صحيفة المثقف

في سمات الثقافة الشعبية

هناك وعي مغربي وعربي بالتراث الشعبي أو الثقافة الشعبية، وما تتضمنه من ألوان تعبيرية  مختلفة . ويتضح هذا الاهتمام من خلال الدراسات والبحوث والتخصصات، سواء على الصعيد الأكاديمي أو غير ذلك. والثقافة الشعبية كظاهرة اجتماعية تاريخية تعد من أهم رموز التراث الحضاري لأي أمة أو حضارة من الحضارات، لما تحمله من رؤية للوجود وللعلاقات الإنسانية وللقيم وللآخر المختلف عقديا وفكريا. كما أن هذه الألوان الثقافية الشعبية بما فيها الأدب الشعبي هي تشخيص لواقع الصراع بين مكونات المجتمع وأطيافه أو طبقاته. حيث لكل طبقة قيمها وتمثلاتها ؛ على اعتبار أن المجتمع الإنساني تاريخيا تأسس على الصراع بين المراكز والهامش . وللأدب الشعبي خاصة والثقافة الشعبية عامة جملة من السمات يمكن أن نرصد بعضها في ما يلي:

- عاش التراث الشعبي عامة والأدب الشعبي خاصة فترة طويلة وعميقة من الشفهية، حيث كان يتم تداوله في الهامش بعيدا عن المركز . ويتداول شفهيا قبل أن يصبح مكتوبا وموثقا من خلال آلية الكتابة. لقد غطت الشفهية أوالشعبية فترة طويلة من تاريخ هذه الثقافة / الأدب قبل أن يعاد لها / لهما الاعتبار ويحظيا  بالاهتمام. والشفهية هنا ليست صفة قدحية أو مذمة في هذه الثقافة أوالأدب، كما أنها ليست سبب وضاعته أو ضعفه وتهميشه . قد تكون كذلك في نظر الثقافة العالمة  المحروسة  والمدعومة من طرف المركز كسلطة تنتج المعرفة والمعايير التي على ضوئها يتم تصنيف  الألوان الثقافية والأدبية وبالتالي الاعتراف أو الإقصاء والتهميش .

- أشارت كثير من الدراسات والأبحاث إلى أن الكتابة ليست أصلا، بل هي حدث طارئ ولاحق، لكن أصبح لها وضع اعتباري خاص، بلغ درجة السلطة أو القانون الذي له حق التقرير في مصير كثير من مظاهر الإبداع الإنساني: تصنيفا واعترافا، إقصاء أو إدماجا  ...بينما الشفهية هي الأصل، لكن تم تهميشها ووضعها في مرتبة لاحقة وتالية ومبعدة أو مهمشة . إن التأمل في تاريخ الكتابة يفيد كونها وسيلة نقل لاحقة للمضامين التي يفكر فيها الإنسان، في حين التعبير الشفهي أسبق عن الكتابة. وهذا ما تؤكده الدراسات في تاريخ اللغة والكتابة .

- في وضع الكتابة يتم مراعاة جملة من التدابير والإجراءات مثل التعديل والحذف والمحو والإضافة ...تبعا لمقصدية وإرادة الكاتب أو السلطة / المركز. أما في وضعية الشفهية، فهي متأسسة على الاستعمال الفطري للغة، أي التوظيف العفوي والطبيعي لهذه الملكة . حيث الإنسان يعبر عن انفعاله أو تفاعله مباشرة بالموضوعات والوقائع أو التجارب الحياتية التي يعيشها .

- في الكتابة، يتم تأسيس الخضوع للمعيارية، والمعيارية تؤسس الثبات والصيرورة على نفس النمط أو المنوال (نموذج الشعر العربي التقليدي)، بينما في الشفهية، والتي هي روح وجوهر الثقافة الشعبية هناك حرية في الإبداع والتصرف، مما يجعل من التحول والتغيير طابعا يسم ألوان التعبيرات الشعبية : أزجال، أغاني، حكايات، أمثال، الوشم... وهذا ما جعل كثيرا من الدارسين يرون في الكتابة استمرارا لهيمنة السلطة (ميشال فوكو  مثلا) سواء كانت هذه السلطة دينية أم لائكية. وكأن الكتابة وما اشتق منها – الكاتب والكتاب – أداة من أدوات بسط النفوذ وحماية المركز من الأخطار التي قد تأتيه من الهامش والمنسي .

- في الكتابة والمكتوب خضوع للرقابة، وإرضاء للسلطة / المركز. ودعاية وتشهير لهما، بينما في الثقافة الشفهية يتسع المجال للحرية أكثر، وتتاح فرص الانفلات من الرقابة أكثر، والذي يساعد على ذلك أن المؤلف في الثقافة الشعبية أو الأدب الشعبي جماعي أي الشعب، وبالتالي لا يمكن محاكمة الشعب أو الزج به في سجون السلطة لتمرده وعصيانه . إن هذا اللون التعبيري صادر عن عامة الناس ومتداول  بين الطبقات الاجتماعية التي لم تصنف كنخبة. هذا الوضع الذي يسم الثقافة الشعبية وما يتفرع عنها من ألوان تعبيرية تنتقل بسلاسة من جيل إلى جيل دون حاجة إلى مؤسسات مثل المدرسة والمعهد والجامعة ....

- في الكتابة قد يحدث الانفصام بين المتكلم / الكاتب وخطابه، إذ من الممكن أن ينتج خطابا دون أن يتكلمه . عكس الأمر في تجربة الثقافة الشعبية ؛ حيث هناك اتصال مباشر وقوي بالحياة وبالمعيش وباليومي أو بما يعانيه المتكلم من آلام وأحلام وطموحات ...

في قراءة المكتوب أي الإبداع الخاضع للكتابة والمتأسس على المعيارية، تنكشف درجات الانفصال عن الخبرة الحياتية، فالنخبة مثلا أو الانتلجنسيا مفصولة عن معترك الحياة، بينما في الثقافة الشعبية، الأفراد يعبرون مباشرة عن آلامهم وأحلامهم ....

هكذا، يتبين لنا مدى قوة الثقافة الشعبية  من خلال ألوانها التعبيرية المختلفة، ومدى قيمة المعاني والمضامين المنضوية في تلك الألوان المسماة شعبية . وهذا يبين أيضا الثقافة الشعبية ليست ترفا، بل هي مادة حيوية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ الإنساني، ومصدر إغناء للذاكرة الإنسانية ولمتخيلها . وانطلاقا من أهمية الذاكرة الاجتماعية وأولويتها وجب الاهتمام بالثقافة الشعبية أو بالأدب الشعبي من خلال جمعه وتوثيقه أولا ثم دراسته وتحليله ثانيا .

 

د. المصطفى سلام

 أستاذ مبرز في اللغة العربية

...........................

مراجع معتمدة:

- د عبد الصمد بلكبير: في الأدب الشعبي: مهاد نظري – تاريخي، نشر اتصالات سبو، طبعة أولى 2010 .

- البشير بن سلامة: اللغة العربية ومشاكل الكتابة، الدار التونسية للنشر، تونس 1971 .

- مجلة آفاق، العدد 77- 78 يناير 2010 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم