صحيفة المثقف

إختيار الأمة الإمام وإشكالية النيابة عن صاحب الشرع عند الأشاعرة

بدر الدين شيخ رشيد«ما سلَّ سيف فى الإسلام على قاعدة دينيَّة، مثل ما سُلَّ على الإمامة فى كل زمان» الشهرستاني.

إذا درسنا هذه الإشكاليّة من خلال تعريف الخلافة والإمامة عند الأشاعرة، نجد أن هناك مفارقات بين تعريف الإمامة ومبدأ الإختيار عندهم . أما من حيث التعريف، فأكثر من عرّف الخلافة والإمامة من متكلمي الأشاعرة وفقهائهم، نجد أنهم عرّفوا بها أنها«موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا» [1].

وإذا أخذنا مثلا هذا التعريف، لا شك أن الإمامة تتحد بالمعنى التي تقول به الشيعة الإمامية، وهي أن الإمامة منصب إلهي يشاكل مع النبوة في الدرجة إلا الوحي لأن القاعدة المتفقة عند العقلاء، أن البدل يأخذ حكم المبدل منه، فلا يمكن النيابة عن مقام الرسول إلا من يتصف بصفاته وهو الإنسان الكامل.

وبناء على هذا، فقد طرحت الشّيعة الإماميّة إشكاليّة النّيابة عن الله ورسوله، فيمن يُخْتار من قبل الأمة، حيث قالت: «إن الإمامة خلافة الله ورسوله، فيتوقف على إستخلافهما بوسط(الأمة) أو بلاوسط. والثابت باختيار الأمة لا يكون خلافة منهما، بل من الأمة» [2].

فالعلامة التفتازاني الأشعري  [ت:971 /972ھ/1388/1389م] ، تصدى الإجابة عن هذا الإشكال، فقال رحمه الله:«وَرُد(الإماميّة)، بأنه لما قام الدليل من قبل الشارع وهو الإجماع على أن من إختاره الأمة خليفةً لله ورسوله كان خليفةً فسقط ما ذكرتم (أي الإمامية). ألا ترى أن الوجوب بشهادة الشاهد وقضاء القاضي وفتوى المفتي حكم الله لا حكمهم، على أن الإمام وإن كان نائبا عن الله فهو نائب عن الأمة أيضا» [3].

ونظرية التفتازاتي القائمة على أن الإمام نائب عن الله وعن الأمة معا، يعدّ مشكلا؛ لأنه كيف يكون الإمام نائبا عن جهتين؟ علْماً بأن الإمام يختار-عند الأشاعرة- من قبل الأمة، لا من قبل الله ورسوله؟

غير أن القول بأن الإمام نائب عن الله وعن الأمة معا إذا أخذنا من وجهة  العلامة التفتازاني، يمكن تخريخها إذا خصصنا أهل الإختيار بأهل الإجماع. ويكون هذا التخريج صائغا، إذا وظّفنا نظرية النيابة عن الله ورسوله  بإعتبار مَنْ يَخْتار الإمام. بحيث أن الإمام يختار عند الأشاعرة، من قبل أهل الأفاضل من الأمة،  إضافة إلى إشتراطية الإمام بالإجتهاد. وقلنا ذلك، لأننا لم نجد من صرح من علماء الأشاعرة القول: بأن الأمة هي التي تختار الإمام. بل كل من تكلم في حالة إنعقاد الإمامة قال: تنعقد الإمامة من قبل «أهل الحل والعقد من مجتهدى الأمة». فالخلاف بينهم إنما يدور فقط حول تحديد عدد أهل الحل والعقد في جميع الأمصار، يقول الباقلاني:« إنه إذا صح أن فضلاء الامة هم ولاة عقد الإمامة، ولم يقم دليل على أنه يجب أن يعقدها سائرهم ولا عدد مخصوص لا تجوز الزيادة عليه ولا النقصان منه،  ثبت بفقد الدليل على تعيين العدد» [4].

هذا وإن دلّ على شيء، فإنما يدل تخصيص أهل الإختيار لأهل الأفاضل، على أن الإمامة من  أصول الدين. أضافة إلى ذلك فإننا قد وجدنا عند الأشاعرة من صرح أصوليّة الإمامة، وذلك للخروج من هذا التناقض الملحوظ بين التعريف من حيث النيابة عن الرسول، و بين الإختيار من قبل الأمة.

وممن صرح أصوليّة الإمامة، الإمام الماوردي [ت:450ھ/1058م]، والإمام الشهرستاني [ت:548ھ/1153م] والقاضي البيضاوي المتكلم المفسر الأصوليّ الشافعي [ت:685ھ/1286م].

الإمام الماوردي [ت:450ھ/1058م] في كتابه الأحكام السلطانية صرّح أصولية الإمامة حيث قال:« إن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوّض إليه السياسة، ليصدر التدبير عن دين مشروع وتجتمع الكلمة على رأى متبوع، فكانت الإمامة أصلا إستقرت عليه قواعدُ الملة وانتظمت به مصالح الأمة حتى إستتبت بها الأمور العامة وصدرت عنها الولايات الخاصة فلزم تقديم حكمها على كل حكم سلطاني» [5].

كما أكّد أصوليّة الإمامة، الإمام الشهرستاني  [ت:548ھ/1153م] ، حيث إعتبر إختلاف الأمة في الإمامة أعظم خلاف وقع بينها:« إذ ما سُلّ سيف فى الإسلام على قاعدة دينية، مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان» [6].

كذلك، يقول الإمام البيضاوي  [685ھ/1286م] في شأن أصولية الإمامة:« وقالت الشيعة- ما تدعيه من النص الدال على إمامة علي رضي الله عنه- : لم يتواتر كما لم تتواتر كلمات الإقامة من أنها مثنى، أو فرادى، والتسمية في الصلاة، ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم تتوافر، كحنين الجذع إليه، وتسليم الحجر عليه، ووقوف الشجر بين يديه، وتسبيح الحصى في يمينه مع توافر الدواعي على نقلها. فدل ذلك على أن عدم تواتر ما توافر الدواعي على نقله ليس دليلا على عدم صحته. وأجاب عن الأولين أعني الإقامة والتسمية بأنهما من مسائل الفروع ولا كفر ولا بدعة في مخالفتهما، فلم تتوافر الدواعي على نقلها لذلك، بخلاف الإمامة فإنها من الأصول ومخالفتها بدعة ومؤثرة في الفتن، فتتوافر الدواعي على نقلها، فلما لم تتوافر دل على عدم صحته» [7]

من جانب آخر، إذا نظرنا إلى كل من إعتبر الإمامة بالفروع من متكلمى الأشاعرة، نجد أنه علّل بذلك، إما لكونها موضع تعصب ومثار فتن وجدل، أو أن البحث عن حقيقتها وإدراكها من جهة الدليل يمثّل فى غاية الصعوبة. فخذ مثلا تعليل الإمام الغزالي  [ت:505ھ/1111م] حينما إعتبر الإمامة من الفروع علل على ذلك«بأنها مثار للتعصبات والمعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض فيها، بل وإن أصاب، فكيف إذا أخطأ» [8].

وكذلك تعليل الجويني [ت:478ھ/1085م]، بأن« الخطر من يزل فيه يربى على الخطر على من يجهل أصله ويعتوره نوعان محظوران عند ذوي الحجاج أحدهما: ميل كل فئة إلى التعصب  وتعدي حد الحق، والثاني، من المجتهدات المحتملات التي لا مجال للقطعيات فيها» [9].

وهكذا ينسق تعليل الشهرستاني [ت:548ھ/1153م]  كنسق من سبقه من الأشاعرة حيث يقول:«الإمامة ليست من أصول الإعتقاد بحيث يفضي النظر فيها إلى قطع ويقين بالتعين، ولكن الخطرعلى من يخطي فيها يزيد على الخطر على من يجهل أصلها والتعسف الصادر عن الأهواء المضلة مانع من الإنصاف فيها» [10]

الأمدي [ت:631ھ/1233م] أيضا، حذا حذو من سبقه من الأشاعرة في تحقيق ماهية الإمامة  حيث قال:« واعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات ولا من الأمور الأبدايات بحيث لا يسع المكلف الإعراض عنها، والجهل بها، بل لعمري إن المعرض عنها لأرجى حالا من الواغل فيها، فإنها قلما تنفك عن التعصب والأهواء وإثارة الفتن والشحناء، والرجم بالغيب في حق الأئمة والسلف بالإزدراء وهذا مع كون الخائض فيها سالكا سبيل التحقيق، فكيف إذا كان خارجا عن سواء الطريق»  [11]

الأيجى [ت: 756ھ/1355م] ، أيضا أوضح في مباحث الإمامة في كتابه المواقف بأن الإمامة من الفروع« «وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا» [12].

السيد الشريف الجرجانى [ت:816ھ/ 1413م] شارح كتاب «المواقف فى علم الكلام»للإيجى أيضا،إتّبع نسق الأشاعرة فى تحليل مفهوم الإمامة، فقال رحمه الله:«الإمامة ليست من أصول الديانات والعقائد خلافا للشيعة، بل هي عندنا من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين إذ نصب  الإمامة عندنا واجب على الأمة سمعا، وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا، إذ قد جرت العادة من المتكلمين بذكرها في أواخر كتبهم». [13]

إعتبر ابن خلدون الإمامة من المصالح الإجتماعية، وإنما ألحق الإمامة في علم الكلام «لما ظهر حينئذ من بدعة الاماميّة من قولهم: إنها من عقائد الايمان وإنه يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة في ذلك لمن هي له وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية، ولا تلحق بالعقائد، فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن، وسموا مجموعة علم الكلام، إما لما فيه من المناظرة على البدع، وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل، وإما لأن سبب وضعه والخوص فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي» [14].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد إبراهيم

 ..............................

 [1] - الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق، خالد عبد اللطيف السّبع العلميّ  دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط1/ 1410ھ/1990م ، ص29

 [2] -التفتازاني، شرح المقاصد في علم الكلام، دار المعارف، ط1/1401ھ/1981م دار النعمانية ، باكستان، ج2/ص282. وانظر: الخزازى، بداية المعارف الإلهية فى شرح عقائد الإمامية، مركز مديريت حوزة علمية، قم، إيران، ط1/1411ھ ، ج2 ص11.

 [3] -التفتازاني، شرح المقاصد في علم الكلام، دار المعارف، ط1/1401ھ/1981م دار النعمانية ، باكستان، ج2/ص282. وانظر: الخزازى، بداية المعارف الإلهية فى شرح عقائد الإمامية، مركز مديريت حوزة علمية، قم، إيران، ط1/1411ھ ، ج2 ص11.

 [4] - الباقلانى ، التمهيد، تحقيق، محمود محمد الخضيري، و محمد عبد الهادي دار الفكر العربي (بدون رقم الطبعة والتاريخ) ص178.

 [5] - الماوردى، الحكام السلطانية والولايات الدينية ، تحقيق، خالد عبد اللطيف السّبع العلميّ  دار الكتاب العربي بيروت لبنان، ط1/ 1410ھ/1990م ،ص27.

 [6] - الشهرستانى ، الملل والنحل،  تحقيق، محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ( بدون رقم الطبعة والتاريخ )، ج1/ص24.

 [7] - السبكي، علي بن عبد الكافي، الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، تحقيق، جماعة من العلماء، دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان، ط1/ 1404ھ ، ج2/ص296.

 [8] -  الغزالى، الإقتصاد فى الإعتقاد،  تحقيق، الشيخ علاء الدين، الحموي، دار أفنان دمشق سوريا،  ط1/1419ھ/1999م، ص185.

 [9] - الجوينى، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة فى أصول الإعتقاد، تحقيق‘ أسعد تميم مؤسسة الكتب الثقافية ط1/1405ھ/ 1985 م ص345.

 [10] - الشهرستانى، نهاية الإقدام  فى علم الكلام،تحقيق الفرجيوم، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، مصر،(بدون رقم الطبعة والتاريخ) ، ص478 .

 [11] - الآمدى، غاية المرام فى علم الكلام، تحقيق، حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون  الإسلامية القاهرة، مصر، (بدون رقم الطبعة والتاريخ)، ص363.

 [12] -  الإيجى، المواقف فى علم الكلام، عالم الكتب بيروت، لبنان،(بدون رقم الطبعة والتاريخ)،ص395.

 [13] -  الجرجانى،  شرح المواقف، تحقيق، عبد الرحمن عميرة،دار الجيل لبنان، بيروت، لبنان، ط1/ 1417ھ/1997م.ج3/578.

 [14] - ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان ط4/،(بدون تاريخ الطبعة)، ص465.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم