صحيفة المثقف

عندما لا يسعنا حيث نعيش

المصطفى سلامقراءة في قصة "استعمل وارم" للقاص إبراهيم بوعلو

القصة القصيرة جنس أدبي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد أن توفرت له أهم الشروط مثل وجود طبقة اجتماعية متوسطة ثم صحافة، إضافة إلى عملية الترجمة التي ساعدت على التعرف إلى أعمال قصصية أجنبية. وقد اقترن هذا الجنس الأدبي في البداية بالواقع الاجتماعي بمختلف أبعاده السياسية والاجتماعية والتربوية والحضارية عامة.. ومن بين رواد هذا الفن في المشهد الثقافي المغربي محمد إبراهيم بوعلو1، والذي أغنى المشهد الأدبي المغربي خاصة والعربي عامة بتجارب نصية في جنس القصة القصيرة، والتي سنتناول بالتحليل في هذه القراءة قصة " استعمل وارم ". وقد عرفت القصة القصيرة في المغرب مسارا تطوريا يمكن تحديد أهم تمفصلاته:

- الكتابة شبه القصصية حيث كانت تشترك مع بعض الألوان الفنية الأخرى مثل المذكرات والرسائل

- مرحلة القصة بعد أن توفرت لديها أهم الشروط الفنية والجمالية والنوعية الملائمة لجنس القصة.

- مرحلة التجريب أو مرحلة خرق المعيار أو كتابة القصة من داخل القصة. وقد أكد الخطاب النقدي الموازي لهذه التجربة في المغرب أن لكل مرحلة من كتابة القصة روادها وممثلوها، الذين أغنوها بالنصوص والتجارب الفنية المتنوعة.

بعد قراءة النص، يمكن أن نقول بأنه يتمحور حول فكرة أساسية، تتمثل في: أثر الأشياء على الإنسان، أو كيف تعلم الأشياء الإنسان؟ أو كيف ضايقت الأشياء الإنسان؟ ما دام الإنسان يعيش في مرحلة الإنتاج والصناعة والوفرة وبالتالي هيمنة الأشياء والمصنوعات على الحياة الإنسانية إلى درجة أنها هيمنت عليه وشغلته أكثر من اللازم. وقد لخص الكاتب هذه الفكرة في عبارة "استعمل وارم". كاقتراح أو صيغة للتعامل مع الأشياء. ويمكن تقسيم النص إلى المتواليات السردية التالية باعتبارها أحداثا تنتظم المسافة السردية في النص ككل:

1- البحث عن حيز / فراغ لوضع خزانة للأطفال.

2- سؤال الزوجة الزوج عن إصلاحه الخلاط الكهربائي أم لا.

3- تهيئ الحيز المناسب لوضع الخزانة.

4- استغراب الزوجة من سلوك وأفكار الزوج.

5- اقتناع الزوجة بالدرس الجديد في التعامل مع الأشياء.

بعد استخراج هذه المتواليات، يمكن أن نضعها ضمن خطاطة سردية، فلحظة البدء تمثلت ببحث الزوج عن حيز لوضع خزانة الأطفال. أما لحظة الوسط، فتضمنت الأحداث التي تولدت عن لحظة البدء، وقد تضمنت الأحداث 2و3و4، هذه الأحداث، تولدت عن لحظة البدء بسبب عنصر غريب، تمثل في ضيق المكان وعدم استجابته لأشياء جديدة. وفي الأخير هناك لحظة نهاية أو إرساء لأحداث النص عند نقطة ما، تمثلت في اقتناع الزوجة بالدرس أو العبرة التي استفادها الزوج بدوره من محاولته إصلاح الخلاط الكهربائي. وقد كان هذا الدرس حلا لأزمة الضيق التي تعانيها الأسرة كما جاء في النص.

فيما يخص شخصيات النص، فهي تندرج ضمن القوى الفاعلة في الحكاية، وهي مختلف العناصر التي تؤثر في صيرورة الأحداث، أو تساهم في تطورها وديناميتها. فقد تكون آدمية أوغير آدمية، ومن بين أهم شخصيات القصة:

- الزوج: يتضح أنه مسؤول ويراعي حجم مسؤوليته من خلال توفير أهم طلبات أسرته.

- الزوجة: كما ظهرت في القصة، أكثر دراية بحاجات البيت ومتطلبات الأطفال، بحكم وظيفتها التربوية وموقعها ضمن تراتبية الأسرة.

- المْعَلم: شخصية تنتمي إلى عالم المهن والحرف التقليدية. له علاقة بالناس من جهة ثم بالأشياء من جهة ثانية، وخاصة الآلات المنزلية التي يقوم بإصلاح أعطابها. وله خبرة بهذه الآلات من حيث خصوصيتها وفنيتها وقيمتها أكثر من مستعمليها.

- الخلاط الكهربائي: ينتمي إلى دائرة الأشياء والآلات أو الجمادات. وللأشياء في حياة الناس قيمة ومكانة. وذلك لكون كثير من الأنشطة والأعمال أو الخدمات لا تنجز إلا بواسطتها. سواء تعلق الأمر بالطبخ أو النظافة أو الفرجة والمشاهدة أو الاتصال والتواصل والترفيه واللعب.

و يمكن أن نتبين المنطق الذي ينتظم هذه العناصر في عالم القصة من خلال النموذج العاملي:

- عامل الذات: ويمثله هنا في النص الزوجان معا والإنسان عامة.

- عامل الموضوع: يتمثل فيما يرغب فيه الزوجان، أي تسهيل وتيسير ظروف العيش.

- عامل المساعد: تمثل في النص من خلال المعلم أولا ثم الأشياء ثانيا والحياة ثالثا، حيث علمت هذه العناصر الزوج درسا ولقنته حكمة استطاع بواسطتها أن يجد حلا لأزمته.

- عامل المعيق: يمكن اعتبار مجموعة من العناصر تنجز دور المعيق هنا أمام الذات مثل الإمكانات المادية ثم ضيق المكان والأشياء من خلال عطبها أو عطالتها.

- عامل المرسل: يمكن تمثيله في النص من خلال الجهات التي تصور أن الحياة سهلة من خلال الآلات.و الجهات التي أصبحت تفرض منطق الاستهلاك: أنت تستهلك، إذن أنت حي.

- عامل المرسل إليه: الجهة التي تستفيد من استمرر منطق الاستهلاك.

وتشتغل هذه العوامل من خلال ثلاث علاقات:

- علاقة تواصل: تتم بين عامل المرسل والمرسل إليه، فالعالم الصناعي يرغب في استمرار منطق الاستهلاك، من خلال ترسيخ ثقافة الاستهلاك، والتي تحققت من خلال استحالة العيش بدون استهلاك للمنتوجات الصناعية التي غطت الحياة وظروف العيش عند الإنسان المعاصر.

علاقة الصراع: تمت في النص بين كل من العامل المساعد والمعيق، حيث الأول يساعد الذات في تحسين ظروف العيش، وتجاوز الإكراهات الناجمة عن تلك الظروف، وقد مثلها هنا في النص كل من المعلم والأشياء أو المنتوجات المستعملة إضافة إلى عنصر الحياة، الذي بقدر ما يخلق الأزمة يعلم الإنسان كيف يتجاوزها. أما العنصر المعيق فيحضر في النص من خلال الأشياء المعطلة أو التي حصل فيها عطب أو عطل ما. كما أن الاستعمال وطرائقه، قد يعيقان الذات في تحقيق رغباتها، دون أن نغفل مدة الصلاحية التي لا ينتبه إليها كثير من الناس.

علاقة الرغبة: تحققت في النص من خلال ثنائية الذات والموضوع، فالذات من خلال الزوج أو الزوجة ترغب في أن تكون ظروف العيش سهلة وميسرة وممتعة، ليست فيها معاناة أو مشقة، وذلك من خلال الحصول على ما يحقق ذلك من أشياء ومتاع. وكلما كانت تصوير الحياة أو تمثيلها وفق شروط سهلة وإمكانيات متاحة، كلما كانت رغبة الإنسان فيها أشد.

هكذا كشف هذا النموذج عن طبيعة ونوعية المنطق المتحكم في نمط العيش وصورة الحياة التي يحياها الإنسان المعاصر، إضافة إلى الدور الذي تلعبه الأشياء في تعطيل هذه الرغبة أو تسهيلها وجعلها متاحة في العصر الحديث. ويمكن صياغة ذلك وفق المنطق التالي:

الرغبةــــــــــ← الاستهلاك أو الشراء ــــــــــــ←الاستعمال أو الانتفاع ــــــــــــ← العطالة أو الأزمة.

إنها لعبة دائرية أساسها أن الرغبة تتحقق من خلال استهلاك الأشياء أو المنتوجات الصناعية. وعندما تتوفر هذه المصنوعات تتيسر الحياة وتتم الاستجابة للرغبة. وفي حالة غيابها أوعطالتها تتعسر الحياة. إنها لعبة دائرية أساسها أن الأشياء هي في أصلها كإبداع أو إنتاج لمواد وموضوعات يستجيب من خلالها الإنسان للرغبة. فعند توفرها تتيسر الحياة ويتحقق الانتفاع. وفي حالة غيابها أو عطالتها تتعطل أو تقمع الرغبة وتتعسر الحياة.

أما المكان باعتباره مرجعا لأحداث النص، فقد تمثل هنا في البيت عامة وفي المساحات الفارغة خاصة. وقد ورد هنا في القصة عاما دون وصف أو تعيين لبعض معالمه، ولكن يمكن للقارئ استنتاج أهم خاصية من خصائصه، والتي تتمثل في الضيق وعدم الاتساع لاحتواء أشياء جديدة. حيث الأشياء تتطلب مساحة أو حيزا كافيا تتموضع فيه،لكن مع كثرتها وحضورها قد يصبح المكان غير كاف لاحتوائها وهذا ما طرحته القصة بصورة ضمنية غير مباشرة. فإذا كان للرغبة موطن هو النفس وما ترغب فيه أو تميل إليه أو تسعى أن تناله وتحرزه، فإن الأشياء عند امتلاكها هي رغبات الإنسان قد خرجت من المجرد إلى الملموس، ومن المعنوي النفسي إلى العياني المباشر، وبالتالي تحولت إلى مكان أو فضاء تحتله وتتموضع فيه.وهذا ما يبين أن للبيت كفضاء للعيش مردود نفسي وثقافي على قاطنيه أو المقيمين فيه.وذلك من خلال أثر الأشياء على نفسية الإنسان مثل الأثاث والأمتعة والمكونات المختلفة التي تساعد على إمكانية العيش داخله بيسر وسهولة. وهذا ما غدت تفرضه الحياة المعاصرة على الإنسان المعاصر، حيث لم يعد قادرا على الاستغناء عن كثير من الأشياء والتجهيزات التي غدت في مستوى الضروريات. إن جودة الحياة في البيت تقوم على مجموعة من الشروط في مقدمتها الأشياء الضرورية والكمالية لأن مصالح الإنسان مرتبطة بها مثل التلفاز والهاتف وآلات التصبين وأدوات المطبخ....

إن الرغبة في النفس عند الإنسان تعكسها الأشياء في المكان، من خلال كمية ونوعية هذه الأشياء وطريقة توزيعها.الشيء الذي يجعل البيت آلة للعيش قد تساعد على ذلك أو قد تعيق.

والعلاقة بين هذين المحورين تتمثل في ما يلي:

الرغبة متجددة والأشياء قد تكون جديدة أو قديمة، وهي تتطلب فضاء يحتويها وترتب فيه أو تتمظهر فيه، لكن يحدث أن يكون الفضاء غير كاف وبالتالي يتطلب الأمر تدبيرا جديدا لإيجاد حلول لوضع تلك الأشياء وبالتالي تحقيق الاستجابة للرغبة. فالأشياء من خلال اكتسابها أو امتلاكها عن طريق الاقتناء أو الحيازة أو الإرث أو الاستعارة أو السطو...تمثل استجابة للرغبة في صيرورتها وديناميتها.

خلاصة:

القصة القصيرة فن تعبيري، يتوسل الإيحاء والتلميح، من خلال مكوناته الفنية المعروفة. وقد رصد الكاتب هنا ظاهرة من الظواهر الإنسانية عامة والاجتماعية خاصة، وصوغها ضمن قالب قصصي من أجل تحسيس القارئ بها وبالتالي بناء وعي لديه بخصوصها. ولعل الكاتب هنا إبراهيم بوعلو رصد مسالة احتلال الأشياء لمساحات مهمة ضمن فضاء العيش لدى الإنسان خاصة المصنف ضمن الطبقات الاجتماعية الدنيا أو دون المتوسطة، وكيف يؤثر هذا الاحتلال في تأجيل أو قمع رغبات جديدة عند الإنسان. وبالتالي كيف يتولد الصراع النفسي لدى الفرد أو الأفراد بين الرغبات المتولدة وضيق الفضاء. ومسألة احتلال الأشياء لمساحات كبيرة في فضاءات السكن لدى الإنسان أبعاد وعوامل كثيرة منها:

ظاهرة التشيؤ

النزعة المادية الطاغية على الإنسان

منطق الحياة المعاصرة القائم على الإنتاج بوتيرة سريعة

سوء التدبير لدى الإنسان في التعامل مع الأشياء وبالتالي مع الرغبة

ذهنية المحافظة حيث بعض المجتمعات لازالت محافظة لا تتحرر من الأشياء بسرعة عكس المجتمعات الصناعية التقنية التي يحكمها شعار:" استعمل وارم".

ملحق:

استعمل وارم

دخل على عجل، ثم أخذ ينقل نظراته في البيت، في الحجرتين،وفي الباحة التي بينهما،ثم دخل إلى المطبخ وخرج منه.وقف كما لو كان يتأمل في شيء ما، لم تدرك زوجته ما هو. فقالت له: ماذا هناك؟ عن أي شيء تبحث؟ وقبل أن يجيبها سألته: هل أصلحت الخلاط الكهربائي؟ فأجابها باختصار: لا...و لكنني الآن أفكر في المكان الذي تريدين أن تضعي فيه خزانة الأطفال... وابتسمت وهي تقول:أحقا ما تقول...؟ أين...؟ ثم شاهدته وهو يزيح بعض الأشياء التي كانت بزاوية الحجرة، ويخرجها إلى الباحة. فتسمرت في مكانها تتابع حركاته قبل أن يقول لها: ماذا تنتظرين لتساعدينني...؟ هيا...خذي...؟ وأخذ يسلمها ما يبعده عن زاوية الحجرة، حتى إذا ما أفرغها تماما سألها ما رأيك...؟ ألا تصلح هذه الزاوية لخزانة ملابس الأطفال.؟ فابتسمت وهي تقول: وما الذي جعلك تغير رأيك..؟ لقد طلبت منك ذلك مرارا، ولم تقتنع..؟ فابتسم وهو يقول لها: إنه الخلاط الكهربائي، الذي نبهني إلى أن علي أن لا أحتفظ بكل هذه الأشياء التي كنت أعتقد أنني سأقوم بإصلاحها ذات يوم.. وظلت تنظر إليه قائلة: لم أفهم...فأجابها: عندما حملت الخلاط إلى "المعلم" ليصلحه ضحك وهو يقول: إن إصلاحه يتطلب تقريبا ثمن شرائه. الأفضل أن تشتري آخر جديدا..ثم أردف ألم تسمع في الأيام الأخيرة ب: استعمل وارم...؟ وأدركت أن علينا أن نعيش هذه المرحلة "استعمل وارم " أولا لأن كل ما نشتريه أصبح ثمنه قليلا. وثانيا، لأنه لا يصمد مدة طويلة إلى درجة عندما يفسد نحتفظ به لنقوم بإصلاحه فيما بعد. أما الآن فعلينا أن نلقي به خارج البيت لا أن نحتفظ به في زاوية تصلح لخزانة ملابس الأطفال.. فضحكت وهي تقول: شكرا للخلاط الكهربائي...

 

د. المصطفى سلام

...........................

* محمد إبراهيم بوعلو: قبل الثامنة، أقاصيص قصيرة جدا. دار الأمان، الرباط، ط 1، ص 79.

1- محمد إبراهيم بوعلو من مواليد 1936 بسلا. يشتغل أستاذا محاضرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. نشر كتاباته بعدد من المنابر مثل: التحرير والرأي العام (سوريا) والمحرر والاتحاد الاشتراكي وأقلام. من أعماله: السقف، الجولة الأولى، أربعة طلاب، الفارس والحصان. الهروب ثم قبل الثامنة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم