صحيفة المثقف

الحراك الجماهيري منهجاً لتقويم المواطنة

عبد الحسين صالح الطائيأفرز الحراك الجماهيري الذي اندلع في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019، متغيرات هائلة في الساحة السياسية العراقية، اتخذ المتظاهرون العلم العراقي رمزاً مميزاً للهوية الوطنية العراقية، وغدا كل من (التك تك والمطعم التركي)، أيقونتان لهما المكانة السامية في قلوب كل المتضامنين مع الشباب العراقي المنتفض. صور وأحداث متنوعة في أغلب ساحات الوطن، ولا سيما ساحة التحرير في قلب بغداد، جسدت ملحمة كبيرة في تاريخ العراق الحديث، أبطالها شباب، ذو إرادة وعزيمة قوية وخيال مبدع، لم تتلوث أفكارهم بأديولوجيا معينة سوى حب الوطن، جسدوا روح المواطنة والهوية الوطنية الجمعية بأجمل معالمها.

أصبح العلم العراقي سلاح المتظاهرين ومصدر قوتهم في ساحات التظاهر، ورغم سلمية التظاهر، تعرضت الراية الرمزية التي يحتمي بها المتظاهرين إلى الإغتيال، من أطراف معادية للوطن، أُطلق عليها (الطرف الثالث)، سواء كانت من أتباع السلطة أو من يعمل بأجندات معادية للوطنية العراقية، هذا الطرف مارس أعمالاً بعيدة عن كل القيم الإنسانية من خطف وقتل وتغييب وغيرها من الأفعال المشينة، هذه الأمور أكدت بأنه عندما يغيب الوطن تتوارى الوطنية كقيمة سامية، فلا مواطنة بدون الوطن، لأن المواطنة تعني الشعور بالانتماء والولاء للوطن، وحسب دائرة المعارف البريطانية:  هي علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق - متبادلة - في تلك الدولة. فقد أوضحت الباحثة د. منى حسين عبيد بأن الهوية الوطنية منظومة مركبة معقدة ليس بالسهولة أن يتم تجاهل معطيات التشابك فيها، فهي تحتوي بصورة طبيعية على مقومات وممارسات الولاء والانتماء، وفي الواقع، قد تبتعد الهوية عن مجتمع ما وفي ظروف زمنية محـددة، ولكنهـا سرعان ما تعاود لبناء نفسها، فالمجتمعات المأزومة تعاني خللا تركيبيـا في بنائها يقودها في بعض الأحيان إلى التفكك والتشرذم تحـت عنـاوين وهويات فرعية لا تقوى على الصمود والاستمرار لوحدها لأسباب عديدة.

العراق بعد 2003 ، تعرض لنكسات كثيرة، أبرزها الاحتلال والتدمير المبرمج للبنية التحتية، ولمؤسساته الإدارية والقانونية وغيرها، وقد إعتاد العالم على أنباء قتل العراقيين بأعداد كبيرة على أيدى قوى التطرف والإجرام أو على أيدي القوات الأمريكية. وفي ظل تعقد المشهد السياسي، واستلام قوى الإسلام السياسي السلطة، غابت الهوية الوطنيـة، وبرزت الهويات الفرعية، وقد ساهمت القوى السياسـية بكل أطيافها في هذا الشرخ الكبير، وفي أشاعة ثقافة الفساد المالي والإداري، وعمقت الفوارق الطبقية، وتدهورت قطاعات الدولة الأساسية وضعفت الخدمات بشكل كبير، ونتيجة السياسات الخاطئة، وعدم وضوح الرؤية الداعية إلى تقويم المسار الصحيح، أعطت المبرر الموضوعي لهذا الحراك الجماهيري بأن يتصاعد وتلتف حوله مختلف الفئات الإجتماعية.

وحسب رأي الباحث د. محمد السعيد إدريس بأن المواطنة لا تبنى إلا في بيئة سياسية ديمقراطية قانونية، تتجاوز كل أشكال الإستفراد بالسلطة والقرار والإستهتار بقدرات المواطنين وإمكاناتهم العقلية والعملية. والمواطنة الحقيقية لا تتعالى على حقائق التركيبة الثقافية والإجتماعية والسياسية، ولا تمارس تزيفاً للواقع، وإنما تتعامل مع الواقع من منطلق حقائقه الثابته، وتعمل على فتح المجال للحرية والإنفتاح والتعددية في الفضاء الوطني. والثقافة الوطنية تتشكل من الثوابت التي تعبر عن حالة التنوع والتعدد الموجود في الوطن، فليست ثقافة فئة أو مجموعة هي ثقافة الوطن بكل تنوعاته وأطيافه.

ان بناء دولة عصرية يتطلب، كخطوة أولى، تجاوز الإشكالات الفرعية، والشعور بالإنتماء إلى وطنهم العراق، ولا يتم ذلك إلا من خلال إشاعة الديمقراطية وإعطاء الشعب دوره في المشاركة السياسية التي تمثل كل مكونات المجتمع العراقي، لأن المواطنة مقترنة بحق المشاركة. وأن تتبنى المؤسسة السياسية بسلطاتها الثلاث معالجة الفقر وتجاوز الفوارق الطبقية بإشاعة مبدأ العدالة الاجتماعية. ولابد أن يكون دور الدولة توفير المناخ القانوني والإجتماعي وبناء الإطر والمؤسسات القادرة على احتضان كل الأطياف التي تمثل الوطن، والتركيز على مبدأ المواطنة كمحور أساس لتمكين المواطن من العيش داخل وطنه بحكم عضويته في إطار المكون البشري للدولة.

دوافع الحراك الجماهيري الحالي طبقية بإمتياز، والشباب المنتفض قد تمرس على أساليب نضالية عالية إكتسبها من آفاق التقنيات الحديثة، ومن قنوات التواصل الإجتماعي والإنفتاح على العالم بكل آفاقه. واستمرار التظاهرات والإعتصامات بمشاركة قطاعات واسعة من طلاب الجامعات ونقابات العمال وتضامن شرائح مجتمعية كثيرة من العراقيين، داخلياً وخارجياً، شكلت عوامل ضغط مؤثرة على الحكومة بتقديم المزيد من التنازلات.

إستقالة رئيس الوزراء وحكومته، رغم تأخرها تُعد بادرة جيدة، ولكنها غير كافية ولا تلبي طموحات الحراك الجماهيري، الذي قدم العديد من الضحايا، بل هي أحد المطالب المعلن عنها، مما يتطلب الإستجابة السريعة لإحترام الإرادة الشعبية، والإسراع في تلبية المطالب الأخرى، ولا سيما إنجاز التشريعات الإنتخابية، ومحاسبة الفاسدين وإسترجاع الأموال المنهوبة، ومحاكمة من إرتكب الجرائم بحق أبناء شعبنا، وتعويض أهالي الشهداء، وإطلاق سراح المعتقلين، وملاحقة المندسين والكشف عن هويتهم ومعاقبتهم، وغيرها من المطالب التي تنسجم وتطلعات الشباب المنتفض.

تشير أكثر التجارب التاريخية لأي حراك جماهيري، بأن الإنتصار الحقيقي يكون للجماهير المنتفضة، ونعتقد بأن المرحلة القادمة ستكون أكثر تأزماً، لأنها تهدف إلى الإطاحة بنظام المحاصصة البغيض، وسحب الشرعية من القوى المهيمنة، التي ستمارس سياسة التسويف والمماطلة والخداع والمناورة في سبيل البقاء في السلطة، خوفاً من المحاسبة. ومسألة إختيار رئيس وزراء جديد لمرحلة انتقالية تمهد لإنتخابات نزيه مبكرة،  ستصطدم بمعوقات كثيرة، لأن المعادلة الآن قد اختلفت، الشباب المنتفض هو من سيرشح الشخص المؤهل وفقاً للمعايير الوطنية والكفاءة، يكون مخولاً من الشعب مصدر السلطات، وقادراً على صياغة وصيانة القرار الوطني العراقي، وقادراً على إختيار حكومة مهنية نزيه من العناصر الوطنية البعيدة عن المحاصصة.

ومن أجل رفع هواجس الخوف والخشية وعدم الثقة التي تراكمت خلال الفترة الزمنية المنصرمة، يتطلب الأمر إشاعة الحوار، والتعرف على الآخر داخل الوطن، فضلا عن فتح جميع الآفاق في التوافق والاختلاف في حدود روح المواطنة الحقة، أي ان تتعدد الرؤى، بحيث لا تتعدى سقف مصلحة الوطن والمحافظة عليه، من خلال التأكيد على أسس الشراكة ونبذ مفاهيم حكم الأقلية والأغلبية، وإنهاء التمييز بكل صوره، وتصحيح المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال إقامة نظام سياسي يؤمن بالتعددية، ويحفظ الحقوق والحريات العامة لكل أفراد الشعب من دون تمييز، ويضمن مساهمة الجميع في صنع القرار العراقي، وعدم التفريط بالطاقات الشابه التي أنعشت الروح الوطنية واعادة الأمل في قلوب محبي الوطن.

إن تعزيز ثقافة التسامح وترسيخ روح المحبة بين المواطنين، ورفع مصلحة الوطن فوق الانتماءات الفرعية، لا يكون إلا بتعزيز الحوار الوطني لبناء قواعد ثقة متبادلة بين أطياف المجتمع العراقي في المجالات كافة، وأن يكون الخطاب الوطني الرافض لكل أشكال العنف والإقصاء والتهميش هو الأساس في أي تعامل لترسيخ روح المواطنة. وأخيراً، لابد من الإشارة إلى دور القوى الضاغطة في مسار الأحداث المستقبلية للعراق، نعتقد بأنه في حالة غياب أو ضعف الدولة سيكون للعشائر العراقية دوراً مميزاً في الدفاع عن أبناءهم المنتفضين، وفي حسم الكثير من  الأمور الخلافية التي تتعلق بنهج السلطة، والتعاون مع الأجهزة الأمنية في الحفاظ على الأمن والممتلكات العامة.

 

د. عبدالحسين صالح الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم