صحيفة المثقف

لمناسبة احتفال غوغل بالذكرى الثامنة والتسعين لميلادها

قاسم حسين صالحعفيفة اسكندر

في العام (1972) كنت اعمل مذيعا في اذاعة بغداد، ومحررا في مجلة (الاذاعة والتلفزيزن).. التي كانت الاوسع انتشارا والاغزر في تنوعها الثقافي والفني، والاكثر استقطابا لمحررين متميزين بينهم: زهير الدجيلي، فالح عبد الجبار، فاطمة المحسن، زهير الجزائري، محمد الجزائري، سؤودد القادري.. الذين صاروا من ابرز الكتّاب العراقيين.

كنت حينها شابا وسيما نشطا (طالب دراسات عليا، ومذيع، ومحرر صحفي في آن واحد). وكان الراحل زهير الدجيلي (رئيس التحرير) يختارني لاجراء لقاءات صحفية مع الاشخاص "الصعبيين" مثل محمد القبنجي وآخرين افتقدناهم ونسيناهم في زمن شح به الوفاء لمن كانوا رموزا فنية وثقافية وعلمية ايضا في زمن أشاع ثقافة القبح واعتبر الفن حراما!

في صباح احد الايام، طلبني زهير الدجيلي، ونظر اليّ من فوق نظارته وقال:

- حبيبي قاسم.. اريدك تعمل لقاء صحفي مع عفيفه.. صار تلث مرات تعتذر.. وهي بطبيعتها تكره اللقاءات الصحفية.. يلّه وريني شطارتك ياحلو.

كنت حينها قد علّقت في اذني نصيحة تلقيتها من صحفي مصري اسمه (كرم شلبي). كان يدرّسنا مادة (الفن الصحفي) في دورة اذاعية لعشرة من بين اكثر الف متقدم اجتازوا اختبار لجنة مؤلفة من: محمد سعيد الصحاف، سعاد الرمزي، سعد لبيب مدير برامج اذاعة صوت العرب، عبد المرسل الزيدي، بدري حسون فريد، وثامر مهدي (هكذا كان ينتقى المذيع ويدخل دورة اذاعية لثلاثة اشهر يتلقى فيها دروسا في اللغة وفن الألقاء والصوت).

كانت نصيحة كرم شلبي هي [حين تذهب لاجراء مقابلة صحفية.. اذهب معبئا]. وكان يقصد بها ان على الصحفي ان يفاجيء الشخصية التي يقابلها بمعلومات يظن ان لا احد يعرفها.

كنت حينها اعمل في القسم الثقافي الذي يرأسه الشاعر حسب الشيخ جعفر، وكان الشاعر حسين مردان (الوجودي، المتمرّد) يعمل فيه ايضا.. وقيل لي ان له علاقة حب بعفيفه.. وانه نظم لها قصيدة حب رائعه.

حييته بتحية خاصة.. وبعد ان هيأته نفسيا قلت له: بداعة عفيفه.. اريدك تعطيني القصيدة اللي نظمتها لعفيفه اسكندر.

حدّق بي وهو يمسّد شعره المنسدل على اذنيه بلا تمشيط.. وقال:

- انها هنا.. خذها ان استطعت.. واشار الى قلبه!

وبعد موقف رومانسي.. وقبلة على خده.. وضعت القصيدة في جيبي.. وكانت اول تعبئه.

ورحت ابحث عن تعبئه ثانية.. فقيل لي.. ان احد شيوخ الديوانية.. دعى عفيفه اسكندر لاحياء حفلة بمناسبة زواج ابنه، وانها تعرضت الى حادث اعتداء عليها اذ كانت وقتها جميلة جدا، تلهب الحفلات بحركاتها (وخبلّت ناس ماشايفين) بحسب تعبير من روى لي، الذي افادني بأن ابن هذا الشيخ يعمل في (مصرف الرافدين) فقصدته، وروى لي تفاصيل الحادث.. فكانت التعبئة الثانية.

كان موعد اللقاء الساعة السابعة عصرا، في شقتها بشارع ابي نؤاس. فانطلقنا انا والمصور حسين التكريتي، الذي اصبح فيما بعد المصور الخاص للرئيس صدام حسين.

وصلنا على الموعد.. ووجدنا عفيفه بكامل اناقتها.. فستان احمر منقط بأبيض.. تسريحة بشعر مرفوع الى اعلى يمنحها طولا وكبرياء.

رحبت بنا.. وقالت:

- تره المجال ساعة فقط.. لأن عندي التزام الساعة ثمانيه.

اجبتها: ولا يهمك ست عفيفه.. كلش كافي.. والتفت الى المصور: يله ابو علي.. شوف شغلك.. التقط لها صورة غلاف جميلة.. وغادرنا.. وبقينا.. في الشقه.. انا وعفيفه فقط!.

وجرّ الحديث.. واجتزنا الساعة الثامنه.. وادخلتني الى جناح اخر في الشقه.. كانت على احد رفوفه تماثيل خشبيه لرؤوس بشرية منحوته بدقة.. فأجأتني انها من صنعها.. وكانت على الحائط صورة لطفلة جميلة، بأطار انيق، سألتها.. من تكون هذه الطفلة، اجابت: انها انا.

- ممكن أخذها معي.. لتنشر مع الموضوع.

- قالت: وبريق الدمع بدأ يلمع بعينيها:

- خذها، وثقتي بك انك ستعيدها، فهي اعز ذكرى واكثرها ألما في حياتي.

وبدأت تروي لي حكايات طفولتها.. واوجعها.. يوم زفوها وهي بعمر 12 سنة الى زوجها (اسكندر اصطفيان) ومنه اخذت الاسم.

- البسوني البدله البيضاء، وكعب عالي لأنني كنت قصيره، وزفوني، وانا لا اعرف ما يجري.. ودخلت على رجل يكبرني بأربعين سنه.

تبادلنا الاحزان، وبكت عفيفه.. يالجمال الدمع على خديها المتوردين بحمرة اضافية وضعتها باناقة فوق وجنتيها. وكنت لحظتها بين المشفق عليها المداري لاحزانها، وبين (الصحفي السيكولوجي الخبيث) الذي يستهوي ان يزيدها حزنا لتفيض بما استقر في موطن الاسرار!

سألتهاعن علاقتها بحسين مردان.. فأجابت انه حب من طرف واحد، وانها ما كانت تحبه لشخصه، انما تحب فيه الشاعر المتمرد الجريء.

وسألتها ان كانت تجد في "تعذيبه" ما يشعرها بالمتعه، فأجابت.. ابدا، بل انها تشفق عليه، وتستمتع بشعره، وان ادباء كثيرين غيره حاولوا، غير انه كان نظيفا ونقيا.. ولطيفا في ساعات صفائه!

اجتزنا التاسعة مساءا.. تناولنا عشاءا خفيفا.. وحكت لي عن لقاءاتها بفنانيين مصريين كبار، وشعراء كبار، بينهم ابراهيم ناجي صاحب قصيدة الاطلال، ومحمد عبد الوهاب، وتحية كاريوكا.

والاكثر من ذلك.. ان عفيفه اسكندر كان لها في بغداد صالونا ادبيا يحضره ادباء وشعراء وفنانون وسياسيون بينهم نوري السعيد والوصي عبد الاله!، وأن صالونها كان مطبخا فنيا وثقافيا وسياسيا ايضا.. وعندها كان عليّ انا الصحفي.. ان اقلب صورة عفيفة اسكندر في اذهان العراقيين، في زمن مبكر نسبيا (بداية السبعينيات). ذلك ان الفكرة المأخوذة عن الفنانة، انها تبيع الهوى، ولا شرف عندها، وان (لحمها رخيص).. فعمدت الى تصحيح، بل قلب هذه الصورة الى ان عفيفه.. فنانه.. مثقفه.. محبه للادباء والمثقفين وان بيتها كان صالونا ثقافيا وفنيا و.. سياسيا ايضا!.

وللأسف.. فأن الصورة المأخوذه عنها في اذهان عامة الناس، كانت نفسها موجودة لدى مثقفيين ايضا. ففي صباح اليوم التالي استقبلني زملائي الصحفيين في المجلة (مهنئين) لي بقضاء ليلة ممتعه!.. وما علموا ان عفيفه التي تخلت عن التزامها ومدت الموعد من الثامنه الى قريب منتصف الليل.. كانت نقيه.. مثقفه.. مهذبه.. فنانه من طراز خاص.. وانها وجدت صحفيا استفاد من خبرة من علموه فن الصحافة في العزف على اوتار ما عزف عليها احد قبله.. فكان تحقيقا صحفيا مميزا في حينه قلب الصورة المأخوذه عن عفيفه اسكندر، من كونها فنانة (ملاهي) الى فنانة مثقفة كانت تحظى باحترام وتقدير ادباء وشعراء وسياسيّ زمانها.

وما يؤلم، ان عفيفه عاشت شيخوختها بما يشبه التراجيديا. فلقد كانت تملك الدنيا وقلوب الناس، فما ملكت منها في شيخوختها شيئا، ولا خفّ احد لتشيع جنازتها من جمهورها الذي كانت تغص به صالات حفلاتها، ولا جازاها عراقي بخطوة وراء تابوتها مع أنها اطربت العراقيين لنصف قرن وسحرتهم بعذوبة صوت مثقف رصين يتقن اللغة، وان من كان يحظى بمصافحتها كان يتباهى وقد لا ينام ليلته من روعة فرحه.

كم تمنيت، بعد ما رأيت، لو أن الموت زارها قبل عشرين سنه، كي لا ارى قساوة " التسعين " على من كانت في شبابها حمامه ملونه توزع الفرح على الناس، وان تموت بعزّة نفسها.. لا ان تستجدي حكومة اهدرت المليارات بين نهب وترف سفيه.. وما عطف عليها سوى الرئيس جلال طالباني بمخصصات متعثره هي اقل بكثير من المبلغ الذي منحته مؤسسه المدى.

يالهذا الزمن النحس، المقرف، الكاره للفن والجمال.. ويالنهايات من يقترب الآن من مشهد تراجيديا.. عفيفه اسكندر.

 

* احتفل محرّك البحث جوجل في يوم (الثلاثاء 10 /12 /2019) بالذكرى الثامنة والتسعين لميلاد عفيفة اسكندر، ويأتي هذا المقال من اول صحفي يكشف الوجه الآخر الراقي لأيقونة الطرب العراقي الذي لا يعرفه الكثير من الكبار والغالبية من الشباب!

 

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم