صحيفة المثقف

قراءةُ العراقي لكتاب الجزّار (٢)

مجدي ابراهيمذكرنا في المقال السابق (المعرفة عند أبي سعيد بن أبي الخير) أحد أئمة التصوف الكبار (توفى سنة 440)، أن بعدين تمّ الكشف عنهما في قراءة الدكتور العراقي لكتاب الدكتور أحمد الجزار. وقد كان البُعد الأوّل منهما هو معرفة الأستاذ لتلميذه معرفة خاصّة تقوم على التقدير المتبادل، الأمر الذي جعل الثقة صلةً روحيّةً يغلبُ عليها الصدق، ولا يتطرّق إليها الجحود والنكران. وكان البُعد الثاني يشمل الإحاطة بالأعمال العلميّة التي وُفّق إليها تلميذه وصديقه، والدراية التّامة بمنجز الأصالة والتحقيق فيها. وقلنا إنّ البعد الأوّل هذا ليكشف الغطاء عن فاعلية القيم وانتقالها من جيل إلى جيل، ومن عقل إلى عقل، ومن نفس إلى نفس على ديدن الثبات والاستمرارية، ومن طريق ذوق الصُحبة الطيبة، والإخلاص في الأعمال، والتعامل بصدق وأريحيّة، ومن سبيل قصد التقدير لفهم متبادل مشترك لا يشق له غبار لقضايا العصر ومشكلات الفلسفة وآراء المذاهب والأفكار.

وفي إطار منظومة القيم أيضاً، يمكننا خلال هذه القراءة إثبات أن عناية المرحوم الأستاذ الدكتور عاطف العراقي - طيّب الله ثراه - بكتاب المعرفة لمؤلفه الأستاذ الدكتور أحمد الجزار، لم تكن إذ ذاك، بعد العرض والنقد والتحليل، سوى تشريفاً له ولصاحبه؛ إذ لا شرف لإنسان كائناً ما كان أو من كان، ولا لعمل أيّاً ما كانت قيمته إلّا بما فيه، وليس بإقبال عليه مثلاً أو بإعراض عنه، فلربما يقبل المقبل على العمل وهو له كاره، وقد يعرض المعرض عنه ولا يسيغ القبول عليه ولا تزال مع ذلك قيمته باقية فيه، وحسبُ الإنسان أن يبذل مُخلصاً لغيره غاية ما في وسعه على ما تتطلبه الكرامة وتقتضيه المروءة وتتوجّبه تقوى الله. وهذا هو جوهر الإخلاص شرط الكمال الروحي كما سنراه تباعاً في قراءة الكتاب.

أمّا الإقبال والإعراض وما إليهما من رواج وانتشار أو كساد وخمول؛ فحظوظ أنفس عارضة قد تكون عادلة أو جائرة. وما دامت أمانة العرض والنقد والتحليل هى الباقية ببقاء ما فيها من معيار؛ فليس من علّة من ورائها سوى الإخلاص في العمل، ويكفى به من معيار، وكفى به كذلك من غايةٍ يكلُف بها المُخلصون.

حقيقةً، إنّما يرفع الإنسان أو يخفضه عمله المُجرّد عن المنافع القريبة والغايات الترابيّة، لا مدح الناس أو ذمّهم بالحق أو بالباطل أيّاً كانوا من رجحان العقل والثقافة والأدب. ولقد صدق الفيلسوف الألماني "نيتشه" حيث قال:" إنّما الفضلُ قيمتُه فيه لا فيما يُقال عنه، أيّاً كان القائلون".

وبما أن شعور العطف كامنٌ في أغوار النفس البشرية بغير مراء؛ فمن الصحيح أن تكون أرفع النفوس وأقوها لا تعلو مطلقاً عن الأنس برضا الفضلاء، والوحشة حين يلقونها بالجفاء، وذلك لما فُطرت عليه من قوة العطف، وحبّ الألفة والكرامة، أو لبعض ما تشتمل عليه من الضعف أو النقص الذي لا يبرأ منه أحدُ من البشر، بالغاً ما بلغ الرأي فيه من العظمة والاستقلال. وفي الحق أنه، من لا يأنس برضا الفُضلاء، ويستوحش لجفوتهم، فهو إمّا أن يكون إلهاً قد استغنى بذاته عمّن سواه، أو يكون حيواناً لم تؤهله طينته البهيميّة أن يتّصل بمعنى الإنسانيّة في أصل عناصرها الرفيع، ولأنه كذلك لا يصبحُ إمّا أن يكون أرفع من الإنسان أو يكون أدنى منه؛ ففي الحالة الأولى يقتربُ من الألوهيّة، وفي الحالة الثانية سيكون حيواناً أعجميّاًّ له بالحيوانية نسبٌ وصلة.

وأمّا من يأنس برضا الغوغاء، ويستوحش لجفوتهم؛ فهو بلا ريب من طينتهم اللازبة في الكيان، وفي الوجدان، وفي الاتّصاف بصفات الدُّون في عالم الأهواء والشهوات.

في هذا الإطار المُرصّع بالقيم العليا لا في إطارٍ سواه، نتناول قراءة العراقي لكتاب الجزار؛ فيأتي البعد الأوّل الذي سبقت إليه الإشارة؛ ليكون بمثابة التمهيد التقريري للبعد الثاني من تلك القراءة. وفي هذا التمهيد تقرّرت عند العراقي رؤيته التي يقول فيها: إنّ الدكتور أحمد الجزار لا يدرس موضوعاً من الموضوعات الداخلة في إطار كتابه إلا بعد تأمل دقيق وإطلاع مكثف على عديد المصادر والمراجع، وهذا دأبه باستمرار في كل ما يكتب. ثم يمضي العراقي ليقول: وأقولُ للقرّاء الأعزاء إنّ الدكتور أحمد الجزار يدرك أمانة الكلمة، وأن أخطر شئ إنمّا هو الكلمة المطبوعة، وهذا أيضاً دأبه منذ دراسته للماجستير، وكنتُ أقولُ باستمرار وما زلتُ أقول - رحمه الله رحمة واسعة - بأن كتابات الدكتور أحمد الجزار تذكّرنا بكتابات الأساتذة الكبار في مجال التصوف، والذين شقّوا طريقهم وسط الأشواك والصخور من أمثال: أبى العلاء عفيفي ومصطفى حلمي. وحين أقرأ للدكتور أحمد الجزار في مجال الفكر العربي عامّة، والتصوف الإسلامي خاصّة على وجه الخصوص، أقول: إنّ دراسات التصوف ما زالت بخير إلى حدٍ كبير (ثورة النقد: ص 742).

غير أنه يعودُ بعد أن يعرض فصول الكتاب وأقسامه حسب رؤية مؤلفه فيقول: إنّ هذا الكتاب - كما أقولُ وأكرر القول - يعدُّ كتاباً هاماً وعلى مستوى رفيع في مجال البحث الأكاديمي الجاد، ولا يخالجني الشك في أن كل المهتمين بالفكر الصوفي في الإسلام، سيرحّبُون بهذا الكتاب ترحيباً بلا حدود؛ إنه ليعدُّ كتاباً هامّاً من حيث موضوعه، ومن حيث المنهج الذي سار عليه مؤلفنا الدكتور أحمد الجزار، ونرجو له كل ازدهار في مجالات الدراسات الأكاديمية الصوفيّة، إنّه مجالُ يحتاج إلى قلم مؤلفنا الجاد، الدكتور أحمد الجزار، نقول هذا رغم تفضيلنا للاتجاه العقلي، وبالتالي رفضنا لحقيقة المنهج الصوفي (ثورة النقد: ص 749) .

المؤلف من جهة، والكتاب من جهة ثانية، يمثلان لدى أستاذنا الدكتور عاطف العراقي صورة جليّة ناصعة من صور التفكير العربي خاصّة بالتصوف في الإسلام؛ ليقدّم للقارئ نموذجاً من الأعمال الجادّة، موضوعاً ومنهجاً، رغم رفضه المنهج الصوفي رأياً وبداهةً، وأخذه بالاتّجاه العقلاني قناعة وتأصيلاً، ولكنّ موضوعيته من حيث أمانة العرض والنقد والتحليل، تقتضي التفرقة بدايةً بين التفضيل للمنزع العقلي الذي يدينُ له بالولاء من جهة، وبين ذاك الاتجاه الصوفي الذي يلزم عنه عرض الكتاب بموضوعيّة وتجرّد من جهة ثانية؛ فليس يقدح في الإعجاب بالكتاب وبموضوعه أن يقول كلمة حق فيه وفي صاحبه مع إيثاره الاتجاه العقلاني على التعميم، بمقدار ما لا يقدح في تلك الكلمة أن تجئ موافقة لما كان قد تقرّر لدينا سلفاً من اعتبار البعد الأول تمهيداً تقريريّاً للبعد الثاني مع كفاية الدلالة باتصال البعدين معاً على التقدير العلمي والأدبي سواء. ولا حاجة بنا للتأكيد على هذا التقدير إذا هو صدر من أستاذ كبير له باعٌ طويلٌ من خبرة السنين الطوال في فحص المقروء والمكتوب تحت مجهر التحليل العلمي ممّا يرد عليه من أصنافه وأنواعه، وما قد ثمُن منه وما قد غث. على أننا في هذه القراءة نحاول كشف الدلالة كون القراءة منهجاً وقيمة مع الاحتفاظ بلغة العراقي فيها: حرفه ونصّه، فإنّ عبارته التي عوّدنا إيّاها ، على سهولتها وبساطتها، تشي بالفكر المؤسّس على الإخلاص.

وعن أهميّة موضوع المعرفة الصوفيّة عند أبي سعيد بن أبي الخير كما تظهر في نظر الدكتور أحمد الجزار؛ ينقل العراقي رأي الأوّل في هذه المسألة كونها تمسّ جوهر الموضوع مباشرة؛ فإنّ اقتران مسألة المعرفة بأبي سعيد ابن أبي الخير أهميّة خاصّة من جهتين: أولاهما: أنّ المعرفة حقيقة التصوف، ولا غرو في ذلك بوصفه طريقاً لمعرفة الألوهية على وجه التحديد في مقابل طرائق المتكلمين والفلاسفة؛ فمهما تكلم الصوفية المسلمون في المحبّة والفناء وغيرهما، فلا يمكن أن يكون تصوّفهم إلا طريقين فقط هما المعرفة والحبّ ولا ثالث بينهما. لهذا السبب، تكتسب المعرفة خصوصيّة شديدة عند أبي سعيد؛ لتلاحمها الشديد في مذهبه مع الولاية تارة، ومع الفناء تارة أخرى. وثانيتهما: أن كل مجاهدات ابن أبي الخير على قسوتها كانت مُوجّهة للمعرفة ولا شئ غيرها، حتى بلغ مرحلة الكشف الدائم، وهى إحدى الحالات النادرة على حدّ قوله، وليس لنا أن نعجب؛ لأنه يؤكد أن ما يقوله لا عن سمع ورؤية، وإنّما عن تجربة وشهود (ثورة النقد: ص 742).

وليس لرجل أن يتحقّق بحقيقة المعرفة على الحقيقة، ما لم يفن تحت إطلاع الحق، ويبقى على بساط الحق بلا نفس ولا خلق، كما يذكر القشيري حاكياً عن البسطامي. ولذلك كانت المعرفة لبّ لباب التصوف بغير نزاع.

* * *

ثم يعرض للفصل الأول من الكتاب وعنوانه: المعرفة بين الوهب والكسب، ليرى أن عناصر هذا الفصل جاءت مرتّبة ترتيباً موضوعياً دقيقاً فيما يشبه رفو النسيج ليطرد سياق الكلام اطراداً؛ ليجيء كل عنصر فيه يرتبط مباشرة بالعنصر السابق عليه ويؤدي في الوقت نفسه إلى العنصر الذي يليه؛ الأمر الذي يؤكد وجود وحدة عضوية بارزة ليس في هذا الفصل فقط، ولكن أيضاً في كل فصول الكتاب.

ويستدلُ العراقي بهذه الوحدة العضويّة في العمل الذي قرأه على صفةٍ يتأكد فيها البعد الأول الذي ذكرنا، وهو أن مؤلف الكتاب على وعي تام بأبعاد التصوف الإسلامي وشخصياته؛ ليعرض عناصر الفصل الأول مرتّبة على النحو التالي:

(1)    موضوع المعرفة وأداتها عند أبي سعيد

()  الشريعة والحقيقة

()  النفس والمعرفة

()  النفس وإسقاط التدبير

()  المعرفة بين الكسب والوهب

ولم يكن دفاع مؤلف الكتاب عن العديد من أفكار الصوفيّة من خلال الكشف عن حقيقة آرائهم في نظر العراقي إلا ليستخلص منها في هذا السياق وقوف الجزار على حقيقة الصراع الدامي بين الفقهاء والصوفية، واتهامهم للمتصوفة بالكذب والتلفيق؛ بأنهم يهملون الأمور الشرعيّة حين يركّزون على فقه الباطن أكثر من تركيزهم على العبادات الظاهرة.

من أجل ذلك؛ يسوق العراقي هذا النّص من كلام الدكتور أحمد الجزار مؤلف الكتاب ومُقرّر من هذه الجهة أهميّة العمل الشريف كدعامة معرفيّة وصولاً للغاية الشريفة حيث يقول: إنّما العمل أو المجاهدة والتحمّل على وجه التحديد عند أبي سعيد لا يمكن إسقاطه أو تجاهله في أمر المعرفة من حيث إنّ الشريعة، وهى أول نقطة يبدأ منها العبد في طريقه إلى الله تعالى وصولاً إلى الحقيقة، هى في جوهرها أفعالٌ في أفعال، ومن ثمّ يكون الطريق إلى معرفته تعالى يدخل فيه العمل ومقاساة الجهد كسبيل للوصول إلى هذه الغاية الشريفة، وهى شهود الحق تعالى ومعاينة كمالات صفاته وأسمائه، ومثل هذا إنّما يكون بالعلم بالشريعة أمراً ونهياً، ثم العمل بكل ما جاءت به، فكل حال ووقت لا يكون إلا بالعلم ونتيجة المجاهدة فيه، وإن قلّ فضرره أكثر من نفعه، حتى ولو بلغ أحدُ به أعلى المراتب من المقامات (ص 44 من كتاب المعرفة).

على أن الدكتور أحمد الجزار مؤلف الكتاب، يؤكد حسب عرض وتحليل أستاذنا الدكتور عاطف العراقي رحمه الله، أهميّة العبادة والعمل عند أبي سعيد باعتبارهما قوام الشريعة؛ إذ كانا قوام الحياة الروحيّة بإطلاق، وما دامت الشريعةُ تتأسس عليها معرفة الله، ولا تتأسس على الجهالة والتعطيل كما تقدّم، فلا نزاع في أن تأكيد أبي سعيد على شرط الإخلاص في العمل - فيما يقول المؤلف - طلباً للمعرفة بالله، هو في حقيقته شرط الكمال الروحي في الإسلام، وهو من ألزم ما يكون في كل عمل وعبادة يتقرّب بهما المؤمن الكامل في إيمانه إلى الحق تعالى، ولو تحقق هذا الأمر لصار العبد هو الصوفي حقيقةً، لأن حقيقته هو عالمٌ عمل بعلمه على وجه الإخلاص. وليس علم التصوف إلا معرفة طريق الوصول إلى العمل بالإخلاص لا غير، ولو علم العالم بعلمه على وجه الإخلاص، لكان هو الصوفي حقاً (ثورة النقد: ص 734).

ولمّا سُئل أبو سعيد عن التصوف ما هو؟ قال: أن تتخلى عن كل ما في دماغك، وتجود بكل ما في يدك، وألاّ تجزع من شئ أصابك" (جامي: نفحات الأنس: ص 342).

وليس هذا التعريف ببعيدٍ قيد أنملة عن الإخلاص؛ فالتخلي عن كل ما في الدماغ تخلي عن الوهم المعشعش في الرؤوس المطموسة والعقول الغفلانة، وهو لا يعرفه إلا مُخلص أختبر بحُسن المعاملةٍ طريق الإخلاص لله. والجودُ بما في اليد نزاهة وتجرُّد، لهما بالإخلاص رابط وصلة. والجزع ُمن المصيبة حرصُ على الدنيا ليس من خصال العُرفاء.

بادي الرأي عندي، أنّ لفتةً عميقةً يقف عليها الدكتور أحمد الجزار في كتابه، لمّا شرط الكمال الروحي بالعمل الدائب والعبادة الكاملة، ولمّا سدّ ذرائع التكاسل والخمول والتواكل التي تجلب الأمراض النفسيّة، ولا تعود على الفرد أو المجموع إلا بضروب التخلف والدُّونيّة .ولا كمال مطلقاً مع الجهالة والخمول أو مع التسويف الذي تظلُم معه اليقظة والمبادرة.

وليس يلزم للكمال الروحي أكثر ممّا يلزم للإخلاص على هذا الشرط، وليس من شرط يعزّز المُضيء فيه غير الصفاء النفسيّ الذي تتأتى أضداده، وهى الكدورة، فتنقض العمل كما تنقض العبادة.

وبما أنّ التصوف كُلّه صفاءٌ في صفاء؛ فالكدورة آفة تأتي بالضد منه ولا شك؛ إذ الكدورة شرٌ يتقابل مقابلة الأضداد مع الصفاء.

وإذا كانت المعرفة الإلهيّة تقع من التصوف موقع الحقيقة التي تتقدّم على سواها ويتأخّر سواها عنها، فإنّ هذه الحقيقة ولا شك أيضاً لا تقوم مع العمل والعبادة والقلوب كدرة، والأرواح خاملة هزيلة بفعل الآفات التي تطعن بالجملة في شرط الإخلاص.

ويعوّل الدكتور الجزار على العمل القلبي فيما يتصل بالزهد؛ إذ يربط صلة العمل والعلم بالزهد كونها صلة تجئ في سياق متصل، وتقترب بالمشابهة لتكون في سويداء القلب كالتوحيد: سّراً من أسرار الحق لا يُضطلع عليه أحد ولا يكاشف به أحدٌ وهو عين الإخلاص؛ فكأنما التوحيد بؤرة الشعور بالجناب الإلهي، وأعمال القلوب تؤدي إليه وتسير في ركابه.

وعليه؛ "فيمكن القول إنّ الزهد في كل ما سوى الله ضرورة في كمال العمل والإخلاص فيه من أجل معرفته تعالى، وحينئذٍ لا يصبح الزهد في الدنيا مجرّد الحرمان من المأكول والمشروب، وإنما يكون في القلب شأنه شأن التوحيد (ص 48 من كتاب المعرفة).

ولهذا؛ كان أوفى تعريف للزهد وأجمعه هو: برودة وقع الأشياء على القلب، يعني لا فرح بالموجود، ولا حزن على المفقود، ولا سرور بالمدح. هنالك تجري الأشياء مجراها على القلب عرضاً لا جوهراً وتمرُّ عليه مرور الكرام لا مرور اللئام، يفقد معها التعلق؛ إذ كان تعلقه دائماً بمولاه.

لم تكن قراءة العراقي لكتاب الجزار تعني التقريظ لمُجرّد التقريظ وكفى، ولكنها كانت ذات دلالة في التخريج لرأي المؤلف وفق ما يراه في موضوع ألمّ بجوانبه وأحاط بنقاطه وأوفاها بالرجوع إلى عديد المصادر والمراجع الهامّة قديمة كانت أو حديثة كما يقول الدكتور عاطف العراقي، الأمر الذي يدلُّ في رأيه على اهتمام المؤلف الفائق بموضوع بحثه؛ إذ لم يقتصر على مُجرّد عرض هذه الفكرة أو تلك من أفكار أبي سعيد بن أبي الخير، ولكنه يلجأ إلى ربط كل فكرة بأخواتها ممّا يتصل من قريب أو من بعيد بالفكرة الأم. وإذا كان مؤلفنا لم يكتف في دراسته، بعرض آراء أبي سعيد، فهو من جانب آخر يُقارن بينه وبين كثير من آراء الصوفية، وهذا يعدُّ شيئاً بالغ الأهمية. يعلّل العراقي ذلك، بالإمساك على تلك القاعدة المنهجيّة التي كان يفضّلها في القراءة على الدوام، وهى أن من لم يقرأ أفلاطون لا يفهم أفلاطون؛ وذلك لأن الدارس إذا هو أقتصر على دراسة أيّة فكرة من أفكار الشخصيّة التي يبحث فيها ويتحدّث عنها دون ربطها بالأفكار الأخرى عنده، وعند غيره من الشخصيات، يصبح حاله كحال من يضع الكتاب أمام عينيه مباشرة، فلم يعد يرى إذ ذاك شيئاً.

ويلفتُ النظر حقاً أن العراقي يلحظ في عرض الكتاب حديث الجزار عن التصوف بوجه عام من خلال حديثه المباشر عن المعرفة عند أبي سعيد، لأنه في هذا السياق يريد فهم آراء أبي سعيد فهماً دقيقاً تطبيقاً لتلك القاعدة الفلسفيّة التي سبقت إليها الإشارة، ويأخذ من أجل هذا قبساً من كلام الجزار مؤلف كتاب المعرفة حيث يقول: ولا نزاع في أنّ كل هذه الآراء إنّما ترتدُ إلى تجارب الصوفيّة، ولكل واحد تجربته الخاصّة، وهو أمر يشكّل ماهيّة التصوف من ناحية، ثم هو في الوقت ذاته لا يقدح في قيمة تلك التجارب، وما قد يصدر عن أصحابها من آراء من ناحية أخرى، من حيث إنّ التجارب الدينيّة ترتدُ إلى مواهب كل شخص وقدرته، حينئذٍ فلا غرابة أن تكون هناك صور من هذه التجربة الدينية بعدد المتدينين أنفسهم، لهذا وجب أن نلتمس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطق مذهبهم (ثورة النقد: ص 744).

وربّما يتفق الدكتور أحمد الجزار، تحديداً في تلك الجزيئة الأخيرة: أعني التماس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطق مذهبهم، مع الدكتور أبو العلا عفيفي، رحمة الله عليه، وهو عندي اتفاق يؤيّده إجماع البحث في ميدان التصوف لو صحّ أن يكون فيه إجماع، وبخاصّةٍ في هذه النقطة، ولا يؤدي الخروج عنه إلّا كما يؤدي النبوّ الذوقي عن غفلة ونكوص.

يرى الدكتور عفيفي: إنّ التصوف ينفردُ من بين جميع الأساليب التي حاول الإنسان أن يشبع بها رغبته في معرفة الحقيقة بأنه لا يفترض وجود "حقيقة مطلقة" وحسب، بل حقيقة مطلقة يمكن معرفتها والاتصال بها، فهو ينكر أن تكون المعرفة الإنسانيّة قاصرة على معطيات الحسّ أو على نتائج أساليب الفكر، أو على تكشّف ما ينطوي عليه العقل من معلومات؛ فإنّ هذا تحديدٌ لمدى النشاط الروحي عند الإنسان، وتخطيط ناقص لميدان الحياة الروحيّة. ولهذا؛ وجب أن نلتمس معنى التصوف في حياة الصوفية لا في منطقهم؛ في ذلك القبس الإلهي الذي ينير صدورهم، وفي ذلك الشهود الذي يتحدّثون عنه والمعرفة التي يتذوّقونها (التصوف: الثورة الروحيّة في الاسلام، ص 16).

وقبل أن ينهي العراقي قراءته للفصل الأوّل من كتاب المعرفة، يرى أن مؤلفنا الدكتور أحمد الجزار قدّم دراسة تحليلية مُستفيضة تكشف عن قدرة علميّة واضحة، ثم يعمد إلى نصّ من كتاب المعرفة عند أبي سعيد (ص 54- 55) هو الذي أنهى به الفصل الأول لينقل عنه قوله: خلاصة القول إنّ المعرفة عند أبي سعيد بن أبي الخير لا ترتد إلى العقل ولا إلى الحواس؛ فهما يقصران في حال معرفة الله المعرفة التي تليق بكمال ألوهيته وصفاته، ولهذا كان القلب عنده هو أداة المعرفة، ولكنه لا يتأتّى له المعرفة بالله وعن الله إلا إذا خلص من حجاب النفس بوصفها تقف عقبة كؤود في تلقي إشراقات الحق على قلب عبده، فإذا أمكن أن يخلص من تدبيرها ويتجرّد من علائقها؛ ففي هذه الحالة يكون فارغاً من كل ما سوى الله، وحينئذ يصبح محلاًّ لأنوار المعرفة الربانيّة. فقد يختار الحق تعالى عبداً من عباده ليكون وعاءً لتلقي أنواره لا بمحض عمل هذا العبد ودوام اجتهاده وحده، بل بعناية الله وتوفيقه، وفي تلك الحالة يكون هذا العبد هو وليّه الذي اختاره بمحض فضله وكرمه، وتصبح المعرفة الحاصلة لهذا الوليّ بدورها من جنس هذا الاجتباء الإلهي أو من فضل تلك المنّة الإلهيّة، ومن ثمّ تتوثق العلاقة بين المعرفة والولاية".

وعلى نصّ الدكتور أحمد الجزار، تبدو الصّلة أظهر ما تكون بين أداة المعرفة وهى القلب، وإسقاط التدبير الذي هو للنفس؛ فلن تكون المعرفة محقّقة بالفعل في قلب العارف ما لم يتخلّص من سطوات نفسه بإسقاط التدبير فيها؛ إذ ذاك يصحُّ أن يكون قلبه قابلاً للإشراقات الإلهيّة، وما دام قلبه أستعد لقبول تلك الإشراقات، وتهيئت لطيفته الباطنة لتجلي الأنوار؛ فقد ثبُتت ولايته وكمُل اصطفاءه ولمعت على مُحيّاه فضائل العرفان.

ويعلّق العراقي على هذا النّص في عبارة يراها بالغة الدلالة؛ لأنها تفرّق بين الأدلة البرهانيّة الفلسفيّة، والأدلة الجدلية الكلامية من جانب، وبين الطريق الذوقي القلبي الوجداني وهو طريق الصوفيّة من جانب آخر. فالصوفيّة يعرفون الله بالله تعالى، وليست معرفتهم آتية عن طريق أدلة نظرية كتلك الأدلة التي قدّمها لنا علماء الكلام والفلاسفة، إنهم ليعرفون الله بالله لا بالعقل؛ لأن العقل الذي يتخذه علماء الكلام والفلاسفة هو - من العجز بحيث لا يدلُّ إلّا على عاجز مثله، وقد أكدت أنظار المتصوفة ومن بينهم ذو النون المصري والغزالي هذا المعنى، وإن كان رأي الصوفية هذا يحتاج، كما يرى العراقي، إلى وقفة كنّا ننتظرها من جانب الدكتور أحمد الجزار في هذا الكتاب الهام (ثورة النقد: ص 744-745).

لم تكن هذه القراءة إذن مُجرّد إعجاب بالمؤلف وكفى، ولم تكن تخلو من الموضوعيّة العلميّة، ولا من بيان التفاوت في التقدير وإبراز الوقفات النقديّة اللازمة من المؤلف لتوجُّهات الصوفيّة، ولكنها كانت قراءة تكشف عن إنصاف مُشبّع بالقناعة العقليّة، مُجرّد عن الهوى؛ المعيارُ فيه إحقاق الحق ودفع الباطل والارتقاء صعداً في مدارج القيم العليا التي ينبغي أن تنغرس فينا كما تنغرس العشبة النافعة في الأرض الخصيب لتنبت وتثمر؛ ولأن هذه القيم العليا ذاتها لم تخلق لتخلو من آثارها في الأنفس والقلوب أو لتكون نقوشاً نزركش بها صفحات الكتب والمعاجم، ولكنها خُلقت لتكون أسساً تُقام عليها معطيات العقول، بمقدار ما تُقام عليها الحياة الفكريّة والعلميّة في كل جيل.

* * *

وبالانتقال إلى الفصل الثاني، فإنّه يعدُّ في قراءة العراقي من أهم فصول الكتاب، وقد بذل فيه مؤلفه كالفصل الأول جهداً ملحوظاً، وعبارات المؤلف تعدّ واضحة ودقيقة، لأنه أستطاع أن يفهم كل جزئيّة من الجزيئات التي تدخل في إطار كل فصل من فصول كتابه، نقول هذا رغم اختلافنا معه حول رأي أو أكثر من الآراء التي ذهب إليها. لقد قسّم الفصل الثاني وموضوعه "المعرفة والولاية" إلى عناصر تندرج تحتها نقاط وجزئيات على النحو التالي:

()  تلازُم الولاية والمعرفة

()  معرفة الأولياء

()  أبو سعيد في مقام الولاية

()  أبو سعيد ومقام ختم الولاية

()  نقد فكرة ختم الولاية

()  مقام الولاية ومسألة الشفاعة

()  مقام الولاية ومسألة الكرامة

()  أوصاف الأولياء والعارفين

ولا جدال في أن تلك العناوين التي أتخذها الجزار عماداً لهذا الفصل، تستوعب آراء أبي سعيد في المعرفة والولاية بمقدار ما تستوعب كذلك إشارات الصوفيّة في ذات الموضوع على وجه الإجمال. ويلحظ الدكتور عاطف العراقي أن هذا التقسيم الذي لجأ إليه المؤلف في تحديد موضوعات الفصل الثاني من كتابه، إنّما هو تقسيم شامل ودقيق، إذ إن موضوعات هذا الفصل تعدُّ مرتبة على موضوعات الفصل الأول الذي تقدّم عرضه وتحليله، كما أنها تؤدي إلى موضوعات الفصل الثالث والأخير من كتابه؛ ففي الصفحات الأولى من هذا الفصل ينقل عن المؤلف نصه:" إنّ شأن الولاية عند أبي سعيد هو نفس شأن المعرفة أيضاً، فكما أن العمل لازم من أجل حصول الولاية، إلا أن الفضل الإلهي ألزم منه، بل لا بدّ منه، وهو الأمر الذي لا ينفك عن تصوّر أبي سعيد للولاية والمعرفة في آن واحد. وعلى هذا تتوثق العلاقة بين الإثنين من هذه الحيثية، وليس أدلُّ على وثاقة تلك العلاقة بين المعرفة والولاية من أن العبد لن ينال معرفته بالله تعالى شهوداً وكشفاً إلا بمعونة منه، وكذلك الأمر عينه بالنسبة للولاية (ص ٦٢ من كتاب المعرفة).

وقد يظهر في النّص تخريجٌ ذوقيٌ بالغ الدلالة في عبارة الجزار التي تقول: " كما أن العمل أو الجهد لازمٌ من أجل حصول الولاية، إلا أن الفضل الإلهي ألزم منه"، وهى عندي عبارة يطويها الذوق ويُشرقها في نفس الحال المنطق المقبول؛ فالولاية فضلاً عن كونها جهدٌ مبذول يتأتى من طريق الكسب، غير أنها في المقام الأول تجئ من طريق عين الجود ويتقدّمها الوهب. وتلك لفتة ولا شك لا يلتفت إليها إلا من تظهر أمام باصرته حقائق التصوف جليّة في غير غموض.

من ذلك ترى؛ أن العراقي يشير إلى رجوع الجزار في مجال دراسته لهذا الموضوع إلى العديد من آراء المفكرين، وذلك في معرض المقارنة بين آراء أبي سعيد وآراء غيره؛ كالنّفّري مثلاً وابن سينا الذي فرّق في دراسته التّصوفيّة بين العابد الزاهد غير العارف، والزاهد العابد العارف، وأعلى مرتبة العارف على غير العارف. ثم إنّ المؤلف يناقش العديد من مواقف أبي سعيد بن أبي الخير مناقشة لا تخلو من دلالات نقديّة صائبة؛ فالجزار في دراسته لموضوع الولاية وغيرها من موضوعات وآراء، لم يكن مجرّد عارض لأفكار أبي سعيد مثله كمثل عارض الأزياء، بل إنه يعمد إلى المناقشة والمقارنة والموازنة بين عديد الأفكار والآراء، الأمر الذي يدلُّ من الوهلة الأولى على أن المؤلف أضاف إلى البعد الموضوعي الذي رجع فيه إلى أوثق المصادر والمراجع، بعداً ذاتياً نقديّاً، حتى إذا رجع القارئ إلى (ص ٨٥) وما بعدها من الصفحات، سيدرك تمام الإدراك أن مؤلفها قد أمسك بزمام الأفكار لدى هذا الصوفي الكبير، ودخل في مجال النقد والمقارنة والموازنة بين عديد الآراء التي قال بها أبو سعيد، ولم يفته الوقوف على آراء الصوفيّة الذين اهتموا بدراسة موضوعات الولاية والشفاعة والكرامة وغيرها من موضوعات ومشكلات.

وممّا لا بدّ منه أن يُلفت نظر الدكتور العراقي أن المؤلف يتحدّث عن الآراء المتشابهة عند كل من أبي سعيد ابن أبي الخير، والفيلسوف ابن سينا الذي كتب مئات الصفحات في مجال التصوف وعلى وجه الخصوص في آخر كتبه الإشارات والتنبيهات. يقول الدكتور أحمد الجزار: إنّ ابن سينا رغم نزعته العقلانيّة يفسحُ للكرامة مجالاً في مؤلفاته، وينبهنا أنه إذا بلغنا عن أحد العارفين أخباراً تكاد تأتي بقلب العادة؛ فعلينا ألا نُبادر إلى تكذيبه، بل إنه يذكر من تلك الغرائب أموراً كثيرة لا يصحُّ بحال من الأحوال أن يتحدّث عنها فيلسوف عقلاني، وأكثر من هذا فقد أطال الكلام في السّحر والطلسمات، واعتبر السّحر علماً شريفاً بذاته من حيث إن العلم عنده شريف بذاته من غير نظر إلى جهة المعلوم. ولقد كان ابن سينا على صلةٍ بأبي سعيد بن أبي الخير، بل كان مُريداً له كما يقول جامع أسراره، حتى أنه يذكر أنه كان يورد في كل كتابٍ يؤلفه فصلاً وافياً في إثبات كرامات الأولياء، وإن لم يعن هذا بالطبع أنه صوفي خالص (من كتاب المعرفة: ص 113).

وينتقل العراقي إلى دراسة الجزّار لأوصاف الأولياء العارفين من وجهة نظر أبي سعيد؛ ليقف على الجوانب الخاصّة بكل صفة ومغزاها كما يعرضها مؤلف كتاب المعرفة الصوفيّة؛ إذ يذهب إلى أنه لعلّ أخص أوصاف الأولياء العارفين: دوام الإذعان التام لله تعالى وحده، والإقرار الكامل بالعبوديّة لله أيضاً، والإعراض عن توهم الضُّر والنفع من أحدٍ سواه، ومن كان هذا دأبه وديدنه كذلك، فلا عبوديّة عنده لغير الله، وتلك هى على الحقيقة، حقيقة الإسلام أصلاً كما يرى أبو سعيد، إذ الإسلام هو الاستسلام لأحكام الأزل (ثورة النقد: ص 747، وكتاب المعرفة: ص: 118). .

وممّا لا خفاء به أن الدكتور الجزار يربط صفات الأولياء العارفين كما يصفها أبو سعيد في رباط متصل بأصولها الإسلاميّة، ويردّها إلى الجذور التي تستقي منها روافدها الشعوريّة؛ فكأنما يريد أن يقول للقارئ قولاً واحداً لا مزيد عليه: إنّها التعبير الحقيقي عن الروحانيّة الإسلاميّة، إذ إن تأصيلها في الإسلام كتاباً وسُنّة هو الذي يجعلها منه في صميم الصميم. ولئن كانت صفات الأولياء هى التعبير الحقيقي عن الإسلام من جهة الأصل الذي تستند عليه؛ فلا أقلّ من أن تصبح رُوحانيّة الإسلام التي هى درجة الإحسان كما جاءت في الحديث الشريف، أثبت الصفات وأعلاها قدراً وأمكنها سرّاً، تفرقها عن غيرها من المؤثرات الروحيّة في غير ثقافة الإسلام وحضارته، تلك التي تكون خارجة عنه لا داخلة فيه.

في الحقيقة، أنا شخصيّاً لستُ أدري كيف يستقبل الناس مثل هذا الكلام الخاص بصفات العارف ولا يتأثرون بأثره في قلوبهم؟ وكيف يقرأونه عند أهله وذويه ولم تعيها أُذنٌ واعية فيعزفون عنه بإعراض ونفور؟

ولستُ أجد إجابة شافية على تلك الأسئلة إلا أن تكون هنالك لوثة نفسية أصابت الضمائر والعقول والأذواق، وعاقت أجهزة الاستقبال فعطلتها؛ فطمست رهافة الحسّ ويقظة الوعي والإدراك؛ فلم تعد تلك الملكات المُعطلة قادرة بإزائها على التفاعل الحركي، ولا هى صادقة في الاقتراب من تلك الحقائق العليا بمقدار ما يصدق كل مصطفى ومختار ومهيأ بحكم استعداده لرهافة الاستقبال. لقد صدق الغزالي حيث قال:" إزالة ما لا ينبغي شرطٌ في تحصيل ما ينبغي". على أن العوائق الكامنة خلف تحصيل ما ينبغي كثيرة جداً، تحجب عن رؤية الحقائق العلويّة المُصفاة؛ فلا غرابة من أجل ذلك، أن تكون هذه المعارف والعلوم وأمثالها مهجورة لدى الخواص، فماذا يا تُرى عساه يكون الحال بعوام الناس؟!

هذا، وبالإضافة إلى صفة العبوديّة، يذكر المؤلف أن كمال الخُلق من أهم أوصاف الأولياء العارفين بالله، بل إن جماع الخُلق كله هو التواضع، فهو بلا شك أحسن لباس يلبسه العبد الولي الكامل في ولايته لله تعالى، ولهذا فمن كان وليّاً لله حقاً لزم أن يكون هذا وصفه ،إذ لا يجوز له أن يكون موصوفاً بنقائض التواضع من الكبر والغرور والتعاظم؛ لأن العظمة صفة لله وحده، وكل من يُنازل الله تعالى في هذا الوصف أو يساوي نفسه بالله، فإنّ الله يقهره، لأن الله وحده هو الموصوف بالعظمة والكبرياء، ولأجل هذا فقد حق على الولي العارف بربّه أن يكون موصوفاً بالتواضع مع الحق والخلق في آن واحد؛ لمعرفته بربه على النحو الذي لم يعرفه غيره من الخلق (ثورة النقد: ص 747).

وليس لقائل أن يقول: كيف يتواضع الوليّ للخلق وفيهم السّفلة والأدعياء، ومن فقد الأدب وأختص بالتطاول على خلق الله؛ هل يلزم لمثل هؤلاء التواضع كما يلزم لذوي العطف والرحمة والإنسانية؟ لا يصحُّ أن يقال هذا أو مثله في شأن الولي، ولماذا؟ لأن الولي يتواضع للكبير والصغير، والعظيم والحقير لا لشيء إلا لأنه ينظر من جهة المشيئة، وللخلق باعتبارهم تجليات للأسماء الإلهيّة؛ فيجئ نظره على الدوام من خلف حجاب الأسباب؛ فمن كان مع الله؛ فمعيّته تقضي المعرفة به والفهم عنه، ولا تقضي بتنازع أقدار الله في خلقه وفي عباده، ولعلّ هذا هو لبّ لباب الأدب مع شهود التقدير.

ويتحدّث المؤلف في السّطور الأخيرة من الفصل الثاني من كتابه عن موضوع المحبّة، ويُفرّق بين الحبّ الإلهي والحبّ الدنيوي؛ فالأولياء يُعرضون عن كل صور الحبّ الدنيوي؛ لأن قلوبهم لا تتّسع إلا لمحبّة الخالق ولا أحد سواه، يوقنون بأنّ الدنيا بكل ما فيها فانية، وهكذا فكل محبّة موضوعها غير الله تعالى، فمآلها كذلك إلى الفناء؛ فقلوبهم من ثمّ لا تنجذب إلا لله تعالى وحده ولا تتعلق إلّا به، ففي محبته السعادة التي ما بعدها سعادة، إذ المرء يسعد حينما يشتغل قلبه بالمحبّة الإلهية.

ويربط بين موضوع المحبّة وموضوع الفناء تمهيداً للدخول إلى الفصل الثالث والأخير من كتابه، ويقول في السطور الأخيرة من الفصل الثاني:" إنّ المحبّة لا تكون بكمالها ولا تحصل السعادة كذلك بتمامها إلا بفناء الولي العارف في محبته الله تعالى، ولهذا كان من لوازم الحبّ الصوفي ضرورة فناء الولي عن نفسه وعن السّوى، ففي الفناء دوام الحضور بالله والبقاء به وحده، وما لم يكن الصوفي فانياً فلا كمال لمحبته، وعلى هذا فلا كمال لولايته، وحينئذٍ فلا معرفة ولا شهود للحقيقة الإلهيّة بكمال صفاتها وأسمائها؛ ولهذا فقد لزم الفناء للوليّ، ليتحقق بأعلى درجات الولاية من ناحية، وليحظى بأعلى درجات العرفان من ناحية أخرى، وبالتالي تتوثق علاقة الولاية بالفناء في مذهب أبي سعيد، الأمر الذي يلزم معه الإبانة عن أمر هذه العلاقة بين الولاية والفناء من ناحية، والمعرفة والفناء من ناحية أخرى (ص 121 من كتاب المعرفة، وثورة النقد: ص 748).

* * *

وتكتسب الدلالة مؤكداتها من هذه القراءة ولا شك؛ ليكون مجمل التفصيل الذي ينصب عليها، يوصلها وصلاً مباشراً بحيويّة القيم العليا والتحرك في إطارها سواء على مستوى الخطاب المقروء أو على مستوى النقد التحليلي الذي تتضمّنه أنظار هذا الخطاب؛ فالخطاب المقروء عن شخصية صوفيّة لها بسائر ما تكلّم فيه المتصوفة من قضايا وآراء عروة وثقى، فالنظر إليه نظرٌ في قضايا التصوف العملي بإجمال ،وهو من بعدُ نظر لا يتجاوز حيويّة القيم العليا في ضوء الثقافة الدينية أو ثقافة العقيدة التي تدين لها بالولاء، وتفعيلها في أصحابها القادرين عليها. أما مستوى النقد التحليلي فتفرضه القراءة للنصوص المعنية ويُوجبه العرض للكتاب فلا يخرج عن دائرة القيم العليا التي تتقدّم هنا كما تقدّمت هناك.

ناهيك عن أن الفواصل الشعورية في دائرة القيم العليا دقيقة جدّاً، وتحديد الخطوط الفاصلة بين المعاني الكبرى؛ كالأخلاق والمعرفة والاستقامة والإرادة والحرية والمجاهدة والفناء والمحبة في حديث الولاية، أمرٌ يكادُ يكون على مستوى الشعور من الصعوبة بمكان. فإذا تحدثتَ عن المعرفة يلزمك الحديث عن الحرية، وإذا تحدثت عن الحرية تحدثت عن الاستقامة، وإذا تحدثت عن الاستقامة فلا يخلو حديثك عن الإرادة والمجاهدة، وفي الكلام عن الإرادة يقودك الكلام عن المجاهدة وعن الحرية سواء.

الخطوط الفاصلة في مجال القيم الكبرى لا يتاح تحديدها كما يتاح التحديد الفاصل في المسائل الرياضية. وربما كان سبب هذا هو أن الكلام فيها خاضع لتجربة روحيّة وصادر عن بؤرة الشعور، وأن الشعور فيها فوق المفهوم، فلا يتأتى من ثمّ النظر إليها من جهة القياس المنطقي والاستدلال العقلي، ولكن يتأتى من جهة الاستبطان الشعوري الذوقي. وربما كان هذا أيضاً هو سبب ترديد الكتابة عنها بأذواق متباينة ومشاعر متفاوتة. وإذا كانت هى في ذاتها قيماً مطلقة، فالحكم في الغالب فيها نسبيٌّ ليس بالمطلق؛ لأنها من جهة الذوق والشعور لا تخضع لهذا الحكم المطلق. ونسبيّة الحكم ترتد إلى اختلاف المقوُل بين فرد وآخر حسب الحالة الباطنة، وحسب التذوق الذي يصدرها من باطن إلى ظاهر، ومن مستور خفيّ إلى مجلوِّ ليس فيه خفاء.

وإنمّا في كل الأحوال تخضع للصدق، وحكم الصدق هذا لهو أكثر موضوعيّة من غيره من الأحكام. لكن مع هذا كله؛ يوجد هناك تعليلٌ لهذه الفوارق الشعورية ينتهي إلى تعميم تتصف به الحالة الواحدة أو مجموعة الحالات المتشابهة، والوقوف على هذا التعميم هو حكم منهجي علمي عام، يكاد يتفق عليه الجميع أو لا يتفقون. وليس هو بالذي يخضع كليةً لحقيقة التجربة الصوفية في ذاتها.

* * *

يرتبط الفصل الثاني مباشرة بالفصل الثالث في رباط محكم، وموضوعه "المعرفة والفناء"، وبما أنّ الوحدة العضوية ظاهرة بارزة في هذا الكتاب القيم كما يقول العراقي، فقد جاء كل فصل يمهّد للفصل الذي يليه في اتساق منطقي. لقد أعطانا الدكتور أحمد الجزار مذهباً واضح المعالم يضمُّ داخله آراء هذا الصوفي؛ ليجيء الفصل الثالث والأخير يشمل جانبين على النحو التالي:

()  تلازم المعرفة والفناء عند أبي سعيد

()  دلالات الفناء عند أبي سعيد

وباتّجاه النظر إلى الفصل الثالث يقول الدكتور أحمد الجزار موضّحاً موضوعه من خلال رجوعه إلى الكلاّباذي في كتابه المعروف: التعرُّف لمذهب أهل التصوف: ربما ينكشف الغطاء عن وثاقة العلاقة بين المعرفة والفناء، إذا تبينّا أن كمال المعرفة في أعلى درجاتها يظل مشروطاً بحال الفناء، ولا بدّ من ذلك عند أغلب الصوفية، فلا يتهيأ للصوفي أن يظفر بشئ من المعرفة إلا كان بمشهد الحق، ولا يتحقق هذا الأمر بتمامه أو بالأحرى لا يكون في أعلى درجاته بحسب لوازم مذهبهم إلا إذا بدا الشاهد وفني عن الشواهد وذهبت الحواس واضمحل الإحساس.

ويجعل أبو سعيد التصوف في بدايته ونهايته - حسب النصوص التي أختارها الدكتور عاطف العراقي من هذا الفصل - لا ينفك عن الفناء بصفة خاصّة؛ فالتصوف سفر روحي مؤداه انعدام الشعور بالفرديّة والامتلاء الكامل بالحضرة الإلهيّة، وهو الأمر الذي يحقّقه الصوفي في شهوده للحق في حال الفناء، ولا بدّ له من ذلك. وآية هذا أنّ التصوف عنده اسم واقع يرمى إلى شيئين: أولهما أن ينظر المرء في ناحية واحدة. وثانيهما أن يحيا بطريقة واحدة.

أنا شخصيّاً لستُ أشكُ في أنّ هذا التوصيف من قبل الدكتور الجزار ليعني التوجُّه الذي يتكئ بدايةً على التعلق، ولا يزال التعلق في التوجُّه هو انفراد الصوفي بموضوعه الذي يسيطر عليه، ويتغلب بالكلية على شعوره الديني وطاقاته الفاعلة؛ ليملك عليه بالجملة جميع أقطاره.

يرى العراقي أن هذا الفصل من فصول كتاب مؤلفنا الدكتور الجزار شأنه في ذلك شأن الفصلين السابقين فصل هام، وعلى الرغم من صعوبة موضوعه، إلا أن المؤلف نجح في توضيح النقاط الغامضة وخاصّة ما تعلق منها بالفناء. إنّ مؤلفنا بعد عرضه لآراء أبي سعيد، يدخل معه في نقاش بالغ الأهميّة، كما أنه يقسّم كل جزء من جزئيات فصله إلى مجموعة من العناصر والنقاط التي تترتب بالضرورة عن الجزء الأول والجزء الثاني، واللذان يدخلان في نطاق الفصل الثالث من كتابه.

ويقول المؤلف في السطور الأخيرة من كتابه: إذا كان أبو سعيد قد أكّد أن ما يقوله، لم يقله عن سمع ورواية، وإنّما عن تجربة، أقول إنّ هذا أو ذاك لم يمنعنا من تقويم مذهبه الصوفي في أغلب جوانبه ليتحدّد لنا بالتالي حقيقة الصوفيّة الإسلاميّة والتي تتفق أو ينبغي أن تتفق مع عقيدة الإسلام وشريعته بغير إفراط ولا تفريط.

ويذكر المؤلف في خاتمة كتابه، كما يخلص العراقي من قرأته له، أسماء أبرز المصادر التي أستعان بها في دراسته الهامة، إذ بلغت مراجعه مائة مرجع على وجه التقريب، وهو ما يدُّلنا على أمانته العلميّة وموضوعيته في الدراسة، وذلك في الوقت الذي انتشرت فيه السرقات العلميّة من جانب أشباه الأساتذة وأشباه الباحثين والدارسين.

* * *

بالإمكان إجمال التفصيل الذي تقدّم من تلك القراءة، وهو تفصيل أدرجناه تحت مظلة القيم العليا، فالقراءة في حدّ ذاتها قيمة معرفيّة، وستظل قيمة معرفيّة كائنةً ما كانت تلك المعرفةّ؛ سواء تمثلت في ثقافة العقيدة والدين أو ثقافة العقل والفلسفة، ولم يكن الأمر الإلهي بكلمة (اقرأ) بالأمر الهين البسيط الذي يُستغنى عنه مع الغفلة والتردي وسقوط القيم، ولكنه كان امراً ولا يزال ذا دلالة تندرج في ذاتها في وعي معرفي تام؛ لتشكل نظام القيم، ثم لتصبح هذه القيم فاعلة فينا أولاً ثم تكون أفعل في حياتنا تباعاً، ذات أثر بيّن ظاهر في السلوك وفي الحركة وفي الحياة، لا لتنعزل بالتجاهل أو بالإهمال عن حاضراتنا الواقعيّة.

لم يكن الأمر الإلهي "اقرأ" مُجرد كلمة عابرة وكفى، ولكنه نظام معرفي موثوق بمعطيات القيم العليا، متصل شديد الاتصال بنظمها العلوية الباقية. لا نتجاوز الصواب إذا نحن قلنا إنّ مردُّ جرثومة التخلف في بلادنا إلى إهمال الأمر الإلهي "اقرأ"، فكأنما الأمر يقول: اقرأ كيما تعرف؛ لأنه لو أطيع الأمر الإلهي، لكانت المعرفة على اختلاف مطالبها وفروعها مُحققة لدى القارئ، وتحقيقها هو العرفان، ولا مناصّ منه مع فعل القراءة على اختلاف توجهاتها وميادين النظر فيها، وتسخيرها للعقل وتسخير العقل لها ولكل ما يعلوها ويعلو بالإنسان مع المعرفة ومع القراءة في كل حال.

إمّا أن نقرأ فنعرف، وإمّا أن لا نقرأ، فتنطمس أبصارنا وبصائرنا؛ فنتخلف ويقودنا التخلف إلى أدنى درجات التّسفل والانحطاط ،وليس من وسط بين طرفين.

هذه واحدة، أمّا الثانية فإنّ القراءة تأتي بمعنى التحليل النقدي أو النقد التحليلي، وكلاهما قراءة على قراءة، لكن الفارق فيما يبدو أن الأول يشمل تحليل النّص المكتوب ونقد متونه وفحص إشاراته ورموزه، والثاني تصحيحُ لمسارات العقل في أعماله من جهة كاتب النّص نفسه، ولذلك يتقدّم النقد في هذه الحالة على التحليل، والمُراد به نقد الأدوات المعرفيّة، وأهمها وأولاها: تلافي القصور في عملية القراءة نفسها وتصحيح مسار الذهن عن انحرافه بإزائها، ووضع الأطر التي تقوّمه في طريقه بغير اعوجاج أو انحراف، الأمر الذي يترتب على هذا كله، أهمية التفسير من جهة وقدرة العقل على التأويل ثم التنوع فيهما بمقدار الكفاءة العقلية وتذوق المقروء والمكتوب. وعليه؛ تصبح القراءة هى القاعدة التي يقوم عليها أساس البناء المعرفي بكل ما يصدر عنه من تفسيرات وتأويلات وتخريجات، تنصب في النهاية في خدمة ضروب المعرفة، وخدمة النصوص المُراد تصريفها وفق قدرات العقل في التفسير والتأويل والتخريج.

أمّا الثالثة؛ فإننا بصدد كتاب في المعرفة، والمعرفة الصوفيّة على وجه التحديد، مشروط فيه خصائصها وأشراطها ولوازم اتصالها بالأحوال والأسرار، واتصال الأحوال الروحيّة والأسرار بها. والقراءة فيه تقتضي التذوق على طريقة أرباب الأحوال والأذواق، وبمنهجهم في المعرفة لا بمنهج آخر سواهم، مقحوم عليهم غير مفعول في علومهم ولا موزون. وقد كشف العرض المتقدّم بإزائه عن مزيّة من مزايا البحث في التصوف لدى الأستاذ الدكتور أحمد الجزار يمكن تلخيصها في جملة واحدة وهى: العمد المباشر لتحليل النصوص الصوفيّة في عيونها التليدة ومصادرها الأصلية، وهو فضلٌ ليس بالقليل.

ولقد كانت قراءة أستاذنا المرحوم الدكتور عاطف العراقي - طيّب الله ثراه - لكتاب الدكتور أحمد الجزار - أطال الله بقاءه - نموذجاً أردنا تجليته لشباب الباحثين في إطار القيم السامية، فإنّ ثقافاتنا العلمية بما فيها من غرس قيم التعلم وآداب المتعلمين، وهى قيم بالمناسبة رُوحيّة ولا بدّ لها أن تكون كذلك، كادت تخلو تماماً من نماذج كهذا النموذج الرائد الرائع. إنما المُشاهد اليوم هو الولاء للقيم الساقطة، والوباء الذي استشرى من آثار هذا السقوط، ثم تردي الحياة الفكرية والثقافية والعلمية ونكوصها وتدهورها من جرّاء فقدان القيم؛ فلم يعد للأستاذ قيمة باقية في نظر تلميذه، ولم يعد للمتعلم على التعميم ما يمكن أن يتعلق به ويدافع عنه من وراء حياته الفانية. من أجل هذا؛ كانت تلك القراءة مقصودة هادفة، لتكون نموذجاً يحتذى لترقية أدب العلاقة بين العالم والمتعلم، ثم قيام الصداقة بينهما على أساس شعور العطف الإنساني، ولا شك في كونها علاقة نحن أحوج ما نحتاج إليها اليوم؛ لإعادة صياغتها من جديد في إطار من القيم النبيلة العليا، حفاظاً على الرمق الأخير من قيم غائرة وتراث أصيل فينا غير أنه مهجور.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم