صحيفة المثقف

الشقة رقم (6)

عبد الفتاح المطلبيمثل كبشٍ عجوز لا يأبه كثيرا بمشاغل الجزارألِفَ العزلةَ منذُ رحيلِ رفيقتهُ قبلَ عامين، يقضي أيامَهُ وهي تتساقط مثلَ قطراتِ ماءٍ من صنبورٍمعطوبٍ قطرةً إثر أخرى تذهبُ سُدىً حتى يحينُ موعدُ عطلتِهِ السنويةِ في آب من كل عام ..عندها يقصدُ مجَمّع الخيط ِالأزرقِ الذي يلائم كلّ عشاق العزلة أو للذين يُفيقون فجأة على ضجيج مستديم فتنبثق تلك الرغبة بالإبتعاد عن ذلك الضجيج ولو لوقتٍ محدود، هو أيضا للحالمين بعودة قطار مضى وخلّفهم في محطاتٍ قصيةٍ وهو بعد مكانٌ لانفلات الوهم دون الخشية من العيون والآذان التي تحيط بنا جميعا،للمنفردين والأيامى من الجنسين، شقق صغيرة تتسع لشخصٍ واحدٍ،منذ رحلته السابقة يعرف أن ذلك يشبه معسكرا من نوعٍ ما،يجدُ فيهِ عزاءً كما يظن هو و جميع مرتادي هذا المكان. مثل مصحةٍ تعطيك الفرصة لتخلو إلى نفسك التي خرجت من حوض الحياة يابسةً تكاد تتقصف فرط الجفاف. لم تمض على وصولهِ إلا بضع دقائق، أحس بخواءٍ يفغرُ فاه في أعماقه ..لم تسعفهُ أشهرٌ خلت قضاها بين قراءة مطبوعاتٍ كان قد اقتناها قبل ذلك ولم تداوي شعوره بالوحدة تلك المونولوجات المستمرة وقد خلا لنفسه كل هذه الشهور، العام المنصرم بعد تجربةٍ صغيرة مع إحدى النزيلات كان أكثرُ قناعةً بالمجهود الذي تبذله إدارة المُجَمّع من أجل الجميع، وضع حقيبتهُ على الأرض ثم استدارنصف دورة، المفتاح مازال في يده، رفعه إلى عينيه تفحصه جيدا ثم أولجهُ في ثقب قفل الباب ذي المقبض وأداره دورتين وهو يسمع صوت لسان القفل (كلك..كلك)ترك المفتاح في القفل من الداخل، أضاء المصباح وفتح ظلفتي النافذة،أخرج منامتهُ من الحقيبة وارتداها وتناول فرشاة أسنانه ووضعها في جيب منامته، سحب الكرسي الوحيد إذ أن كلّ شيءٍ كان مُعداً لشخصٍ واحد، جلس مسترخيا ريثما يستريح قليلا وقد هده التعب جراء طريقٍ طويل، مدّ نظرهُ إلى البنايات التي تقع في الجانب الآخر وراح يحًصي طوابقها بنايةً بعد أخرى مستغرقا في لعبة العد حتى تراخت يداه واستغرق في نومٍ عميق تخللته أحلامٌ وكوابيس شتى كان أقساها عندما رأى نفسَهُ وحيدا في صحراءَ قاحلةٍ ليس فيها إلا الرمال ورياح السَموم كان يتلهفُ عطشا ولسانه مثل خشبةٍ بين فكيه فقد نسي أن يشرب الماء طوال الطريق إلى المجمع حتى إغفاءته قبل بضع ساعات، توغل بعيدا في نومهِ فرأى أن المصباحَ لمّا يزلْ مُضاءً عندما قصد براد الماء عائدا بكأسٍ ملأى بالماء البارد، مَدّ عنقُهُ وأخرج رأسه من النافذة، الظلامُ دامسٌ وقد حل الليل على المدينة وأطفأت النوافذ مصابيحها ولم تكن هناك إلا نافذةٌ واحدةٌ كانت مضاءَةً، جلس مرةً أخرى على الكرسي بعد إن فرغ من شرب الماء وراح ينظرُ إلى تلك النافذة عبر هذا الليل البهيم، بدأ يعد الطوابق التي تقابله واحد إثنان ثلاثة أربعة، البنايات تتشابه فقد كانت الشقة المقابلة بنفس موقع شقته في هذه البناية التي هو فيها، رأى خيالَ امرأة تخطف في النافذة المقابلةِ التي مازالت مضاءةً، لم يستطع تفسير خفقةٍ زائدةٍ في خفقات قلبه، ودَّ أن يراقب نافذة المرأة دون أن يشعر به أحد ولكي لا تنتبه إليه المرأة في النافذة المقابلة فتحسبه فضوليا أو مهووساً، أطفأ نور المصباح وجلس على كرسيه يراقبُ بهدوءٍ، رفع رأسه إلى النافذة،كانت مطفأةَ النورِ أيضا، تمتمَ يا للحظ، فعمد إلى إنارة المصباح مرةً أخرى و لدهشته الكبيرة بقيت يده معلقةً على زر المصباح إذ أن النافذة المقابلة أضاءت مصباحها أيضا حال إضاءته لمصباحه، فكر أن ذلك كانَ مصادفةً ولكي يقطع الشك باليقين أطفأ مصباحه مرة أخرى فأطفأت مصباحها أيضا، ارتسمت على وجهه ابتسامة ذات مغزى وراح يطفئ النور فتطفئه ويضيئه فتضيئه أيضا، حسنا،فكر أن ذلك بمثابة رسالة مفادها أنني أراقبك كما تراقبني واستمرت لعبة الضوء في النافذتين، قاد قدميه إلى المطبخ الصغير، كسر الصمت المطبق بجلبته وهو يبحث عن إناء غلي الشاي، بحث عن شيءٍ في البراد ليأكله وجد بعض الكعك،ملأ كوبه شايا واتجه إلى النافذة، النافذة ذاتها كانت في الشقة رقم 6 المقابلة لنافذته، كوب الشاي ذاته وبعض الكعك، رآها تجلسُ على الكرسي تراقب النافذة المقابلة، في عالمٍ موازي تقاربت النافذتان حتى أن وجهه أطل عليها ووجهها أطل عليه وكان الزمن صفرياً هكذا قد خلا من منطق العلل والمعلولات، قالت وهي مغمضة العينين

 - أين كنتَ؟ لقد انتظرتك طويلاً

 بينما كانت كلمة طويلا تنحشر في أذنه بصوتٍ أنثوي ..،

- سآتي إليك حالا !!

وفي الوقت ذاته سمع صدى لصوت:

- سآتي إليك حالا

 هكذا بدت الأمورفالفكرةُ من أولها ينتشرُ على جوانبها الوهمُ يحجب المنطق فينسرب العقل إلى اللعبةِ دون شكٍ أو يقين، الليل كذلك ينتشرفي رأسه، هبط السلم متسرنماً مازال بملابس النوم وفرشاة الأسنان ما زالت في جيب بيجامته، لا يعرف كيف قطع المسافة بين البنايتين، ارتقى السلم بخفة قط، السلمُ كان نسخة طبق الأصل من سلم البناية التي يقطنها، وقف أمام باب الشقة رقم 6، أدار المقبض .. خطا إلى الداخل، وجد النافذة ذاتها والكرسي ذاته جلس على الكرسي كانت الشقة المقابلة مضاءة، ظن أنه نسي أن يطفئ النور هناك الكوب ذاته وبقايا الشاي فيه وقضمة من الكعك، بينما يتفحص المكان انتشر الليل الكثيف كان ينظر إلى الشقة المقابلة، أطفأ النور وجلس ينتظر، أطفأت النور هي أيضا وبقيت تنتظر، قرر البقاء في ما يعتقد أنها شقتها حتى تأتي، لم يتذكر الوجوه التي قابلته حين قطع المسافة بين الشقتين، رسم صورتها بمخيلته لابد أن تأتي قال ذلك في سره، وبقي نائما على الكرسي قبالة النافذة، استيقظ على طرقٍ عنيف على باب الشقة، ظن أنها قد وصلت فهرع إلى الباب ملهوفا، فاجأه بواب البناية ومراقبها،قال له:

- سيدي قلقتُ عليك، لم ينفتح باب شقتك منذ إن قدمت قبل يومين. هل أنت بخير؟

- آه نعم .. أنا بخير

- الحمد لله وقفل البواب راجعا

- نظر من خلال النافذة كانت الشمسُ ساطعةً لم تكن هناك إلا نافذةٌ بعيدةٌ، تقابل نافذته بدت في عتمة الليل أقرب إليه والآن في ضوء النهار تبدو أبعد كثيرا مما ظن ...

استحمّ على عجل ولبس ملابسه السياحية وهبط السلم بعد أن ألقى التحية على البواب وراح يتجول في المدينة السياحية وراح يحوم حول البنايات المقابلة لعله يصادف ما يكسر وحدته.

***

قصة قصيرة

عبد الفتاح المطلبي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم