صحيفة المثقف

الرسم بالكلمات مع الحلم المصادر في "ديوان ما أراه الآن"

نجية جنةللشاعر المغربي خليل الوافي

حينما تستوقفك قصائدا بزخم الحياة، تحملك بعيدا، تشتت أحاسيسك، تعصر معك الآلام والغصات وتجعلك تشارك كاتبها وتثمن ما ينظم، فما عساك أن تقول وأنت تقرأ بعيون مشاعرك وتحكم بقلب شاعر، بعيدا عن القارئ العادي الذي قد لا يسعفه التأويل ليندمج مع ما تنضح به القصيدة. ذلك هو انطباعي وأنا أقرأ ديوان الشاعر خليل الوافي المعنون "ما أراه الآن" بأجزائه الأربعة وقصائده العشر.

جعلتني القصائد المحبوكة جيدا إحساسا وبناء أنفعل كليا معها، تخيلتني أشارك النظم بل أعيش الأحداث الذي حاول الشاعر تصويرها بأسلوب سهل سلس يعتمد فيه على التشكيل بالكلمات حيث يوظف الألفاظ الرومنسية الحالمة ليعبر عن وضع قاتم هارب، فتأتي الشمس و القمر والشجر و الظلال لتعطيك  انطباعا بالإشراق الواضح لكن الصيغة تأخذك لعالم ملؤه الضجر و القلق  والارتياب، كما تقول القصيدة الأولى ص:9

" لا أحلم كما أشاء"

!ملعونة أنت

ما الذي زرعته يداك

في حقل كفي؟

.....

أنت صفة الهارب من نفسي

فالشاعر يعترف بأنه يتعذر عليه الاختيار حتى في الأحلام  لأنه يعيش حياة مفروضة عليه، فالقصيدة  عبارة عن بوح لامرأة بدون ملامح  تشاركه خلجاته المكلومة وحظة العاثر . كما يمزج  بين الأسطورة / التاريخ/ الشعر الجاهلي  في تناص متماسك ليكثف بوحه  فتأتي الإشارات إلى (سبإ – ابن ذي يزن – عنثرة- وطارق ابن زياد) كرموز للقوة و الهزيمة والعشق و الحلم الشارد.

في ص: 15 قصيدة  "في قرع الباب"

تأخذه النوستالجيا إلى الزمن الماضي حيث الطفولة  والشباب  فيتبخر الحلم ويتكرس الصمت والخيبة.

أقرع الباب...

يطل وجهي من الطابق العلوي

....

كل شيء يوحي أنني أعرف المكان

....

لا أحد يفتح بهو السماء

...

أرى البحر وحيدا في عزلته

... أسمع عذاب الصمت

وأنين الجياع وشما على خد القمر

....

كي لا يخطئ طريق المقدس.

الوصف الدقيق متن القصيدة يحيلنا على السرد الشعري أو النثر الشعري يصف الذكرى مقرونة بخيبة الحاضر و صمته المقصود، فالشاعر يمزج أحداث واقعه وماضيه ومشاعره الذاتية  بالأحداث الواقعية والهموم  القومية التي  يؤطرها العجز والصمت .

في الصفحة 23: "عندما تتكلم الأوراق" يلخص  مراحل حياة الإنسان منذ الطفولة إلى الشيخوخة، بأجزائها الأربع  تحمل تناصا مع القرآن الكريم، حيث يوظف مفردات منه: (سبع سنبلات- صرخة أم – توارين سوءة)  فيوظف الألوان  كدلالة على فترة معينة من الحياة ليأتي بتعبير يحمل رموزا قوية واضحة تعبر عن الزمن المبتغى  وتأتي القصيدة عبارة عن حكي متواصل ترتله مفردات منتقاة، فالورقة البيضاء حيث الطفولة البريئة، والشباب في الورقة الصفراء حيث الإحساس الجارف والورقة دونما لون تحكي الزمن الفارغ و البحث عن الذات ثم الورقة الرابعة التي يبحث فيها عن لون  يصف به زمن الخطيئة، ففي خضم الأرق و التعب لا يجد سوى المرأة ليتستكين إليها . فيتماهى مع الطبيعة حيث الماء، النسمات، أغصان الزيتون، هذيل الحمام، الشجر والمطر، ثم فترة الشيخوخة حيث زمن الانكسار وعم اللامبالاة والاعتراف بأخطاء الماضي، ثم مرحلة الصمت حيث همس الحجر و الخشب والمطر، الحياة المصادرة تحث الثرى .

أحلم بالماء وردا

نسمات صبح

وحكايات جدتي...

تخجل الظلال من ضحكة المطر

أتشرب من صحوي...

أراك سيدتي

توارين سوءة أوراقي العارية مني..

على مواربة زمن الانكسار

يستعصي الكلام

....

أتلمس ظلي ...أحرسه

....

أعترف بأخطاء الأمس

وكباقي الشعراء العرب يختبئ الشاعر بين ألوان متفرقة وبين ظلال رموز الكلمات ليصف الهم المشترك: الوطن العربي، الحلم الضائع والجرح الذي لا اندمال له، في النظم يتحول إلى نداء، إلى رجاء، إلى وصف شائك وبوح أليم.

حيث يقول في ص33:

هو الحلم النازف في تساقط الحجر

آدم

....

وطنا يوزع تذاكرالسفر

....ينشق الصمت نصفين.

....

وأنا أتوسد أحلاما متعفنة

مرارة نتلمسها في هذا الوصف القاسي، فلا بيت ولا وطن ولا أمة تسع الشاعر وجراحاته .

ص 44:  في قصيدة ما كان لي أن أكون:

احمليني بعيدا عن جسدي

ما كان البحر أن ينسحب

.....

ما كان لي أن أحمل نسائم الندى

وفي الصفحة 49 : أعاند نفسي عن إماطة اللسان

عن ما تراه عيني

...

تستوقفني حكاية الطفل الصغير

 

وفي الصفحة 57:

مسالك التيه

مررت على الديار

...

تحمل عنا عروبة المكان

....

أراك في الحلم نشيد وطن

..

تأتي المرايا معكوسة

في احتراق الصور

 

في الص 65:

شيء من الحرب في زمن الحرب

....

ما أراه الآن

أوصيك يا بني بالصمت

يحتضر وجعي

...

أراك شامخة

في هزيمة ملوك الطوائف

تذكرت أستاذ الجغرافيا

وخريطة الوطن في الواجب المدرسي

الوطن أضحى حلما مستحيلا، انتظار قد يطول وقد يحترق الشاعر وتحتضر كلماته ولكنه لا يملك سوى الصمت، فبهزيمته يرسخ هزيمة الشعوب  وخنوعها وضعفها.

في الصفحة 81:

أنا العربي الغاضب

أصرخ في وجه نفسي

...

أي شيء يغسل وجع عربستان

من وجع الأرض

أتعبني السفر .

أنا العربي الغاضب

أضع تاريخ أمتي جانبا

وأبحث عن وطن

يحمل إسمي .

صورة أليمة تصف ما أصبح عليه المواطن العربي، فالغضب الصامت  يأكل في نفسه حسرة، يحتقر وطنه وما وصل إليه و بالتالي يشعر بالنقص وقله الهمة فلا يملك إلا الهروب من ذاته .

يظل الشاعر ينادي، تتكرر النداءات فتكرس الغضب لدى القارئ وتجعله يندمج مع الوضع ويعيشه، إنه الإحساس المتشارك بين الشعوب العربية، إحساس بالخيبة والخذلان.

 

بقلم: الأستاذة نجية جنة 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم