صحيفة المثقف

"أجساد تحترق في الشارع".. الطفولة في مرايا السّرد

1239 اجساد تحترقإذا أردت الحكم على مجتمع ما، فما عليك سوى النظر في حال من يمثلون جيل الغد فيه، ولعلّ ابرز الإعمال المغربية التي قصدت التنبيه إلى مثل هذه الخلل في إشكالية إنسانية عميقة ومتشعبة، المجموعة الموسومة "أجساد تحترق في الشارع" لمؤلفها الأديب الصحفي محمد الصفي، هذه الباكورة القصصية الصادرة حديثا عن جامعة المبدعين المغاربة، طبعة 2019، والتي خطّ مقدمتها الباحث الدكتور عبد الفتاح الفاقيد، نقتبس منها قوله: [لقد سعت المجموعة القصصية لمحمد الصفي، إلى تسليط الضوء حول ظاهرة أطفال الشوارع وما تعانيه الطفولة من حرمان واستغلال.إن الهدف من المجموعة هو نقد المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أسهمت في تقويض النسيج الأسري، وتحويل منظومة القيم عن مسارها التقويمي والإصلاحي.مجموعة اعتمدت السيرة الغيرية إطارا فنيا وجماليا لصوغ العوالم السردية والتخييلية، واستعمال اللغة الدارجة التي تحمل رؤية تحقيرية للواقع الاجتماعي، على حدّ تعبير أوركيوني].

من هذه الخلفية يمكن النفاذ إلى النزيف الأسري، والحاصل في منظومة مجتمعية تناست أولويات الطفولة والمراهنة عليها في التغيير والإستراتيجيات التقدّمية، بدل مراكمة الأخطاء، على نحو جدّ خطير يدفع ضريبته الوطن بالنهاية.

أستحضر تاريخ النخاسة ههنا، بأسواقه التي أمعنت في المتاجرة بإنسانية الكائن، وأفرزت ظواهر شادة، زعزعت استقرار العالم برمّته، غير أن ما شهده العصر المعروف ب" المماليك" شكّل مرآة أخرى صافية وصادقة وعاكسة بعمق وإيجابية لمعنى أطفال الشوارع، أو المتخلى عنهم، أو جيل اللقطاء، على جرأة هذا التعريف وقسوته وقوته وامتداد افقه التجريحي.

تقع هذه المجموعة في حيّز ناهز20صفحة، وقد لونته التيمة الأساسية " الطفولة المغتصبة " في إطار إستطيقي يناور بسيرة الآخر، وإن تمّ إنتاجه بلغة جد بسيطة خالية من الشعرية، ومستقاة من صلب العوالم الطفولية ونبضها.

نطالع للقاص في أحد مناسبات كوميدياه السوداء، وكأنّه يحاكم جيلا فّرط في أطفاله، بل ومارس عليهم شتى صنوف التوحش الذي لا يوجد له مثلا حتى في الجاهلية الأولى، يقول :

[أيام يتذكرها أيوب بسعادة، كما يتذكر أسوأها بكل مرارة وحرقة، لما شكلته له من عقد نفسية، كانت من أسباب ما هو عليه اليوم، " تربص به لما يزيد عن السنة، كان خلالها يقدم له حلويات وألعاب، وأحيانا قصصا وجلات، إلى أن أتيحت له الفرصة المواتية في ذلك اليوم، حين لعبت الأقدار لعبتها، يوم لم يحضر فيه أستاذه، التقاه وهو يعبر يغادر المدرسة، فريسة سهلة المنال، أسالت لعابه، وجعلته يزيد من حصة الأقراص التي يتناولها محوّلة إياه لذئب بشري، اقترب من أيوب وهمس في مسامعه أنه محظوظ بلقائه كون أمه تنتظره في منزلهم وأنه على عجل من أمره كي يوصله إليها، مانحا إياه خمسة دراهم، أيوب لم يتردد واستسلم لابن حيهم، "سيمو " كيف وهو يمتلك الآن خمسة دراهم، قلما تمنحها له والدته، غرق تفكيره وهو يسارع خطى " سيمو " فيما قد يشتريه بالخمسة دراهم، ما هي إلا دقائق حتى وجد نفسه داخل غرفة تم إيصاد بابها، غرفة ذات رائحة نتنة من كثرة الزبالة والفوضى التي تعتريها، لم تعد عينا أيوب تدرك بداخلها سوى خطوط نورانية دقيقة عابرة لشقوق النافذة الموصودة.أحس بذعر شديد وهو يرى الوحش الآدمي يزيل سرواله](1).

هنا تكمن الإشكالية، في تلكم الإزدواجية التي يكابده أطفالنا الأبرياء، بحيث تلقنه المدرسة العلم والأخلاق والقيم، والشارع يحقنهم بدوال النقيض لذلك جملة وتفصيلا، فيما تفشل الأسرة في خلق وتفعيل التوازنات المطلوبة، لأعطابها الكثيرة هي الأخرى وانشغالاتها بهموم اقتصادية في المجمل، تكون على حساب الروح وإنسانية الكائن، فلا تزيده إلا تغريبا وبعده عن أناه فما بالك بمن يعولهم ويتحمل مسؤولية رعايتهم، أضف إلى ذلك آفة الأمية.

وفي مقاربة شاملة للإشكالية، نلفي واقعا قاهرا متمثلا في رأس مالية متوحشة، تفرز وصايا ترعى المصالح الصهيو ـــ أمريكية، التي كامل همها ضرب الأسرة العربية والمسلمة، في العمق، لأنها النواة، وإفسادها يضمن استمرارية وخصوبة تلك المصالح، وإن كان الأوجب ألا نلوم الطرف الآخر، فهو عدو وهذا واضح، كي نتحرر نحن من عبء المسؤولية .

إن الأطفال الذين تم الاتجار بهم في العصر المملوكي، بصرف النظر عن شجرة نسبهم، بعدما نكلت الحروب بعائلاتهم وشرّدوا واقتيدوا إلى أسواق النخاسة ثم بيعوا بأثمان بخسة، هم الفرسان الذين سادوا وشغلوا منازل الإمارة، مخلّصين البلاد العربية من شرّ التتر وغزوهم الجنائزي الجنوني.

بالعودة إلى مجموعة " أجساد تحترق في الشارع " نستشف منها كعتبة، ما يحيل على الذهاب في عكس اتجاه ما قد تثمره خندقة الطفولي وخنق عوالمه، في تلك الحالة نجدها أفرزت جيلا ذهبيا إيجابيا، حوّل فرسانه المعاناة إلى بطولات وفتوحات وشجاعة وحكمة وبأس، وهاهنا، من خلال تقليب المنجز الذي بين أيدينا، نلفي مايثور منظومة مفاهيمية مغايرة بالتمام، فاختيار " أجساد " مثلا، عوض " أجسام " له أكثر من دلالة تختزل في الثقافة الإيروتيكية بل والبورنوغرافيا، وتجسدن الطفل وتقدمه على أنه بضاعة، أو بالأحرى ذئاب البشر المكبوتة والظمآنة للجنس، تتوهمه كذلك، وما فخخ العتبة أيضا، لفظة " تحترق " للإشارة إلى أن مستقبل البشرية إنما يربي موته، عبر استغلال واضطهاد وتهميش الأطفال.

نقرأ للقاص أيضا، قوله: [ أتقن سمير شمّ السيلسيون ومعجون السيراج وغيرها من المهلوسات، حتى صار مقززا من طرف الزبائن الذين كانوا يشفقون من حاله، تغيرت وهندامه، وكثرت الغرز بوجهه من كثرة الإصطدامات مع أترابه في المجال . أما عن الأهل فقد نسيهم وتجاهلهم، كما تجاهلوه . تم إيقافه من قبل الشرطة ذات يوم وهو متلبّس بسرقة محفظة نقود ليقتاد للإصلاحية، حيث قضى سنتان، كانتا بمثابة سنين، تعرض خلالهما لأعنف ما يمكن أن يتعرض له طفل في سنه، قرر بعدها الابتعاد عن كل ممارسة يمكن أن تعيده لهذا الجحيم](2).

أرى هذا يقترح من الإسقاطات ما هو أغرب، في عالم انحراف الطفولة، إنها الحالة الإنسانية الاستثناء، مثلما ترويها سيرة قيس المجنون، حتى ان انتقاء العنوان هنا تمّ بحكمة وعناية " سمير الليل "، ليرخي بمشهدية الهلوسة والبرزخية والوجود الهذياني، في حالة قيس، أنتجه العشق ورسمت ملامحه الصبابة والحب الأعمى، وفي حالات المجموعة هذه، أنجبته سياسة التعاطي مع العوالم الطفولية، فحتى القوانين والأحكام، تبدوا قاهرة وغير ناجعة ومؤججة لبؤر الغليان في قلب هذه الظاهرة.

قوانين تركت اللب لتعتني بما هو سطحي في الظاهرة، فهي لا تعاقب وتردع إلاّ بالقدر المنوّم، بحيث يكون النشاط في صمت سرعان ما ينجم عنه الأسوأ.

وختما، يمكننا القول أن القاص محمد الصفي أفلح في الإفلات من تقليد الكاميرا الواصفة لواقع الأوبئة المجتمعية والاقتصادية والسياسية، بتقديم منجز قيم حاول من خلاله الانتصاف للطفولة، وقد وضعها في مرايا سردية، لا تجدي معها تمريرات التابو والأقنعة، حتّى أننا شعرنا معها بما تصمت عنه بياضات الإشكالية، وهي تصنع مثل هذا الإنتماء، وتحاصر برؤى مختلفة ومواقف جريئة، أورام الطفولة فينا، وتصهل بانتهاكات الهوية العربية، وقد تعرّت من أخلاقها ورمزيتها ومثاليتها.

 

احمد الشيخاوي- شاعر وناقد مغربي

.....................

هامش:

(1) مقتطف من قصة " أيوب" صفحة 11/12.

(2) مقتطف من قصة " سمير الليل " صفحة55.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم