صحيفة المثقف

اللغة كائن حي

نور الدين صموداللغة كائن صوتي حي ينشأ ويسلك طريق النشوء والارتقاء، ويحيا بَعضُه وينمو تدريجيا حتى ينتشر، بينما يضمحل بعضه الآخر شيئا فشيئا حتى يندثر،  وقد يُبعث بعضه من جديد فيعود إلى الحياة، وقد تزدهر لغة من اللغات بحكم ازدهار أصحابها، وقد تموت لغة بكاملها بسبب ضعف المتكلمين بها، وتأخذ مكانـَها لغة ٌأخرى متولدة عنها، وربما ذاب أصحاب اللغة التي ضعفت بحكم ضعف ذويها واستبدلوا لغتهم بلغة الغالب المنتصر.

هذه اللغة العربية الفصحى التي نستعملها اليوم هي التي كتب بها أدباؤنا القدماء أدبهم منذ أكثر من خمسة عشر قرنا، وما زال يكتب بها شعراؤنا وكتابنا شعرهم ونثرهم إلى الآن بنفس الألفاظ والقواعد والأساليب، إلا أنهم تركوا بعض الكلمات العويصة التي هجروها لأسباب كثيرة فماتت وعوضوها بغيرها من مرادفاتها المألوفة المأنوسة، فالأدب، سواء كان شعرا أو نثرا، يجب أن يكون مكتوبا بلغة واضحة يفهما الخاص والعام ممن لهم إلمام باللغة التي يـُكتب بها ذلك الأدب، لأنه ليس شقشقة لفظية من النوع الذي قال فيه أبو العلاء المعري: "(كأنه رحًى تطحن قرونا، تسمع جعجعة ولا ترى طِحنًا)، فالأدب روحٌ جسمه اللفظ، ونحن نميل إلى الجسم اللطيف الخفيف الظريف.

وقد كان بعض مَن ليس لهم حسٌّ أدبي أن تستعمل غريب الألفاظ يُكسب النص الأدبي شاعرية زائدة ويرفع من قسمته الأدبية، وهذا خطأ محض وادعاء باطل، ولتأكيد هذا الكلام أذكر ما روي عن صفي الدين الحلي، عندما وقع ديوانه في أيدي بعض قرائه من المغرمين باللغة الصعبة والألفاظ القليلة الاستعمال، فقال عنه: "لا عيب غيه إلا أنه يخلو من الألفاظ العويصة" أي الصعبة، فرد عليه بقصيدة نكتفي بذكر أبياتها الأولى:

إنما الحــيـزبـــون الــدردبـــيـــــسُ

والطـَّخَا والنـّـقـاحُ والعـلـْــطـَبـيــسُ

 

والسبنتـَى والحقصُ والهٍَـيْقُ والهِِجْــ

         

ــرِسُ والطــرفـسـانُ والعَـسَـطـوسُ

 

حـيــن تـُرْوَى, وتــشــمَـئزُّ النـفوسُ

 

وقـَـبيـحٌ أن يُذكـَرَ النــافــــرُ الوحْــ

ــــــشيُّ منها، ويُـتـْـركَ المــأنـوسُ...

 

درسَــتْ تـلــكـــمُ اللغاتُ وأمـسَــى

مَـذهـبُ النـاسِ مـا يــقـول الرئيـسُ

 

إنــمــا هـــذه الــقـــلــــوب حـــديـدٌ ولــذيـــذ ُالألــفـــاظِ مِــغــناطـيـسُ

  وواضح أن هذا الشاعر قد جمع تلك الألفاظ القليلة الاستعمال وسردها سردا في نظمه دون أن تكون لها صلة معنوية ببعـضها في شعره، وهي ألفاظ قلما استعملها القدماء في كتاباتهم لأنها غير مألوفة واستعملوا مرادفاتها المفهومة، فقد اكتفوا من الألفاظ التي حشدها هذا الشاعر في مطلع قصيدته بـ"العجوز"عن الحيزبون، و"بالداهية" عن الدردبيس، وبـ"السحاب" عن الطخا، وبالماء عن النـّقاخ، وبكلمة أخرى عن العلطبيس التي لم يعرف لها المحققون معنى لأنها قد تكون محرفة أو مصحَّـفة عن كلمة أخرى لها معنى، واستغنوا كذلك  عن السبَنتـَى بـ"الأسد" أو أحد أسمائه الكثيرة الأخرى مثل: الليث والهزبر والغضنفر والأغلب والفدوكس، وقد سمي في القرآن الكريم بالقسورة، في سورة المدثر: 'كأنهم حُمُرٌ مستنفرة فرت من قسورة".

ولست في حاجة إلى شرح بقية الكلمات التي ذكرها صفي الدين الحِلـّي لإقناع مَن نقده بأن العبرة بالمعاني الشعرية الجميلة لا بثوبها الفضفاض أو بجسمها المترهّـل الخالي من المعاني الشعرية، ولم تكن تلك الكلمات غير ألفاظ متنافرة دالة على أشياء لا ترابط بينها، أما الشاعر التونسي محمود قابادو فقد بلغه أن أحمد فارس الشدياق - وهو مسيحي اعتنق الإسلام وجاء إلى تونس وأقام فيها وأشرف على جريدة (الرائد الرسمي) التي كانت جريدة تنشر الأخبار والأشعار، وأصدر كتابا سماه(الجاسوس على القاموس) نقد فيه معجم (القاموس المحيط) للفيروز أبادي، وأشاع بين الناس أنه لا يحتاج، في فهم أي كلمة، إلى القواميس - فأرسل إليه محمود قابادو عدة أبيات لم يكتف فيها بجمع الألفاظ العويصة كما فعل صفي الدين الحلي، بل عبر بتلك الألفاظ عن معان يفهمها من يعرف معاني تلك الكلمات، وقال لمن أرسلها معهم: "اطلبوا منه أن يشرحها لكم  دون أن يبحث عن معانيها في المعاجم" وهذه هي الأبيات:

 لمّا رُمِي بالقطنجوبِ تـَقـَعْـقرتْ

 شُرخافتاه ففاض بالـخَـرْبَـعْـطـَلِ

 

فــكـأنـه، والبُـجْـفـُطانُ تـَنـوشـًه،

 فـَرْغـَـنـْبَسٌ يعدو على مستعْـبَـلِ

 

 أو كشمَـسٌ في شاسِـنٍ أو شادنٌ

 جمُّ الميامِنِِ في صدور الضرقلِ

 

هذه هي رواية الأبيات كما حفظتها منذ أوائل الخمسينات، ولها رواية أخرى في بعض ألفاظها وفي مَن قيلت فيه، والمهم أن معظم ألفاظها  أصبحت مهجورة بل ميتة، ويمكن أن نشرحها ارتجالا، فقد فيلت في فارس خاض معركة حربية فضُرب بالرمح فأحدثت له الضربة خرقا كبيرا في خاصرتيه ففاض بالدم، فأصبح، والنسور تنهشه، يشبه أسدا يعدو على نمر إلخ إلخ ولو أراد ناظم أن ينظم نفس معنى البيت الأول بألفاظ مفهومه لأمكن أن يقول مثلا:

لما رموه بالرماح تـخـرّقــتْ **منه جوانــبـه ففاض نـجـيعُهُ والنجيع هو الدم الذي يَحسُنُ استعماله في الشعر خاصة دون النثر.

 لقد تطورت جميع لغات العالم بمرور الزمان والبُعد عن مكان نشوء تلك اللغات، فماتت اللغة الأم لظهور لهجات مختلفة متولدة عنها، ون أشهر الأمثلة على ذلكَ اللغةُ اللاتينية التي كانت سائدة في كافة أنحاء أوروبا، ثم تولدت عنها اللهجة الفرنسية واللهجة الإيطالية واللهجة الإسبانية واللهجة البرتغالية، وظلت البلدان التي نشأت فيها تلك اللهجات تستعمل اللغة اللاتينية الأم، في مكاتباتها ومخاطباتها واجتماعاتها الرسمية وخطبها في المحافل، وتستعمل اللهجة الشائعة في كلامها اليومي، ثم أحسَّ أهلُ تلك اللهجات ببُعد لغتهم الأدبية التي تساوي (الفصحى)عندنا، عن لهجتهم التي يستعملها الجميع، ثم نبغ بينهم من كتبوا  بلهجتهم الجهوية شعرا راقهم، فكان سببا في القضاء على اللاتينية وإحياء لهجاتهم المحلية، خاصة عندما كتب (دانتي الليجيري) رائعته (الكوميديا الإلهية) فأصبحت فاتحة للأدب الإيطالي الذي انْبتّ وانفصل عن اللاتينية، وقد وقع في إسبانيا مثلُ ذلك عندما كتب (سيرفانتس) قصته "دون كيشوت" وصواب نطقها في لغتهم"دون كيخوت" لأننا نقلنا نطقها عن الفرنسية التي لا يوجد فيها حرف الخاء. ووقع مثل ذلك في اللغة الفرنسية ومن أشهر شعرائهم الذين كانوا سببا في انطلاقها الشاعر الفرنسي(فيلـّون أو فييُّون) في أشعاره الفرنسية القديمة، ولم يبق، ممن يكتب باللغة اللاتينية إلى جانب الكتابة بالفرنسية التي انبثقت عن أمها اللاتينية، إلا القليل مثل الشاعر الفرنسي المعاصر (مارسيل بانيول)، وقد وقع مثل ذلك بالنسبة إلى اللغة البرتغالية ذات الأصل اللاتيني، وأصبح أبناء تلك الأقطار كلها لا يستطيعون التفاهم فيما بينهم بلهجاتهم التي بعدت بعدا كبيرا عن لغتهم التي اشتـُقـَّت من اللاتينية  بعد هذا القوس الذي فتحناه للحديث عن انفصال تلك اللهجات عن لغتها الأصلية، يتبادر إلى الذهن سؤال يطرح نفسه - كما يقول المحدثون - وهو: "هل يمكن أن يقع مثل ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية؟ فقد تطورت اللهجات المنبثقة عنها من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي أو الفارسي(نسبة إلى مكان وجوده لا لملكيته)، وقد قفزت إلى ذاكرتي قولة قالها أمير الشعراء أحمد شوقي، عندما شاعت أشعار محمود بيرم التونسي باللهجة المصرية "وملأت الدنيا وشغلت الناس" كما قال ابن رشيق عن المتنبي،  وقولة شوقي هي: (إني أخاف على العربية من بيرم) وهي كلمة تدل دلالة كبرى على أن ظهور شعر رفيع المستوى في أي لهجة من اللهجات قد يكون سببا في القضاء على اللغة الأصلية التي انبثقت عنها تلك اللهجة، كما وقع بالنسبة للهجات التي انبثقت عن اللاتينية، فهل يمكن أن يقضي شعر بيرم في مصر وشعر أمثاله في بقية الأقطار العربية على اللغة العربية الفصحى؟ خاصة ونحن نرى شدة اهتمام أشقائنا في الخليج العربي بالشعر الشعبي الذي يسمونه ـ"الشعر النبطي" ونسميه في تونس بـ"الشعر الملحون"، كما سماه ابن خلدون في المقدمة، هل يمكن أن يوجد في لهجة كل قطر من الأقطار العربية (دانتي الليجيري) وملحمته(الكوميديا الإلهية) و(سيرفانتس) وقصته البديعة (دون كيشوت) و(فينلون) وأشعاره المؤسسة للهجته التي أصبحت لغة فرنسية...  وغيرها لغيرهم؟.

 لا خوف على اللغة العربية من الاضمحلال وإحلال لهجات الأقطار العربية محلها ليصبحوا يَكتبون بها الشعر الرسمي الرفيع، وذلك لأسباب أهمها أن اللغة العربية الفصحى قد ظلت اللهجات المحلية قريبة منها في جميع الأقطار بحيث يسهل التفاهم بين أبناء جميع الأقطار بلهجاتهم، أو بالاقتراب من اللغة الفصحى، وهو أمر يسيرٌ في متناول الجميع تقريبا، وأكبر حافظ للغة الفصحى من الذوبان في اللهجات العربية المحلية هو القرآن الكريم الذي لا يمكن أن يتخلى العرب والمسلون عن لغته التي يفهمونه بها، وظلوا يتلونه ويدرسونه بها وظل المسلمون الذين لا يجيدون العربية، مثل الأتراك الذين كانوا أحسن من كتبوا القرآن رغم عدم فهمهم له في لغته، ومثل الفـُرس الذين أدخلوا من لغته في لغتهم كثيرا من الألفاظ، ومثل بقية البلاد الإسلامية مثل الباكستان وأفغانستان وغيرها كثير، وكثير منهم تعلمها ليتمكن من فهم بلاغة القرآن وإعجازه في لغته، فكيف يفرط أهلها فيها ويفكرون في تعويضها بمشتقاتها من اللهجات، ونحن نعلم أنه إذا حضر الماء غاب التيمم كما يقول الفقهاء.

 

أ د : نورالدين صمود

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم