لكنه حين يركب قطار الرواية يجد ركابا سبقوه في سفر القدر لذلك كانت هي في الحقيقة قطارات لأزمنة متعددة كسيناريوهات الحياة البشرية يظن كل فرد في مسرح الدنيا الكبير أنه بطل قصته الرئيس لكنه حين يركب قطار الحياة يجد نفسه مجرد رقم بسيط في معادلتها، لكن ارقام المعادلة ليست مجردة من المشاعر حيث يمكن أن يلحظ القارئ لرواية الدكتور فاتح عبد السلام لدى أحد ابطال الرواية خوفا عميقا يخالجه وَجَلا من الوصول الى المحطة، كما في قصة "لو لم تكن المحطة الاخيرة قريبة"، أو في قصة "المرأة القطة والرجل القنفذ"، حيث الوصول الى المحطة في القصة الاولى يعني ايذاناً بنهاية رحلة حب، وفي الثانية الوصول محفوف بمخاطر المجهول في زمن حرب، لاسيما لجندي هارب من الجبهة.

 

د محمد غاني، كاتب- المغرب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم