صحيفة المثقف

البلبل

عبد الفتاح المطلبيمنذُ أمدٍ أودعَ في هذا القفص، القفص كما دخل في روعهِ أولَ مرة عندما دُفِعَ إليه، كيانٌ من القضبانِ المصفوفةِ جنبَ بعضِها يفصلُ بينها فراغٌ بمقدار إنج ونصف لا يستطيع الطائر الصغير أنْ ينفذ منها إلى خارجهِ، تُشكّلُ هذه القضبان ثلاثَ جهاتٍ، الواجهةَ والجانبين يوحي هذا المكان إلى شاغلهِ بأنهُ في العراء وأنهُ منتهكٌ لا شيء يحجبه عن العيون النسريةِ للسجّانين وعن الممر الطويل الذي تصطفّ بمواجهته العشراتُ من نوعهِ، لا فرصةَ للسجين إلا أن يتخذ من الزاوية التي يصنعُها صف القضبان مع الجدار ملاذا يلجأُ إليه ليستجمعَ ما تبقّى من شتات نفسهِ المنتهكةِ، السَقْفُ مثل حجرٍ يكادُ يهوي عليه في أيِّ لحظة، كلّ يومٍ سبت وثلاثاء في الساعةِ ذاتِها يأتون، ثلاثةٌ لا يتكلمون يدخلون القفصَ،تتقلص معدتهُ وتتلبسهُ رغبةٌ شديدةٌ بان يقيءَ ثم تبدأ كل عضلة من عضلاتهِ المهزومةِ بالإرتجاف منفردةً لا نصيرَ لها يلفّها عالمٌ موحشٌ ، يهجسُ دبيبا في عظامهِ حين يكتمل دخول الثلاثة، أحدُهم ضَليعٌ بالركلِ، كلِّ أنواعهِ، على الوجهِ، فوقَ التراقي، في الخاصرةِ، في لوحِ الكتفِ، تلكَ مناطقٌ تجعلُ ألمَهُ مُلتهباً حارقاً لكنّ الخاتمةَ دائما تكونُ أقسى بكثيرٍ من كلّ هذه الأنواع، يتلقى فيها ركلةً بينَ فَخذيهِ، يشعرُ بعدها أنهُ يطيرإلى جهةٍ وروحُهُ تطيرُ إلى جهةٍ أخرى، الآخرُ ضليعٌ بإسلوبِ الفلقة، يجمع كفيه بجامعةٍ من الحديد وراء الظهرِ ثم يربط كلاّب الحبلِ المعلقِ بالسقفِ ببكرةٍ من الحديد يسير عليها الحبل، يقبض على طرف الحبل بيده يسحب ويسحب حتى يتم تعليقهُ وأثناء ذلك تفارقهُ الروح ثم تهبط إليهِ متوسلةً أن اصمد ويشد الحبل فتفارقهُ الروح ثانيةً حتى يسمعَ رجل الفلقةِ طقطقةَ عظامِه التي لن يسمعَها الرجل المعلّق فهو غريقٌ ببحرِ آلامهِ ثم يربط الحبل إلى حلقةٍ من الحديد مثبتةٍ في الجدارِ بيدَ أنهُ لا يدري بهذه التفاصيل ثم يتركُهُ للشخص الثالث، الذي يكون عمَلُه سهلاً عليه لأنهُ في هذه المرحلة ستلتصق روحُهُ بالسقفِ وتترك جسدَهُ المنسحق تحت أنياب سياط الرجل الثالث وضربات الكابل الذي يفعل فعل الكلب المسعور وهو يعضّ على لحمهِ، وحين يتأكد الثلاثةُ أنهُ لم يعد شيئا البتةَ وأنهُ مجردُ كتلةٍ من اللحمِ والعظمِ المسحوقِ يشيرُ أحدُهم إلى آخَرٍ منهم ليُفلتَ الحبلَ من الحلقةِ فيرتطمَ بالأرضِ لكنهُ لن يشعرَ بالصدمةِ إذ أن جسمَهُ ما زال مُخدّرا لا يشعرُ وروحَهُ ما زالت في السقفِ تنظرُ إلى جسدِها مشفقةً، ثم يفكّ أحدُهم القابضةَ الجامعةَ ويأتي الثالثُ بجردلِ ماءٍ بارد في ذلك اليوم البارد تهرعُ روحُهُ إليهِ حائرةً من أي جهةٍ تدخل هذا الجسد المتهالك لعلّها تمنحهُ بعضَ الدفء، يحكمون عليهِ قفل تلك القضبان ثم يرحلون، يبقى ممددا تتوسلهُ الروحُ أن يصمدَ ثم قليلا قليلا ترمشُ أجفانُهُ بوهَنٍ، يفتحُ عينيهِ يشعرُ أنهُ ما زال حيّا لكنهُ يفكر إلى أي مدى تصمدُ هذه الروحُ وهكذا يستردّ قواه ويزحف إلى حائطِ القفصِ، يُفكّرُ أن الكائنُ الذي أُدخلَ إلى القفص بطريقةٍ ما وبدافعٍ ما لابد أن يكون حزيناً تواقاً إلى الحرية، لكنّ ظروف الطائر السجين تختلف عن ظروف السعدان السجين أو كلب الشيواوا الصغيرفي قفصهِ وتبعا لتلك الظروف يسلكُ سكان هذه الأقفاص،ترى العصافير الصغيرة تتقافز في أقفاصها وترفرف أجنحتها وكأنها تدرك أن الأمر لابد من أن يبلغ نهايته وأن عمر العصفور قصير بالنسبة إلى عمر القفص ولطالما نفقت العصافير في أقفاصها، وهكذا اختلفت الأقفاصُ ومواقعُها وأحجامها وأشكالها إلاّ قفص الإنسان فإنهُ ضيّقٌ مهما اتسع، يضيق حتى يُمسي مثل خرم الإبرةِ أحيانا، ،يستعيد شريط الأحداث لكنهُ هذه المرة هوَ الشاهد يتابع ما جرى من أول ركلة يُطيل النظر إلى عروة الفلقة في سقف القفص يُراودُهُ شبحُ ابتسامةٍ مستعيداً ما سمعه من أحدهم قبل غياب روحِه بقليل، مخاطبا رفيقه: ها هل نفق البلبل؟ ... بعد أيام من التفكير في قضية البلبل في القفص، بدت الفكرة حسنة وهو يُقلبها في رأسهِ المكدود البلبلُ ينفقُ وينتهي الأمرُ، تخيّلَ ذلك بكل جدية وراحَ يصفق ويدفّ بذراعيه اللتين افترض أنهما جناحان ويتلفت يمينا وشمالاً وهو يضحك ضحكا هستيريا على غير عادته، زحفَ إلى الصحنِ الأسود الذي جفّت عليه بقايا حصتهِ من حساء المساجين كل يومين وراح ينقرُ تلك البقايا وهو يمدّ شفتيه إلى الأمام صانعا ما يشبه المنقار وراح يلتقط أو هكذا خُيّلَ إليه ثم انتقلَ إلى صفيحة الماء المركونة في زاوية القفص وراح يمتص قطرات الماء ويرفع رأسهُ كما يفعل الطائر الحبيس في القفص، رجع إلى زاويته وهو يغرد كالبلبلِ ويُصَفق ذراعيه اللتين افترضهما جناحين على جنبيه، وعلى حين غرة اقتحم السجانون الثلاثة باب القفص وراحوا يعدون العدة وهم يضحكون

- البلبلُ نشيطٌ اليوم !!

أعادوا الكرة عليه كما فعلوا ذلك عشرات المرات ولكن غناء البلبل استفزهم هذه المرة وحولهم إلى وحوشٍ كاسِرة ضاعَفتْ عليه العذاب وراح ينزفُ من أنفه وفمه بغزارة تناولَ آخرهم خرقةً كانت في جيب بنطالهِ وراحَ يمررُها على صلعته ووجههِ اليابسِ رغم العرق الغزير الذي غطّى كل جسمه نتيجةً للجهد الإستثنائي الذي بذله في تعذيب البلبل، اقترب من البلبل حركه يمينا وشمالاً، لم تكن هناك أية نأمةٍ في جسد البلبل المعلق بالفلقة...

- نفق البلبل!

- أنزله، أنزله ولنقذفَهُ إلى القمامة خلف السجن .

أفلت الثالث الحبل من حلقة الحائط وتكوم الجسد المُدمى على الأرض، كانت روح البلبل في السقف تراقب الجسد وتحنو عليه تبعته الروح وحين انصرف الجلاّدون دخلت إلى الجسد خلسةً وهي تترقب لكي لا ينكشفَ أمرُها وحينها تحرك الجسد قليلا بعودة الروح التي بقيت في مكانٍ قريب متّصلةً بخيطٍ رفيع مع الجسد الملتوي كدودةٍ نافقةٍ لا تريد أن تفارقهُ ولا تلج الجسمَ المتهالكَ الذي لم تجد فيه غير البلبل الذي كان يغرد في قفصه، رأت روحهُ خيالا قادما واستمر ما يشبه الحلم، حرّكَ البلبلُ جناحيه و همَّ منقاره بالتغريد، القادمُ كان واحداً منهم أراد أن يتأكد من أن كل شيء قد انتهى ...ولما صار قريبا جدا رآه بوضوح، رأه قِطّا هائلاً يفتح شدقيه، رفّ جناحاه، بينما كان القطّ يقترب أكثرَ فأكثر، استقلّت الروح بلبلَها المرتعب فلا شيء يرعب بلابل الأقفاص غير القطط، صفق بجناحيه الهواء وطار،ظل القط يرقبهُ وهو يبتعد طائرا حتى اختفى في السماء الشاسعة.

 

عبد الفتاح المطلبي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم