صحيفة المثقف

متلازمة الاضطراب والانقلاب

محمد الدعميكما يدرس طلاب الطب الأمراض وأعراضها على سبيل التشخيص الصحيح؛ أي التشخيص الذي يمكن الطبيب من تحديد الدواء المناسب لمريضه، بناءً على تراكم الخبرة؛ فإن “تاريخ العالم” قد أفرز أعدادا لا بأس بها من “المتلازمات” التي تشبه المتلازمات المرضية التي يجهد الأطباء للإمساك بها وتحديدها على سبيل معاونة المريض على الشفاء وتحديد الدواء المناسب لدائه.

بل إني، وإن لم أكن طبيبا، بعد أن تخصصت بالتاريخ، قمت بمحاولات جادة لاستنباط هذا النوع من المتلازمات التي ما تلبث أن تستحيل أنماطا، أشبه ما تكون بــ1+1=2، بلا أي هامش للخطأ، خصوصا وأن الخطأ في مثل هذه الأحوال يمكن أن يكون مميتا: فإذا اشتكى المريض من أعراض معينة، ولم توصف له الأدوية المناسبة، فإنه يمكن أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، سهوا، برغم مراجعته عيادة الطبيب.

بل إن التاريخ العربي الإسلامي، الذي درسه المستشرقون الغربيون المتعمقون بدقة واهتمام، قد أفرز ما يمكن أن أطلق عليها، عنوان: “متلازمة الاضطراب والانقلاب”. رصدت وجود هذه المتلازمة في التاريخ منذ زمن بعيد ما بين العرب، إذ إنها أشرت واستبقت العديد من الانقلابات المفصلية في تاريخنا الغني: فمنذ عصر صدر الإسلام الذي عد العصر الذهبي من قبل البعض، لاحظت كيفية استباق الاضطرابات والاحتجاجات الاجتماعية والسياسية للتغيرات الجذرية حتى في جوهر السلطة وطرائق الحكم لبلوغ النجاح والشعبية. لاحظت ذلك في العصرين الأموي والعباسي كذلك، إذ استبقت الاحتجاجات والتفككات السياسية سقوط الدولة الأموية، كما كانت عليه حال بغداد العباسية، وكذا الحال مع تلك الدولة التي ما لبثت وأن تكونت وازدهرت في بلاد الأندلس، بعد أن ماتت اصولها في دمشق!

وعندما درست تاريخ ما يسمى (في العالم الغربي) بــ”إسبانيا المسلمة” Muslim Spain، لاحظت ظاهرة الاضطراب والانقلاب في قصة نهايتها المأساوية على عهد الخليفة الأموي أبو عبد الله Boabdul، إذ استبقت الاضطرابات الداخلية والاحتجاجات السياسية المحلية “الضربة القاضية” التي وجهها “عدو أجنبي” من الخارج لتلك الدولة التي عدها المؤرخون (غربيون وشرقيون) “جنة” الشرق والغرب بين أوروبا المسيحية وإفريقيا المسلمة.

أما في عصرنا هذا، فقد أكدت حركة التاريخ رضوخها لنمط متلازمة “الاضطراب ثم الانقلاب”: في العراق طفت هذه المتلازمة قبل وقت ليس بالقصير من قيام الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم بالالتفاف على بغداد، بتمويه ومناورة مباغتة أدت إلى نهاية النظام الملكي. ولكن برغم نباهته، وخبراته العسكرية، وقع الجنرال قاسم ذاته ضحية لمتلازمة الاضطراب ثم الانقلاب، بعد عدة أسابيع من التظاهرات والاضطرابات (لاحظ اضطرابات الجامعات وإضراب عمال البنزين) حتى نضج الوضع لانقلاب 8 شباط الذي شهد إعدام الجنرال قاسم ورفاقه، فاتحا صفحة دموية جديدة من تاريخ هذا البلد المبتلى بثرواته الأسطورية.

وإذ لا يفقه أبناء الجيل الشاب الاسم الذي أوردته أعلاه، فإن عليه أن يرتجع إلى صفحات قد طويت منذ وقت قصير في بلداننا العربية والإسلامية؛ أي إلى أحداث ما سمي بــ”الربيع العربي”، إذ استبقت الاضطرابات والاحتجاجات السياسية والاجتماعية متغيرات مفصلية جذرية أتت على “أنظمة” برمتها، وليس على شواخص وأسماء مجردة فقط!

يا له من درس ذهبي تقدمه صفحات التواريخ المصفرة لمن يقرأ ولمن يسمع، فيفهم!

 

أ.د. محمد الدعمي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم