صحيفة المثقف

المثالية النقدية الامريكية.. الطبيعة والعقل والاخلاق

علي محمد اليوسفالعقل والطبيعة: الفلسفة المثالية النقدية هي أحدى تيارات الفلسفة الامريكية المعاصرة،أمتازت طروحاتها الفلسفية بمحاولة مزج النزعة النقدية التجريبية مع المثالية في مفهومها الذي يفسر بعض قضايا الفلسفة بمنطلقات ميتافيزيقية، ويعتبر الفيلسوف الامريكي جيمس كراستون (1861- 1924) أبرز منّظريها الذي طرح علاقة العقل بالطبيعة على الوجه التالي:

- العقل لا ينفصل عن الطبيعة.

-  الطبيعة هي شيء قابل للتعرف عليه من قبل العقل.

- مقولة العقل المطلق كي تكون دلالة يجب أن تتولد من سيرورة التجربة النقدية وأن تكون مبررة من خلالها.

- العقل الفردي لا يمكن أن يكون معزولا عن عقول الاخرين، وهو ما يعطي التجربة تفسيرا أو كشفا للحقيقة.

- بما أنه يستحيل رد الاشياء الى حالات وعي العقل الفردي، فأن هذه الصعوبة تجد حلا لها أذا أفترضنا وجود عقل مطلق تتواجد فيه الاشياء بشكل أفكار.

- الواقع يتكون من عدة عقول.(1)

مداخلة وتعقيب

في بدء تعقيبنا يمكن ملاحظة أن التعابير الفلسفية الستة أعلاه هي منطلق فلسفي يلتقي مع واقعية علاقة الادراك العقلي المنفرد في تعالقه مع الطبيعة من جهة، ومع علاقة العقول الفردية مجتمعة بالطبيعة من جهة أخرى...

طبعا لا يمكننا القول بوجود عقل كلي جامع للافكار مطلق من دون الانزلاق الى تعليل هذا الفهم بأعتماد فكر الميتافيزيقا الذي لا تستهجنه الفلسفة النقدية المثالية في محاولتها دراسة العديد من القضايا الفلسفية بمنهج براجماتي مثالي.

وهذا العقل المطلق لا يمكن أن يكون غير (الله) العقل المطلق المتعالي على الطبيعة وقوانينها الفيزيائية العامة وعلى العقول الانسانية منفردة ومجتمعة. الله هو العقل الجامع الذي تلتقي تحت وصايته الادراكية المعرفية العقول الفردية المحدودة للانسان. كما أن تعبير الواقع هو مجموع العقول المنفردة لا تحتاج الى تأكيد هذه المسلمة الحقيقية في الادراك...الواقع مدرك عقلي فردي وجمعي ولا نقول مع المثالية الابتذالية المتطرفة عدم وجود واقع بغياب العقل عن أدراكه...وعندما نقول الواقع هو مجموع تمّثلات العقل التصورية فأننا لا نلغي وجود أحدهما في أبقاء الاخر..

لكن كيف يمكن أن يكون متاحا لهذه العقول الفردية الوصول الى نسق معرفي موّحد يستوعب عقول الجميع ولا يفقد ميزاته الحقيقية في الالمام التام بالواقع.؟

لا يوجد عقل مطلق بالفهم الفيزيائي بأي شكل من الاشكال حتى لو افترضنا أمكان حصول ذلك بوحدة العقول فكريا على صعيد الادراك الحسي،وهذا القول لا يعني مطلقا أن وحدة العقول في أدراكها الواقع هي من نوع نمطية تعليب الادراك الواحد، فكل عقل أنفرادي يفهم الواقع بفهم مغاير عن الاخر، والواقع يجمع العقول المنفردة على صعيد الادراك وليس على صعيد معرفة ذلك الواقع على حقيقته.

ربما يكون الادراك العقلي واحدا في آلية المعرفة الواقعية لكن الواقع يبقى متغيرا على الدوام في معرفة تفسيره وأدراك مكوناته أمام العقول المتعددة. فلا يوجد شخصان يدركان الواقع بتطابق من الفهم المعرفي الواحد، وألا كنا أحتجنا أن تكون معرفة الواقع تكفي من قبل شخص واحد لا اكثر. أذن كيف يمكن أن تنفرد العقول في فهمها الواقع في تباينات لا حصر لها، وبين أن تكون تلك الانفرادات المعرفية يجمعها عقل كلي واحد؟؟ الواقع المادي لا تجتمع عليه معرفيا العقول المنفردة تحت مظلة عقل كلّي مطلق الاستيعاب والدلالة فهذه أستحالة أدراكية معرفية.

أذن لا يتبقى أمامنا غير الفهم الميتافيزيقي للعقل المطلق وهذا يقودنا حتما الى (الله) الذي هو العقل المطلق الذي لا يتشّكل من فرديات العقول الانسانية، وأنما تهتدي به تلك الفرديات العقلية في فهم علاقتها بالطبيعة والحياة..أن من المهم التفريق بين ما يبنيه النسق الميتافيزيقي من معرفة لا يقينية وغير تجريبية غيبية تختلف كثيرا عما تحاوله الفلسفة في أقامة نسقها المعرفي على أساس من منطق وتجريد عقلي صارم بالعلاقة مع واقع مادي وطبيعي معيش.

أن العقل الفردي لا يمكنه الانابة في تمثيله الكل العقلي المطلق الذي هو أساسا لا يقوم الا بمنطق اللاهوت الميتافيزيقي حصرا..أن التأرجح الواضح بين الفهم الميتافيزيقي المثالي للعقل، وبين الفهم العقلي النقدي الواقعي لا يستقيم من خلال محددات جيمس كرايتون للعقل وعلاقته بالطبيعة والميتافيزيقا.. فهو يتحدث لاهوتيا عن نسق فلسفي في تناقضه مع  التعبير عن المنهج الطبيعي العقلي النقدي الذي هو في جوهره ماديا ولا يمكن الاحاطة المعرفية به فكريا فقط.

بالتاكيد أن العقل لا ينفصل عن الطبيعة، وأن الطبيعة شيء قابل للمعرفة العقلية، والواقع هو حصيلة مجموع مدركات العقول المنفردة،العقل لا يخلق الطبيعة لكنه جزء حيوي منها متعال عليها في محاولة فهمها وتفسيرها والاستفادة منها..

لكن يبقى التساؤل هو كيف يكون التوفيق بين العقل المطلق ميتافيزيقيا- لا هوتيا، وبين أن يكون أدراكنا الطبيعة ملزم أن يتم على وفق سيرورة معرفية تجريبية نقدية كما تطالب البراجماتية؟؟

أن الفهم الميتافيزيقي للواقع أو الطبيعة يصادر أي نوع من الادراك والتفكير بالواقع أو الطبيعة في منهج أعمال التجربة النقدية للتثبت من الوقائع كما ترغبه المثالية في التنظير الفلسفي..الواقع الذي لا ندركه عقليا لا يمكننا أدراكه ميتافيزيقيا..

مركزية الانسان

من الملاحظ في التيارات الفلسفية الامريكية المعاصرة تمحورها حول مركزية الانسان في مجمل علاقاته الارتباطية بالوعي والعقل وتأكيد الذات والطبيعة والمعرفة، بمعنى أن هذه التيارات تبتعد كثيرا عن الخوض في مباحث فلسفية تقوم على تجريد القضايا الانسانية من محورية الانسان كمرتكز في فهم الحياة والوجود الانساني وعلاقته بالطبيعة، وهذا التوجه ليس جديدا على تاريخ الفلسفة فهو موجود منذ عصر بروتوجوراس ما قبل الميلاد في تاريخ الفلسفة اليونانية مقولته الانسان مقياس كل شيء..

يقول بيرس في معرض التقائه مع سورين كيركارد في محدودية الانسان وقدراته وقابلية الخطأ في ثباته العقلي (لا يستطيع الانسان حتى الدخول في سر قلبه الخاص ليعرف ماذا يعتقد وبماذا يشك).(2) وهذه المقولة أستنفدت نفسها ليس على مستوى التفلسف الميتافيزيقي وانما على الصعيد المادي أيضا في الاجماع عليها.

لكن الشيء والامر الذي علينا الانتباه له جيدا أن التيارات الفلسفية الامريكية في بدايات القرن العشرين، لم تكن تعرف الكثير بعد عن فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة التي كان مرتع انبثاقها اوربيا في فرنسا والمانيا تحديدا حيث لجوئهم ألغاء كل تمجيد للانسان كمحور فهم قضايا الحياة المعاصرة، والعقل والعلم اللذان وصلا أوج ذروتهما في مدارس الحداثة وتياراتها الفلسفية، لتأتي تيارات ما بعد الحداثة الغاءا تاما لمرتكزات الحداثة مشككة بالعقل والانسان والعلم والسرديات الكبرى مثل الاديان والماركسية والرأسمالية وغيرها من الايديولوجيات التي أستنفدت نفسها فظهرت الفلسفات البنيوية والتفكيكية والعدمية كتنظيرات لا تعير أهتماما لمركزية الانسان ولا لمركزية هيمنة العقل ولا العلم وهكذا.. لذا عند عرضنا بعض آراء تلك الفلسفات الامريكية علينا الانتباه أن تلك الفلسفات بطروحاتها أنما كما ذكرنا لم تكن غائبة الاهتمام عن محورية الانسان كغاية ووسيلة معا التي تمثلها الذرائعية الفلسفة الامريكية الأم خير تمثيل.

العقل والدماغ

يذهب سيلارز وهو من فلاسفة الواقعية النقدية وليس المثالية النقدية التي تكلمنا عنها سريعا في سطور سابقة بمدخل هذه المقالة، (أن الدماغ في تنظيمه التكويني من عضلات وغدد هو العقل)(3) هذا صحيح أذا ما أخذنا مفهوم العقل بيولوجيا فسلجيا وليس توليديا فلسفيا فالامرعند ذاك يختلف بين المنظورين.

من المعلوم جيدا أن العقل هو غير الدماغ في الوظيفة المعرفية على صعيد توليد الافكار الفلسفية تجريديا ، ولا يمكن أن نساوي بين الدماغ والعقل فلسفيا على أنهما شيء لعضو بيولوجي واحد في الجسم الانساني . فالدماغ هو مصدر التفكير المادي في فهم وتفسير الواقع، بينما العقل هو تعبير الدماغ بالفكر المجرد واللغة المجازية التصّورية عن الاشياء.. وتداخل الدماغ مع العقل من حيث الوظيفة البيولوجية المعرفية يجعل منهما شيئا واحدا بمعيار البيولوجيا وليس بمعيار المعرفة الفلسفية المجردة..ودلالة الدماغ في تباينها البيولوجي الواضح يعتمده علم وظائف الاعضاء والدماغ ولا تعتمده الفلسفة.

ونمضي مع سيلارز قوله :( في كل الاحوال لا شيء من الخارج لا يبرهن على أن الدماغ ليس عضو الوعي، ولا أن الوعي ليس ماديا، في حين أنه ومن الداخل، حيث نحن في قلب الوعي، يبدو لنا الوعي بمثابة شبكة كيفية(نوعية) من أحداث ترتبط أرتباطا حميميا مع عمليات الدماغ- العقل)(4) ..

أن من المفروغ منه أعتبارنا كلا من الوعي والدماغ هما عضوان من منظومة العقل الوظيفية المعرفية، وقد يكون التفريق بينهما غير متاح الا من خلال وضع تراتيبية الادراك في المفاضلة بينهما وهو أمر غير متاح فلسفيا وعلى جانب كبير من التعقيد التخصصي علميا ، فالوعي في سبقه الدماغ كعضو بيولوجي لا يتقدمه بالوظيفة الادراكية المعرفية بل في التكامل معه من حيث أستحالة الوعي بشيء من غير تلازم الوعي - الدماغ - في أدراكه، والوعي يتوسط الاحساسات الصادرة عن الحواس مع الدماغ الذي يفسر للوعي ماهية مدركات الحواس الواصلة اليه.الوعي بالمنظور العلمي لا يمّثل موضوعا أدراكيا منفصلا عن منظومة العقل، لكن في الفلسفة يمكن أن يكون الوعي موضوعا للتفلسف.

من المتاح أمامنا القول بأن الوعي حلقة فكرية لا مادية في منظومة الادراك العقلي لكنها لا تشبه الدماغ ولا باستطاعتها مجاراته بالوظيفة المعرفية التي يكون فيها الدماغ أقرب صلة الى العقل ماديا منه في علاقة الوعي بالدماغ التي تكون على مستوى التوصيل للاحساسات عبر تجريد الواقع من ماديته.

الطبيعة والعقل

أننا وبالحقيقة لا نعرف كيف ذهب جون ديوي أعتباره الوعي والعقل ليسا ظواهر أضافية للطبيعة بخلاف ما ذهب له سانتيانا معتبرا أياهما من وظائف الطبيعة..

الفهم الذي نجده منسجما وأكثر وضوحا في تأكيد وجهة نظر سانتيانا أن كل ما يتناول الطبيعة بالفهم العقلي أو غيره ميتافيزيقيا يشكل بالنتيجة أضافة نوعية للطبيعة، والطبيعة لا تحدد وسائل أدراكها ذاتيا كوجود جوهري ثابت، أن القوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة لم يكن الوعي والعقل بها يمّثلان وظائف الطبيعة في علاقتها بالانسان وحياته...فوظيفة العقل والوعي بالطبيعة لا تلزم الطبيعة أعتبارهما وظائف لها، وأنما من حيث لاتعي الطبيعة أن الوعي والعقل يشكلان جوهرا معرفيا أضافيا في فهم الانسان للطبيعة... بمعنى العقل والوعي هما أضافة نوعية للطبيعة من دونهما تفقد الطبيعة أهم مقوّم تقوم عليه  في تعالقها الجدلي مع الانسان.. ويصبح من عدم المشكوك به ترجيح تساؤلنا بماذا يمكننا أن نعزو توظيف الطبيعة للعقل والوعي بمعرفة ماذا غير معرفتها هي؟ الطبيعة هي مبتدأ الحياة ومنتهاها وجوهرها الوجود الانساني... والعقل لا يصنع الطبيعة بل أهميته السعي لفهمها والافادة منها..

الاخلاق والذرائعية

من المهم تأكيد أن كل تفكير فردي يجده الانسان يحقق ذاتيته بالشكل الفاعل السليم أنما يكون مصدره الحقيقي هو المجتمع، فالمجتمع يخلق الذاتية ويمنحها قيمتها ومن غير حضور المجتمع لا يمكن للانسان الفرد تكوين وعيه الذاتي بصورة صحيحة، ذاتية تمنحه التاثير التكيّفي مع المجتمع بما يحقق لكليهما التاثير المتبادل بالآخر..ففي الوقت الذي يجد فيه الانسان الفرد أنه يبني قيمه الاخلاقية الخاصة به يكون بنفس الوقت يقيم الاسس الاخلاقية الصحيحة لمجتمعه والجدل بينهما قائم على الدوام بما يطوّر الفرد والمجتمع معا.

وتفكير الانسان في مجمل نواحي الحياة من ضمنها القيم الاخلاقية أنما تتطور نحو الافضل بقدر الاسهام المتبادل بين الفرد والمجتمع في تكيّفهما المتبادل وسعيهما أقامة النظم الاخلاقية الجيدة.. والفكر فردي من ناحية تخليقه لكن قيمته هي في مدى تشكيل مجتمعيته،، وأخلاق الضميرالانسانية المجتمعية لا تستمد حضورها من أملاءات خارجية كقوانين وضعية جاهزة تفرض فرضا قسريا، وأنما الطبيعي فيها أن تكون من صنع الافراد والمجتمع معا الحصول عليها كنظام تنظيمي مجتمعي في أستحضارها تحت الحاح ضرورة بناء الحياة الافضل..

والفلسفة الذرائعية أنما تقيم مفهومها الاخلاقي فلسفيا على أساس من الوضع الطبيعي للانسان مجتمعيا على أنه (الانسان ليس حيوانا اجتماعيا وحسب، لكن من دون المجتمع لم يكن له أبدا أن يكون، ويجب على الكائن الحي للبقاء على قيد الحياة أن يكون في تواصل مع بيئته، والفرد لا يكتسب خاصيته الانفرادية الا من خلال التنظيم الاجتماعي)(5)..

ويرى الفيلسوف الامريكي الذرائعي هربرت ميد (1863 – 1931) أنه في ظل أعادة البناء المتواصل للمجتمع تسكن الاخلاق، لأن الانسان يجب أن يقيم وزنا لمنفعة المجتمع بعيدا عن الميل الاناني الانفرادي الغريزي... والمجتمع بحسب ميد لا يصبح أخلاقيا بسبب أن الانسان هو نتاج أجتماعي وحسب..بل لأن الانسان له تاثير دائمي مباشر في مجتمعه.(6)، ونجد تمسّك الذرائعية كبيرا في تأكيدها على أن الضمير الاخلاقي الفردي عامل مهم في بناء أخلاقيات المجتمع التي تمنح الانسان أمتلاءه الذاتي في حقيقة الاسهام ببناء المجتمع...كما نجد تأكيد أهمية حضور منفعة المجتمع قبل تفكير وهدف تحقق مصالح الفرد، لكنها لا تلغي فردية الفرد التي تعتبر أشباع حاجاتها الضرورية حق مكتسب للفرد من خلال تكيّف مجتمعي متماسك يعطي موازنة منصفة بين أشباع حاجات الفرد وأشباع حاجات المجتمع في تكامل لا يلغي المفاضلة بين الاثنين من حيث أن الاشباع الاستهلاكي عند الانسان الفرد يتسم بالانانية الانفرادية على الدوام وهذه الانانية الفردية في الاشباع لا يقلل جموحها الاندفاعي الا المجتمع الذي يصهر كل تلك النزعات الانفرادية في نزعة مجتمعية تحقيق المنفعة.

المنطق الذرائعي

ك.أ. لويس(1883 – 1964) فيلسوف أمريكي يمّثل الجيل المتأخر للفلاسفة الذرائعيين وهو أمتداد لافكار بيرس وديوي، ومتخصص ذرائعيا في نقد المنطق الرياضي عند بيرتراند رسل ، ويرى أنه في المنطق يتوجب التسليم أن (الماقبلي) مستقل عن التجربة في أثباته كمعطى لا يحتاج التثبت منه لمعرفة (المابعدي) في تعالقهما .

وفي الوقوف على أبرز مقولات لويس في هذا المجال :

- الوعي المباشر ليس معرفة مباشرة ولا وجود لمعرفة مباشرة.

-  معرفة الموضوعات ممكنة فقط بفضل معرفة قضايا المعرفة القطعية الماقبلية.

- الاعداد الماقبلي لتصورات مجردة كليّا لا تثير صعوبة لأنها لا تقيم أية علاقة مع المعطى الذي يوضح لنا طبيعة المعرفة الماقبلية التي هي تسلسل ضروري لقضايا شاملة.(7) ..

أن الوعي المباشر لا يمنحنا معرفة مباشرة ، هي مسألة يمكننا حسمها بالاحالة الى علاقة الوعي بالعقل من حيث تراتيبيتهما التفاضلية في المعرفة والادراك، فالوعي لا ينوب عن العقل في معرفة الاشياء، والوعي بالشيء هو مرحلة بدئية في المعرفة..لكن من غير تعالق الوعي بوظيفة العقل الادراكية فان الوعي والعقل كلاهما يكونان بلا معنى خارج المدركات للاشياء والعالم والحياة. أي لا يمكننا تصور وعيا سليما مقبولا من غير تعالقه بالعقل، والعكس صحيح أيضا... لا يمكننا التطرق الى وعي من غير تعالقه بالعقل كما لا يمكننا التحدث عن أدراك عقلي لا يتواشج تداخليا مع الوعي..

ولتوضيح النقطتين الثانية والثالثة عند لويس فهي تقوم على منطق حدسي بوجوب التسليم المسبق بأن الماقبلي يكون هو مصدر بناءاتنا المعرفية في اللامابعدي على أن الماقبلي هو حقيقة لا تخضع لتجربة أستدلال معرفي في بناء المابعدي معرفيا عليها..ويصف لويس الماقبلي بأنه مستقل عن التجربة وعلينا التسليم أن الماقبلي هو صحيح على الدوام.

والماقبلي بحسب لويس ليس مشكلة فهو يمنحنا تصورات ما بعدية معرفية ضمن تسلسل منطقي فقط، والمابعدي لا تربطه أية علاقة تاثير غير الاستدلال مع الماقبلي... بمعنى توضيحي أننا لا نستطيع بناء منظومات معرفية ما بعدية من غير أعتمادنا الماقبلي الذي ترتبط به أستدلاليا فقط وليس تأثيريا متبادلا، الماقبلي المنطقي هنا لا يمتلك أية صفة أقتدارية تمّكنه من صياغة كيف يجب أن تكون المعارف المابعدية عليه.. لكن جميع معارف المابعدية تقوم على الاقرار المسّبق بالماقبلي كضرورة منطقية في تسلسل معرفي.....يتبع

 

علي محمد اليوسف /الموصل

.........................

الهوامش

1- جيرار ديلودال/الفلسفة الامريكية/ ت:د. جورج كتورة، د. الهام الشعراني ص 198- 199

2- المصدر اعلاه ص 172

3- المصدر اعلاه ص 174

4- المصدر اعلاه ص 178

5- المصدر اعلاه ص 302

6- المصدر اعلاه ص 305

7- المصدر اعلاه ص 318

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم