صحيفة المثقف

محاكمة رضيع

رشيدة الركيككل فتاة تعيش على أمل وشوق للقاء مع فارس الأحلام، هو البطل المنتظر في مخيلتها،هو الحبيب الذي سيصبح زوجا وأبا لأطفالها، وسندا لهم جميعا كلما عصفت رياح الحياة المتقلبة.

ولسبب من الأسباب تتحول الفتاة من عمر الزهور لتنضم إلى فئة ينبذها المجتمع ويوصف مولودها بابن الحرام لأنه من نظرهم من فاجرة ارتكبت علاقة جنسية لتصبح أما بدون زواج.

بين عشية وضحاها تجد نفسها أما عازبة، ليتحول حلم الأمومة إلى كابوس يقلب حياتها رأسا على عقب، تحولت الأمومة من نعمة إلى نقمة، والنتيجة انتظار مولود غير مرغوب فيه اجتماعيا ثم نفسيا.

وجدت نفسها وهي في ربيع عمرها محاطة وسجينة مسؤوليات لا تعرف من أين تبدأها. كانت ترى الحياة بسيطة كلها ورودا وجمالا يفوح عطرها كلما نظرت إلى نفسها في المرآة وهي في أوجه شبابها.

اليوم هي معتقلة بسبب ضغوط اجتماعية ونفسية ثم اقتصادية، اختلطت عليها الأوراق بعد توالى الصدمات، وإحساس محتقن يجمع بين الغدر والذنب، كلما شعرت تحرك جنينها في أحشائها أرادت إخراسه أو حتى كتم أنفاسه خوفا من الفضيحة.

تتصاعد درجة الآلام الإجتماعية كلما اخترقتها نظرة المجتمع القاتلة، لم تستطع غريزة الأمومة أن تمحي كل الحالات النفسية والأحاسيس السلبية ...

والنتيجة طبعا حل من الإثنين: إما إجهاض في الشهور الأولى أو التخلص منه بعد الولادة. هو اختيار فيه مسؤولية عظمى، كل واحد أمرّ من الثاني، و في جميع الحالات ينتظرها جحيم اجتماعي ونفسي لا يطاق ليغرقها المجتمع في بحر من المشاكل والعقد النفسية...

وتختلف الآراء بين أفراد المجتمع تتراوح بين التعاطف و الشتم أوالقذف باعتبارها فاجرة لا تستحق لقب أم عازبة، بل في نظرهم أم زانية تغرق المجتمع أبناء من حرام، لذلك فأي دفاع عنها فيه تشجيع على الفساد. لقد سلمت نفسها للذئاب وارتمت في حضن المجوس، بعدها تبكي بكاء النائحة المستأجرة مدرفة دموع التماسيح.

أما الرأي المجتمعي المعارض فيجسد التعاطف والشفقة عليها، فنجد جمعيات تتبنى قضيتها وقضية كل أم عازبة، مدافعة عنهن تحت شعار لابد من تكاثف الجهود داخل المجتمع سواء كأسر أو كأفراد أو كمجتمع مدني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والحصول على أخف الأضرار، على اعتبار أنهن ضحايا قصص مأساوية من اغتصاب أو زواج بالفاتحة أو حتى علاقات غرامية. لقد غرّر بهن وصدقن وعودا بالزواج، ليواجهن تنكر الحبيب لأجمل اللحظات، في مجتمع يقدس عذرية الفتاة حيث يتم الإعلان عنها بالأدلة والشهود أمام العائلة.

لقد فرض اجتماعيا إعلان الزواج بوليمة جماعية فيها مدعوون يلبسون أحسن الثياب ويحملون الهدايا من أجل التهنئة، دلالاتها الإجتماعية التشجيع على إقامة علاقة جنسية شرعية احتراما لقيم المجتمع وامتثالا لها،أمام قسوة المجتمع حين الخروج عن ثقافته قد لا تناقش خوفا من حدة المواقف والردود الفعل المشتركة.

وبعيدا عن هذا الموقف أو ذاك، هي علاقة غير شرعية يشهد عليها من لم تقبل شهادته، هو رضيع حمل لقب ابن الحرام ، صفة مجتمعية قدحية لا ذنب له فيها، لكنه سيظل يحملها كوصمة عار على جبينه طوال حياته.

 أطفال غير شرعيون يؤدون الثمن اجتماعيا، يعانون من النبذ والنظرة الدونية وكأنهم سببا وليس نتيجة لجريمة ارتكبها آباء في حق أبنائهم في لحظة نزوة عابرة، لنجدهم على الطرقات أو في الخلاء أو حتى في حاوية النفايات أو قرب المساجد لعلهم يجدون قلوبا رحيمة تراعي فيهم وجه الله تعالى.

رضيع متخلى عنه بأبشع الصور، نراه منتظرا لمصير مجهول قد يكون الموت حتفه من ألم الجوع أو قسوة البرد أو حتى حادث عرضي. فبأي ذنب قتل؟ وبأي ذنب رمي به؟

رضيع كان عليه أن يجد من يحتضن جسده الضعيف، كان من حقه أن ينصفه الزمن ليتمتع بنظرات الأبوبين لحظة الإستقبال وإقامة وليمة العقيقة بعد اختيار أجمل الأسماء تليق في نظرهم لحامل نسبهم.والحقيقة كان عليه أن يتلقى الهدايا من المجتمع فرحة بقدومه كباقي الأطفال وكما جرت العادة.

لكن ربما لحقه سوء الحظ من صرخته الأولى غير المرغوب فيها. لاحقته لعنة القدر حين اختار له أبوان غير مسؤولان، غير انه مهما كانت ظروفهما هو لا يريد أن يعرف التفاصيل غير رغبة طفولية في حضن دافئ يشعره بالأمان. لم يختر مسكنا فاخرا ولا لباسا من حرير ولا حتى ملعقة من ذهب أو أوكسيجين مصفى. فقط حرك شفتاه توسم خيرا باحثا عن صدر حنون يمده حليبا ربانيا...

وإن تعددت الأسباب فالنتيجة واحدة، رضيع في بداية الطريق وعليه المضي في طريق لوحده دون سند أو معين والمشوار صعب وطويل، لا يعرف فيه الشمال من اليمين ولا يدرك ألوان الحياة ولا حتى معناها. فلا هوية ولا اسم ولا انتماء، وحده وسط قسوة عيون تحطم أي رعاية اجتماعية يمكن أن يتلقاها. هو في عيونهم لقيط مقهور اجتماعيا مظلوم أبويا مدمر نفسيا.

وتبدأ قصته مع الحرمان من الجو الأسري الطبيعي، آخذا أول تلقيح له هو الإحساس بالوحدة القاتلة والخوف من المجهول مع قلق من مستقبل آت بدون سند ،ولا حتى ثقة لم تزرع في نفسه أمام محيط لن يفلح غير إعطائه الإحساس الدائم بالدونية وانخفاض مفهوم الذات.

هو رضيع قدر عليه الحرمان ،غذاؤه الوحيد الإحساس بالقهر وظلم الوالدين على غير العادة وبدون سبب ،إلا لأنه جاء في وقت غير مرحب به وربما مع الشخص غير المناسب...

هم لقطاء وجدوا أنفسهم في مؤسسات الإيواء مهما بلغت درجة الرعاية والتربية فيها لن تحقق دور الأسرة والجو التلقائي المعاش فيها، فالحياة الأسرية لا تصنع أو تفتعل بقدر ما هي تعاش.

لقد صرخ صرخة مدوية : بأي ذنب رمي وهو لازال في اللفة؟ لماذا عليه أن يجني ثمار منطق مجتمعي ذكوري يوجه أصابع الإتهام للفتاة . مجتمع تقدح فيه الزانية ويمدح الزاني بل قد تعتبر فحولة ذكورية. فأي قانون وأي منطق إنساني حكيم يرفض الحكم لنفس الجرم لا لشيء إلا لأن الأمر يتعلق بالذكورة أو الأنوثة؟ ليوضع الجنس اللطيف أمام المدفع فيما يختفي الطرف الآخر وتزاح عنه المسؤولية بعدما تبجح بامتلاكه للقوامة. أوليس في تحملهما معا للمسؤولية حل لمشكل الرضيع الضعيف؟

أو ليس المنطق المجتمعي من خافت منه الفتاة لتفضل الهروب والتخلص من آثار الجريمة، حتى لا يلحقها العار والفضيحة؟

يبدو أننا كمجتمع شاركنا بشكل أو بآخر في تلك المحاكمة غير العادلة والنتيجة الجني على حياة بريء، لقد غاب عنا الضمير الإنساني كما غاب الوعي والوازع الأخلاقي والديني، ولعله هذا هو مربط الفرس.

ضحيتين مجتمعيتين أم و ورضيع لمحاكمة مجتمعية غير عادلة، ونطالبها بتوازنها النفسي في ظل الأزمة الخانقة، لا لشيء إلا لأنها أم ، وننسى أنها في أزمة لأنها أم بدون زواج يقبله المجتمع، بل وحرمت من زواج طبيعي لسبب أو لآخر.

فأي توافق نفسي نتكلم عنه عند فتاة تواجه المجتمع لوحدها في ظل إحباطات نفسية أسرية، في ظل الحزن والبكاء وندم مع إحساس كبير بالعجز وفقدان الأمل بلهجة يائسة وصورة حياتية مقلقة مليئة بالتوتر؟

كيف تتقبل نفسها لتستطيع تقبل الآخرين؟ وأي فرحة بها نطالبها لاستقبال مولودها، ما لم تشعر بالراحة النفسية؟ وأي حليب تسقي به ابنها وقد تغذت على السم المجتمعي؟

يبدو أن القصص المأساوية في تزايد ملفت للنظر مع الإنفتاح الذي تعرفه المجتمعات العربية، وأمام الدفاع عن مفاهيم جديدة في مجتمعنا كمفهوم الحرية الشخصية وحرية الجسد، غير أن العقلية المغربية لازالت تحاكم بمنطقها. ويبدو أن فئة الامهات العازبات هي في الغالب بنية أسرية جديدة في المجتمع المغربي والعربي. بنية أسرية جديدة تضاف لفئة العوانس.

غير أن العقلية المغربية والعربية التقليدية لم تستطع تقبل هذا الوضع الجديد، وسيظل النقاش ومشروعية التفكير في حلول تضمن الحقوق لكل الأفراد على غرار الأسر العادية على الأقل من الناحية المجتمعية.

فمن نكون لنحاكم البشر؟ والأفظع محاكمات غير عادلة في مجتمع يفرض التظاهر والامتثال لقوانينه غير المنصفة.

يبدو أننا لازلنا نختزل الشرف في غشاء البكرة اجتماعيا، ولازالت فتيات تلاعب المجتمع بمنطقه غير المنطقي، يوقع الأفراد في تناقضات وفي جدال مجتمعي عقيم.

وخلاصة القول لولا المنطق المجتمعي الذي سجن الفتاة دون الفتى بسبب علاقة جنسية غير شرعية، لما قهرت الأم وساء توازنها النفسي معلنة الإنسحاب تاركة فلذة كبدها. وما يهمنا من هذا وذاك هو البراءة الباحثة عن الأحضان.

على ما يبدو أن المجتمع يقبل من يجيد اللعبة ويحسن وضع القناع، ومن سقط عنه قناع فرضه عليه المجتمع عاش الفضيحة وذاق مرارتها، بينما الآخرون يظهرون مثاليتهم ويتلذذون بمآسي غيرهم رافعين الشعارات المثالية والنتيجة أطفال رضع على الرصيف.

 

بقلم: رشيدة الركيك

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم