صحيفة المثقف

النزعة المثالية في تيارات الفلسفة الامريكية

علي محمد اليوسفتمهيد: يبدو أن طرح تساؤل كيف يفهم الفلاسفة المثاليون الواقع المادي أصبح من مباحث الفلسفة الكلاسيكية التي أشبعت شروحات وأستنفدت الجديد الذي يمكن أن يقال عنها لكثرة المعالجات والتنظيرات الفلسفية التي تناولت المثالية الفلسفية من زوايا رصد ومعاينات مختلفة عديدة منذ قرون طويلة.. لكن مع هذا تبقى النزعة المثالية في الفلسفة تستحدث نفسها بصيغ وتعبيرات متنوعة على الدوام بأعتبارها رؤى متعددة لفهم وتفسير الوجود الانساني والعالم بالضد من المنهج المادي..

وما نتناوله في هذا المبحث المختصر هو النزعة المثالية في الفلسفات الامريكية المعاصرة وتحديدا الذرائعية والواقعية الجديدة والواقعية النقدية، ورغم الاختلافات غير الجوهرية بينها الا أنها تلتقي بنوع من الافصاح المباشر عن منطلقاتها الفلسفية المثالية وهو ما نحاول تسليط الضوء على بعض منه ومناقشته.. وقبل الدخول في تفاصيل نجد وجوب التنبيه العرضي الى أن مفاهيم الفلسفة المثالية في مختلف تنوعاتها حاضرة اليوم لم يتجاوزها الزمن لسبب مجمع عليه في الفلسفات الاوربية المعاصرة أن قضايا الانسان في جوهرها الانطولوجي - الانثروبولوجي هي واحدة لم تتغير وتتبدل، فالانسان منذ العصور البدائية هو الانسان اليوم رغم كل مظاهر التقدم العلمي والحضاري، وقضايا الوجود والطبيعة والادراك والزمان والمكان والتساؤلات الدائمية المتناسلة عن معنى الحياة والمصير وغيرها من تساؤلات بقيت تؤطر الوجود الانساني التاريخي على مر العصور....

ومحاولة الأجابة عن التساؤلات الفكرية الفلسفية المسكون بها الانسان قرونا بقيت متواترة تدور في حلقة مغلقة غير مكسورة هي أن قضايا الوجود الانساني والرؤى الفلسفية والمعرفية في حل أشكاليات حياته كانت في حقيقتها هي واحدة في جوهرها المحوري الراكز كتساؤلات عن قضايا معنى الحياة ومصير الانسان وما يتفرع عنها فلسفيا لم يتم حسمها على أمتداد مراحل التاريخ البشري، لكن الذي تغيّر ويتغيّر على أمتداد التاريخ ويتبّدل  بأستمرار هو تفريعات طرق وسبل السعي نحو هدف أمكانية حل تلك القضايا الانسانية الجوهرية، والذي يتبّدل هو طرق التفكير الفلسفية وسبل المعالجات لمواضيع تبدو مستجدة ومستحدثة بحكم التطور التاريخي الانثروبولوجي لكنها هي واحدة في حقائقها الجوهرية التي بقيت تساؤلات معلقة لم تحل، وهذا ما أكده أقطاب الفلسفة البنيوية شتراوس، وفوكو، والتوسيروآخرين غيرهم، مما حدا بشتراوس الذهاب الى دراسة تاريخ وعادات ولغات المجتمعات البدائية ما قبل التاريخ (الاثنولوجيا) التي يمكن بضوئها أستخلاص معارف جديدة منها يمكنها أن تكون أسقاطا مباشرا لفهم الكثير من قضايا الانسان المعاصر..لذا طالما هناك حياة أنسانية متجددة متطورة تاريخيا فأن وسائل التعبير عن مشاكلها المستحدثة بأستمرار ستبقى ملازمة لها ولا خلاص منها..

النزعة المثالية في تيارات الفلسفة الامريكية

تذهب النزعة المثالية في الفلسفة الواقعية الجديدة: (الى أن الجوهر كله يكمن في التمّثل وليس في الاشياء التي ليست سوى أشياء مادية)(1) وهذه العبارة تغنينا عن تسويد عشرات الصفحات كلها تدور حول مركزية حقيقة المثالية في الفلسفة الغربية عموما التي ترى في الفكر هو البداية والنهاية في محاولة فهمنا أسرار الحياة وحقيقة الوجود ..

من حقائق تاريخ الفلسفة التي أصبحت لا معنى ولا جدوى من التذكير بها هي أن الرؤية المثالية الفلسفية كانت ولا تزال تنكر أسبقية المادة والواقع على الوعي والفكر، وأن كل شيء هو أولا واخيرا نجده في تصنيع الذهن لتمّثلاته.. وجوهر الاشياء أنما يكون في تمّثلاتنا الفكرية الذهنية لها وليس في كينونتها الماهوية، والمادة خلو من الجوهر الممكن أدراكه أو المتعذر تمّثله بتصورات الذهن والذي ندركه من المادة هو جوهرها وليس صفاتها وعلاقاتها عليه لا يتبقى في المادة ماهو جدير بالاهتمام المعرفي..

الفلسفات المثالية بخلاف المادية لا تعترف بوجود واقع مادي مستقل في وجوده عن الانسان، مستقل عن وعي الانسان به وأدراكاته ورغباته، منكرين أن وجود الطبيعة بمكوناتها من ضمنها الانسان وما يحيط به من أشياء وموجودات وظواهر لا يتوقف تأكيد البرهنة على وجودها وعي الانسان بها ومعاملتها وعيا أدراكيا تمّثليا لها.

النزعة الفلسفية المثالية في الواقعية الجديدة وفي قبلها وبعدها من تيارات فلسفية أمريكية أنما تعتبر الجوهر هو خاصية الفكر وليس خاصية المادة، والجوهر مكمنه الفكر وليس في المادة التي لا قيمة لها من دون أحاطة الوعي الفكري بها والتعبير عنها.. ومعارفنا المستمدة من الفكر في تفسير وفهم الواقع المادي هي التي تمنحنا جواهر الاشياء التي لاقيمة حقيقية من غير أدراكاتنا وتمثلاتنا لها، وخارج هذه الآلية في التمثل الانطباعي للاشياء في الذهن لا يبقى هناك وجود لعالم خارجي يحكمه الوجود المادي..

هذا بأختصار رؤى الفلسفة المثالية التي تضع العربة أمام الحصان، ولنرى كيف؟

أن أي تفكير فلسفي وغير فلسفي علمي مادي أو مثالي على السواء ولا فرق بينها يذهب الى أن أدراك الواقع المادي لا يكون بغير آلية التصورات والتمّثلات الانطباعية لصور الاشياء بالذهن وبغير هذه الآلية لا يمكن أدراكنا الاشياء والموجودات وهو مبدأ سليم صحيح لا نقاش فيه من حيث أن الفكر وسيلة معرفية للاشياء وليست الافكار هي ذاتها الاشياء في وجودها المادي الخارجي المستقل، فعندما نقول جبل فلا يعني أدخال الجبل بالذهن بل أدخال مدلول تجريد كلمة جبل في الذاكرة لا غير... وكذلك فالادراك وعدم الادراك للاشياء والموجودات المادية لا يلغي وجودها من عدمه ولا يقرر الفكر وجود الاشياء من عدمه بل الفكر يلغي عدم أمكانية الوعي الحسّي بها وأدراكنا لها تماما كاملة..وفي الوقت التي تذهب أليه المثالية أن كل شيء يكون وجوده التصنيعي بالذهن وحتى جواهر الاشياء، فأن الوجود المادي للاشياء المستقل لا يتوقف على تمّثلات الذهن البشري له، فالوجود معطى كما هي الطبيعة والانسان والكون أيضا.. والوعي بالواقع المادي مصدره الوجود الواقعي، والفكر لا يخلق وجود الاشياء لكنه يساعد في فهمها وتفسيرها والتعبير عنها وملاحقة تطويرها..

جوهر الاشياء في المادة أم في الفكر؟

الفلسفات المثالية ترى أن الجوهر يكون في تمّثلات الفكر ولا يوجد جوهرمادي خارج مدركات الفكر، لذا فالجوهر فكرمعرفي وليس تكوينات وعلاقات ماهوية مادية موجودة في الاشياء ، الجوهرفي المثالية هو مدركات العقل وليس وجوده المادي في الاشياء.. أن ماتنكره الفلسفة الواقعية الجديدة الامريكية شأنها مثل جميع الفلسفات المثالية هو أعتبارها الواقع المادي من أشياء وموجودات وظواهر في الطبيعة وما يحيط بنا، لا تحمل صفات مدركة ولا جواهر مدّخرة فيها، أكثر مما ندركه عنها كصفات تمّثل العلاقات الخارجية التي تكون كافية لمعرفة وتمثل كليّات الاشياء..وهذه الرؤية تجعلنا منقادين التسليم بخطأ وضع العربة أمام الحصان بأن مواضيع الادراك التي هي الاشياء المادية الواقعية أنما هي موجودات (قبلية) في الذهن قبل أن تكون موجودات مستقلة (قبلية) في العالم الخارجي والواقع..بمعنى تأكيد المقولة الاقنومية المثالية الجاهزة الثابتة أن الفكر قبلي سابق على المادة وليس بعديا لها..

نجد أننا ملزمين ألتأكيد على مسألة طالما أكدّنا عليها أن الفكر مهما بلغ من قوة وقدرة ألادراك والاستيعاب التمّثلي والتمثيلي في النيابة عن الاشياء فهو يبقى في النهاية تجريدا غير مادي عاجزا عن التعبير التام والاحاطة المعرفية الكاملة بتلك المدركات كما هي في حقيقتها تماما..ليس بصفاتها وعلاقاتها الفيزيائية الخارجية وحسب وأنما في أستحالة معرفته جواهر تلك الاشياء والاستئثار بحيازتها في تعبيرالفكرعنها وألغائها وجودا من قلب تلك الموجودات والاشياء..ولا يمكن للفكر أن ينوب عن الموجودات الواقعية في تمثلها كتصورات ذهنية تحاول الألمام بكلياتها،...الموجودات والاشياء في العالم الخارجي هي مصدر الافكار وهي مادة التفكير والتصورات والتمّثلات الذهنية البعدية لها وليست قبلية في سبق الفكرعليها،،وهذه الاشياء تبقى متناقضة مع الفكر المعّبر عنها بغير ألمام كاف يظهر ما تختزنه دائما من معرفة تمتلك جوهرا ومعرفة تمتلك مدّخرا من فائض المعنى الذي تعجز الافكار التعبير عنه بصدقية تماما..ويبقى دائما تضاد غير معلن خفي بين المدركات الواقعية وفكر اللغة المعّبر عنها في أستحالة تطابقهما..

كيف تدافع الواقعية الجديدة عن مثاليتها؟

أن محاولة مطابقة تصوراتنا في التعبير مع الواقعة المادية في وجودها الانطولوجي تكون صحيحة بالنسبة لمعيارية محدودية مدركاتنا العقلية عنها.. فما ندركه منها نتصوره الالمام الكامل بها، وتبقى الموجودات والاشياء المادية من حولنا تحتفظ بالكثير مما نجهله عنها في مغاليق كينونتها العصّية على الادراك المباشر، لذا يكون كل تعبير عن تلك الاشياء في حقيقتها متعّذرا لا يمكن بلوغه لما تدّخره بذاتها من أستعصاء فك رموزها التكوينية والوصول الى جواهرها..وما نتصور بلغناه في مطابقة التعبيرمع الاشياء والاحاطة التامة به لا يمنح أفكارنا تمثيلها حقيقة الاشياء موضوعة الادراك والتعبير عنها.. أمام هذا المأزق الحقيقي نجده في تعبير الواقعية الجديدة عن تساؤلها ماهي طبيعة الاشياء والواقع؟ وكيف لنا معرفته أذا كانت وسائل تلك المعرفة لا تمنحنا حقيقته؟

عن هذا التساؤل الفلسفي العميق يجيب فلاسفة الواقعية الجديدة وفلاسفة النقدية على السواء أجماعهم (كان علينا القول ماهي هوية الموضوع المعروف، أي الشيء بوصفه شيئا، وما هي هوية العقل العارف، وكان الأجدر أن تقول الواقعية الجديدة وبوضوح كاف كيف يمكن للتمثل – الموضوع المعروف - أن يكون جوهرا لشيء غير معروف؟)(2)

نستشف من التساؤل والاجابة عليه أنه رغم الاعتراف الضمني بأن الشيء بوصفه شيء مادي فهو يبقى محتفظا بكينونته الهووية بمعزل تام عن أرادة الوعي الادراكي الذي يعجز الاحاطة بكليّة الاشياء صفات وجواهر..

وحين تريد الواقعية الامريكية الجديدة بمثالية سمجة واضحة الغاء الوجود المادي أن يكون مصدرا مباشرا بدئيا لكل تفكير ذهني، نجدها توقع نفسها بوهم أخطر أن تعتبرالجوهر هو ما نستطيع أدراكه ومعرفته والالمام به، ولا توجد جواهر عصّية تمتلكها الاشياء خارج حدود الالمام الفكري في التعبير عنها..وهذه الحقيقة بالنسبة للمثاليين تمنح الافكار(حقيقة) وجود الاشياء وحقيقة أمتلاك تمّثلات الفكر (جوهرها) أيضا...ولا تبقى لأشياء أو للموجودات المادية في العالم الخارجي أية قيمة خارج مدركات العقل في تمّثلاته لها..فما لا تدركه تلك التمثلات لا يحمل قيمة حقيقية له.

المثاليون الفلاسفة يعتبرون الفكر سبب ونتيجة معا في معرفة الواقع المادي، بينما الصحيح أن الواقع المادي هو سبب أن يكون للفكر معنى معرفي يقودنا لادراك الاشياء في وجودها المادي.. ويترتب الخروج على هذا الخطأ القول أذا ما كان سهلا علينا ألغاء أفكارنا أو تبديلها وتغييرها، لكن من العجز تماما ألغاء حقيقة الوجود المادي الذي لا يتحقق في رغبة أدراكاتنا وتمثلاتنا الذهنية له، وأنما هي موجودات مستقلة لا تكترث بمن يدركها أو لا يدركها..

وبحسب الواقعية النقدية الامريكية المثالية (ولأن المعرفة لا تقدم لنا مادية الواقع، فمن الضروري بمكان أن تقدم لنا الجوهر، ومعرفة الجوهر كموضوع يكون كل شيء متحققا، وفيما يتجاوز الموضوع المعروف لا يبقى وجودا لحقيقة عقلية مطلقا فالجوهر المعروف هو الجوهر الكلي للموضوع.)(3)

واضح من غير المجدي هروب الواقعية النقدية الى أمام في عجز معرفة حقائق مادية الواقع، أن تجعل المثالية الامريكية تعويضها عن عجزها أدراك مادية الواقع في تعويضها أمتلاك الاصعب وهو الجوهر، فمعرفة الموجودات في كلياتها لا يمكن مقارنة أمكانية تحققها وتحصيلها لمن يرغب ويريد أمام صعوبة أمتلاك معرفة جواهر الاشياء، كما أن وضع العربة أمام الحصان في تبريرات الفلسفة المثالية، تضعنا أمام بديهية أن معرفة الخصائص المادية للاشياء في وجودها الخارجي هو مرحلة بدئية أولى تمّهد لنا سبيل الوصول لمعرفة جواهر تلك الاشياء..

أما تعبير المثالية الامريكية أنه بغياب موضوع أدراك الجوهر لا يبقى هناك حقيقة عقلية، فهوتعبير دوغمائي محتضر فالكلية المعرفية للموجودات المتكونة من صفات وجواهر لا تكفي الاحاطة بها أن تكون غير ناقصة أذ من الصعب أدراك جواهر الاشياء قبل معرفتنا مدركاتها الصفاتية الوجودية كليّة، كما أن وسائل تحقيق معرفتنا الكليات المحسوسة لا تكون كافية في معرفتنا جواهر الاشياء كما وليست كافية لمعرفتها كصفات وعلاقات حقيقية ايضا..

 

 

تمثلات الذهن وتعبيرات اللغة غير كافيين

لا يزال هناك ثغرة تتجاهلها الفلسفات المثالية هي أن تمثلاتنا الفكرية أو التعبيرات اللغوية عنها حتما تكون عاجزة في محاولة التعبير المتكامل عن الاشياء في حقيقتها الواقعية،واللغة في تعبيرها الفكري عن الاشياء والموضوعات دائما ما تكون قاصرة عن الاحاطة والتطابق التكاملي مع ما يدركه الوعي والفكرمن تلك الموضوعات في وجودها ، والفكر والموجودات يبقيان مختلفان من حيث علاقة التفاوت في ترابط الفكر- اللغة بالموجود في حقيقته المادية...ويبقى الفكر الأدراكي عاجزا عن أستيعاب الوجود تماما الذي يبقى على الدوام محتفظا بما يراه مدّخرا فيه كفائض معنى غير مكتشف ولا مدرك في العديد من الجوانب المحجوبة عن الادراك الحقيقي للموجودات والظواهر..الوعي الادراكي الحسي للموجودات وتناول العقل لاحساسات تلك الموجودات الواصلة اليه ليس شرطان كافيان للتسليم بحقيقة الاحاطة والالمام الكامل بتلك الموجودات الواقعية والطبيعية..فالواقع الحقيقي للاشياء يختلف عن الوعي الادراكي لها والتعبير عنها بمنطق ولغة العقل..

القديس أنسلم 1033 – 1109 كان وصف هذا التفاوت في القرن الحادي عشر بين تعبير اللغة القاصر عن الاحاطة بالاشياء المدركة قائلا (أن وجود شيء ما في الذهن فقط هو أدنى من وجوده في الواقع) وهو تعبير دقيق في تشخيصه الحالة التي تكلمنا عنها، فالعقل لا يستطيع أدراك الوجود على حقيقته في تطابق الشيء مع دلالة الفكر - اللغة التعبيرعنه تماما..فالعالم المدرك بمكوناته الجوهرية وظواهره التي لا تحصى ولا تحد لا يقف الوعي بها وأدراكه لها عند حدود تفكير العقل وتعبير اللغة عنها أو بالاحرى بعضها. فالعالم بلا محدوديته ولا نهائيته كفضاء سديمي مفتوح في المكان والزمان يستوعب الطبيعة والانسان أكثر مما يستطيع الانسان والعقل واللغة أستيعابه والأحاطة به..

والعالم بما يحتويه من موجودات لا حصر لها هو فضاء لا متناه لا تحّده عقولنا المحدودة الادراك ولا اللغة المعبّرة عنه في كل أشكال تمّثلاته الذهنية.. ويعتبرلودفيج فينجشتين أن حدود اللغة عند الفرد التي يعبّر بها عن العالم هي ذاتها حدود أدراكه وفهمه عالمه بما يستطيع الأحاطة به من خلال تعبير الفكر - اللغة عنه....لذا فهو لا يستطيع فهم وأدراك العالم ليس على حقيقته التامة وحسب وأنما حتى على صعيد عدم معرفة مكوناته وظواهره اللامحدودة.

ونخلص أن أدراك موجودات العالم بتصوراتنا وتمثلاتنا الانطباعية الذهنية اللغوية عنها هي وحدها تكون حدود معرفتنا العالم ولا يمكننا الاحاطة التامة بحقائق موجودات العالم من خلال لغة التعبيرعنها فقط....وما يخرج عن هذا الألمام المعرفي المتقّطع المجتزأ من مدركاتنا لبعض موجودات وظواهر العالم الذي لا ندركه كاملا بمجمله تماما يكون العالم غير الذي ندركه هو الوجود الحقيقي الذي نجهله في معظم تجلياّته المحجوبة عن الأحاطة بها أدراكيا من قبلنا....ويبقى عالم الموجودات محتفظا بحقيقته الجوهرية التي لا تدركها محاولاتنا معرفتها مرارا وتكرارا..ولا يعني هذا أن ما لانستطيع أدراكه بالفكر والتعبير عنه باللغة غير موجود فهذه أبتذالية ساذجة في التعبيروالفهم قبل أبتذالية أسوأ من عدم أدراكنا الوجود على غير حقيقته.

بهذا المعنى نجد نيتشة كان مصّرا على وجوب الاقرار بحقيقة أن اللغة لا يمكن أن تكون غير مجازية في تعبيرها عن المدركات الواقعية دائما.. عليه اللغة تعطينا صفات الاشياء المدركة خارجيا ولا تعطينا الواقع في حقيقته كما نرغب معرفته... لذا تكون أدراكاتنا للاشياء خادعة ليس من الاحساسات الواردة عن طريق الحواس وحسب بل خادعة منقوصة أيضا في لغة الادراك التعبيري عنها فكريا بالوعي..

وعلاقة اللغة بالعالم حسب فرديناند سوسير هي علاقة أعتباطية لا تدل على الواقع تماما.. ونفهم من هذا أن اللغة في الوقت الذي نجهد فيه أنفسنا أن تكون معبّرة تعبيرا صادقا عن مدركاتنا، نفاجأ أن اللغة لا تستطيع التعبير بأكثر مما هو متاح أدراكه لنا وتعبيرها عنه من تلك المدركات.. ومن أدراكنا بعض هذا العالم غير المحدود بمحددات مجتزأة وقطوعات غير مترابطة منه لا علاقة بينها تجمعها في أدراكاتنا لها..

أننا لا نستطيع أدراك موجودات العالم دفعة واحدة كما نرغبه كون الوجود فضاءا أكبر من مداركنا وحدود عقولنا..فمثلا بسيطا نحن نرى شجرة واحدة أو عدة اشجار في غابة لكننا لا نستطيع رؤية الغابة وأدراك موجوداتها من الاشجار وغير الاشجار من كائنات وموجودات دفعة واحدة من خلال حاسة البصر وحدها ونحن واقفين في مكان محدد من الغابة لا نبرحه ولا نغيّره.

أننا غالبا ما نتناسى حقيقة أن الافكار لا تأخذ كامل مدياتها في التعبير عن مدركاتنا الاشياء وتمظهرات العالم من حولنا كما هي على حقيقتها في الواقع بسبب محدودية أدراكنا لتلك المدركات ومحدودية التعبير عنها لغويا من جهة..وفي عجز العقل الألمام بها كاملة من جهة أخرى..لذلك تبقى حقائق الاشياء لا يمكننا أدراكها تماما.

الفيلسوف الانكليزي والترسكوت 815 - 877 يعتبر الواقعي ليس هو كل ما نستطيع التفكيربه أو حوله.. بهذا المعنى نذهب الى أن جميع أفكارنا عن الاشياء مجازات من التعبير اللغوي كما عبر عنه نيتشة لتصورات ذهنية بعضها مستمد من تمظهرات الواقع العصّي على أستيعاب اللغة له في حقيقته الماهوية الانطولوجية..

وبعضها الآخر يكون أكثر تعقيدا في عجز التفكير الذهني التعبير عن موضوعات أدراكه غير المادية في العالم الخارجي ونقصد بها مواضيع الادراك الخيالي المستمدة من خزين الذاكرة..فالخيال الذي هو نتاج الفعالية الذهنية الخيالية أوسع فضاءا من أمكانية اللغة التعبير عنه وأمكانية الفكر الاحاطة به... فعجز اللغة الاحاطة بالمدركات المادية في الطبيعة يكون مضاعفا مئات المرات في عجز اللغة التعبيرعن مدركات المخيّلة المستمدة مواضيعها من الخيال والذاكرة..خيانة اللغة في عجزها أو في مخاتلتها التعبير عن موضوعات الخيال العقلي هي أكثر بكثير من خيانة اللغة التعبير عن الواقع المادي المحسوس..

 

علي محمد اليوسف /الموصل

......................

الهوامش:

1، ،3،2 الفلسفة الامريكية/جيرار ديلودال/ ت، د.جورج كتورة، د.الهام الشعراني ص 143

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم