صحيفة المثقف

سيميوطيقا الصّورة بين التحليل والمقارنة

خيرة مباركيبين لوحة دي لاكروا "الحريّة تقود الشعب" و"زقورة الحريّة" في الثورة العراقية

تتحوّل بعض الصّور الفوتوغرافيّة التي تظهر في وسائل الإعلام أو على،صفحات التواصل الاجتماعي إلى أحداث إنسانيّة، تثير الجدل وتحرّك نبض الواقع المشهدي من أجل تنشيطه، وإعادة استثماره حتى يشكّل مفاهيم وأفكار تتجاوز الظروف التي أنتجتها. ولعلّه مظهر القوّة فيها، يجعل منها صورةً حدثاً، تبقى في الذاكرة الإنسانيّة وتتحوّل إلى شاهد على الواقع. وأكثر من ذلك يمكن أن تتحوّل هذه الصّورة إلى وسيلة من وسائل النضال ومن أدوات تحسيس الرأي العام العالمي، ممّا يجعلها رموزا تعبّر عن موقف وتثير الوعي. وذلك لأن للفوتوغرافيا الفنيّة رهانات جماليّة وإبداعيّة، يمكن أن تمتع وتقتع، تماما كما وقع في الثورات العربيّة، ونخص بالذكر ثورة العراق. وقد استرعى اهتمامنا العديد من المشاهد والصّور الفوتوغرافيّة التي نقلت الواقع وعبّرت عنه. ولعلّ صورة مبنى المطعم التركي أبرزها وأعلقها في الذّهن، أطلق عليها اسم "جبل أحد" قد يكون مردّه إلى ارتفاع البناية. كما أطلق عليه اسم "زقورة التحرير". وهذه التسمية تعبّر بدورها عن علوّ هذه البناية ومشابهتها للزقورات البابليّة الهائلة الارتفاع التي بناها ملوك الدولة البابلية،لتكون وسيلة للاتصال بين السماء والأرض، صمّمت لتسهيل هبوط الآلهة إلى الأرض. هو "مبنى حديث على صلة رحم،بـ"زقورة أور"، برج المعبد الذي بناه الملك أورنمو، يقع في قلب بغداد وهو برج لعبادة الاسم الجليل في العلم العراقي"، كما يقول سلمان داود محمد. ربما هي الصورة الأكثر تعلّقا بالذّهن، ليس لأنها متفرّدة أو الأكثر تأثيرا في المُشاهد، بل لسرّ خفيّ فيها جعلنا نعقد مشابهة بينها وبين لوحة الحريّة تقود الشّعب La liberté guidant le peuple وهي لوحة زيتيّة لـ دي لاكروا (Eugène delacroix ) ، قد لا تكون شبيهة لها من جوانب ولكن ونحن أمام عالم الصورة تنبثق صورة تشكيليّة في الذهن بمجرّد أن تطالعنا الصورة الأولى. وهنا يكون حوار العين والذهن بين التشخيص والتّجريد. من العين المشهدية الفوتوغرافيّة إلى عين تتذكّر وتقارن فتخبّئ لحظاتها المكثّفة مشهدا تطرحه الذّاكرة. وأول مظاهر التشابه بين اللوحة والصّورة أنّ كلتيهما تعبّران عن الثّورة. فلئن عبّرت اللوحة الزيتيّة عن ثورة يوليو الفرنسيّة التي قادتها المعارضة الليبراليّة للإطاحة بالملك شارل العاشر وإعادة الجمهوريّة الفرنسيّة، فإن الصورة الفوتوغرافيّة عبّرت عن ثورة تشرين العراقيّة التي قادها الشعب ضد نظام الحكم للإطاحة به أيضا. ومن النّظرة الأولى يتراءى لنا في كل من اللوحة والصّورة هذا الازدحام لعدد كبير من الناس، ولئن بدوْا في لوحة ديلاكروا مقاتلين بأيديهم أسلحة فإنّها في الصورة لمواطنين عزّل يحملون فقط راية الوطن وهو يرفرف ناصعا نظيفا من كل حقد أو عداء. وقد بدا هذا الازدحام في شكل هرمي له رمزيّته ودلالاته. فقد نلحظه في كل من اللوحة والصورة الفوتوغرافيّة مكوّنا من ثلاث طبقات: مثلت الطبقة الأولى في اللوحة القتلى الذين دفعوا أرواحهم في سبيل مبادئ الثورة فتمددّوا على الأرض كقاعدة يقوم عليها البناء. ولكن القاعدة في الصّورة من الشباب الأحياء، قد يكون ضحايا الثورة منحوهم هذه الحياة. وقد تكون دماؤهم الزكيّة ضخت في عروق هؤلاء الشباب حياة جديدة تتراءى لهم في الأفق. أمّا الطبقة الوسطى في اللوحة فهم الثوار الذين يسيرون على الطرق المكتظّة بالقتلى. يشقُّون صفوفهم لا يثنيهم الموت.

1237 زقورة التحريروفي الصّورة تلألأت هذه الطبقة، بنور الشباب في وجوه الثّوار ممّا يدل على أنها ليست ثورة جياع أو فقر بقدر ما هي ثورة كرامة، وهذا بيّن في أناقة المتظاهرين الذين يحملون في أياديهم العلم العراقي أو هواتفهم الجوالة التي يوثقون بها الحدث. ولكن مع هذا فبالرّجوع إلى رؤية رولان بارت (( Roland Barthes في سيميوطيقا الصّورة في مقاله "الرسالة المصورة"،(Message photographique) الذي نشر في كتابه Image-Music-text. يرى،أنّ الصورة باعتبارها رسالة تتكون من عناصر ثلاثة: مصدر الرّسالة، القناة التي تمرّ عبرها الرّسالة، والمتلقّي. وتبعا لذلك، يرى أن هناك مرحلتين أساسيّتين لقراءة الصّورة الفوتوغرافيّة وهي المعنى الإشاري Sens dénotatif والمعنى الإيحائي Sens connotatif. فالمعنى الإشاري هو المرحلة الأولى من الرّسالة وهو ما تلتقطه آلة التصوير وفي نقل المصور لمشهد الشباب المتظاهر، بهذه الطريقة التلقائيّة كما تراه العين المجرّدة، هو عمليّة ميكانيكيّة بحتة. لكن في المرحلة الإيحائيّة يمكن أن تُفسّر الصّورة استنادا إلى ما يظهر من إشارات يحدّدها السّياق التاريخي، إذ هناك عناصر أساسيّة التقطتها عين الكاميرا يمكن أن تفصح عن المعاني الإيحائيّة في الصورة الفوتوغرافيّة. فما يظهر من لباس المتظاهرين وهيآتهم وحركاتهم التلقائيّة يمكن أن يؤكّد على سلميّة الموقف. فالمتظاهرون بهذه الوضعيّة، وحسب نظريّة عالم الاجتماع ستيوارت هول ( Stuart Hall ) يشتركون في ثقافة واحدة، لهم خارطة ذهنيّة واحدة. هي ثورة ناصعة لشباب يطلّقون الماضي بكل صراعاته وأحقاده ويتوحّدون في الحاضر، وهو مشهد يرمز إلى الوحدة الوطنية التي توّجتها ثورة تشرين. بهذا نلمس تناغما واضحا بين شخصيات الصّورة كما في شخصيّات لوحة دي لاكروا الزيتيّة رغم حالة الهرج والمرج الذي يقتضيه السياق التاريخي في المشهدين. وهذا التناغم إنّما أساسه وحدة المعنى الذي يسعى إليه الجميع "نريد وطن". ولئن بدا ثمن القضيّة واضحا في أسفل اللوحة من الذين دفعوا،أرواحهم، وظلّوا وقودا يتقد لتحريك العزائم، فإنّه في صورة "زقورة التحرير" نلمسه عبر الإيحاء بتصوّر بارت، فليست الكمامات التي يضعها المتظاهرون سوى صورة أخرى متوارية لا تنقلها عدسة الكاميرا وهي صورة الغازات تفصح عنها الكمامات الخضراء وكأنها انعاش لهم يبدّدون بها سموم اللحظة ويتنفسون من جديد. كذلك الذي يضع خوذة أمان وسلامة صفراء توحي برغبة في الاتقاء من الرصاص، إضافة إلى وجود سيارة إسعاف، كلّها عناصر توحي بطبيعة الوضع الرّاهن واتباع سبل السلامة وطلب الأمان. رغم أن الأغلبيّة اكتفوا بحمل الرايات.

1237 الحرية تقود الحياة

أمّا في أعلى الهرم فلئن ظهرت ماريان الأعلى رأسا في اللوحة والشكل الهرمي، وقد اعتبرت تجسيدا استعاريّا وتصويرا لآلهة الحريّة. فإنّه في أعلى هرم الصّورة سطح البناية-الزقورة. يرفرف فيها

العلم العراقي وتسيل منه شلالات رايات ولافتات حملت آمالهم وأرواحهم قربانا للوطن. بهذا تغدو الصّورة الفوتوغرافيّة رسالة مصورة تحوي جملة من الإشارات البصريّة ولا وجود لمنطق الاندساس، الكل منسجم وينتظر ولادة عراق جديد فتغدو أيقونة تتجاوز بعد لحظة التّصوير التلقائيّة وما يمكن أن تنقله في تلك اللحظة إلى مؤشّر رمزي تفصح عنه العناصر الإشاريّة "ثورتنا سلميّة" "شبابنا أطول من أعماركم". وكأننا بجملة من العناصر الحاضرة (الخوذة، سيارة الاسعاف، الكمامات..) أمام إيحاء بمواجهة الموت بالحياة . فيزول الرصاص بابتسامة حلم.

 

الناقدة والتشكيليّة: خيرة مباركي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم