صحيفة المثقف

وضاح اليمن عبدالله البردوني

جعفر المظفربداية السبعينات حضرت المهرجان الشعري الذي إنعقد تكريما للشاعر العظيم أبي تمام في ألفيته الأولى، كان من ضمن المشاركين شعراء كبار من أمثال البردوني شاعر السودان وأيضا جميل الشعراء نزار قباني والشاعرة العراقية الرائعة لميعة عباس عمارة وغيرهم.

كان جميع الشعراء قد شاركوا بقصائد رائعة وجميلة، غير أن الأمر الذي لفت أنظاري هو وجود رجل كان يرتدي، خلاف كل الحاضرين، دشداشة بيضاء و(قبوطا) اسودا كذلك الذي إعتاد الحراس الليلين إرتداءه في ليالي الشتاء الباردة. كان كريم العينين، غامق السمرة، طويل القامة، أما وجهه فكان خصما عنيدا للوسامة، إذ لم يترك الجدري مكانا فيه دون أن يثقبه بيده اللعينة.

لكن "لميعة عباس عمارة" بدلا من أن تتجه بالرجل إلى خارج القاعة، إتجهت به به نحو المسرح لتتركه واقفا خلف منصة الإلقاء التي كان غادرها توا أحد الشعراء الكبار، ثم إذا بعريف الحفل يعلن أن الوقت قد حان للإستماع إلى شاعر من اليمن بإسم (عبالله البردوني) وقصيدة تتحدث عن عروبة اليوم وعن وضاح اليمن.

صبرنا على الرجل وهو يأخذ رشفة ماء من قدح أتى به عريف الإحتفال. نظر الجميع إلى الجميع مستغربا من بروده وهدوئه. أزاح الرجل بِكُم ردائه ما تبقى من الماء على شفتيه، ثم بدأ قراءته لقصيدة المذهلة، عن "صنعاء" و"وضاح اليمن" الذي راح ضحية للعشق مدفونا بأمر من السلطان.

وكمحاكاة لقصيدة أبي تمام الشهيرة (السيف أصدق إنباء من الكتب..) بدأ البردوني قصيدته:

ما أصدقَ السيف إنْ لم ينْضِهِ الكذِبُ / وأكذبَ السيف إن لم يصدق الغضبُ

أدهى من الجهل ، عِلْمٌ يطمئنُّ إلـى / أنصافِ ناسٍ طغوا بالعلم واغتصَبوا

قالوا همُ البَشَرُ الأرقَى، وما أكلوا / شيئاً، كما أكلوا الإنسانَ أو شـــربوا

ثم قال وقال وقال، وكنا مذهولين، ظنّاً منا بأن الرجل لم يحضر إلا طمعاً بوجبة عشاء مجانية، فإذا به وقد أنسى الحاضرين جوعهم، ثم رأيناه، حينما نزل بصحبة سيدتنا "عمارة"، وقد صارأكثر وسامة من كل الشعراء.

وأذكر أن القاعة كلها وقفت تصفق للرجل حينما قال:

ماذا أحدث عن صنـــــــعاء يا أبتي / مليحة عاشقاها الســــلُ والجربُ

ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن / ولم يمت في حشاها العشقُ والطربُ.

أما وضاح اليمن فقصته معروفة. قيل أن شبابيك الحي كانت تُفتح إذا سمعت نساؤها وقع أقدامه، فقد كان غاية في الوسامة حتى أن زوجة السلطان كانت قد أغرمت به، فقرر الأخير مفاجأة زوجته بالعودة عن قصة السفر التي كان إخترعها، فلما طرق سمعها خبر عودته أمرت وضاح أن يختفي في صندوق ملابسها ظانة أن السلطان لن يفكر بتفتيشه.

لكن السلطان، وعيناه تتجولان في كل أرجاء الغرفة، لم يخبرها عن سر عودته المفاجئة، فالإتيان على الخبر كان سيأكل منه الكثير، مفضلا أن يرى الجند المرافقون خلو الغرفة من وضاح لكي يكونوا شهودا على عفة زوجته، ولكنه قبل أن يغادر طلب منها أن تهديه الصندوق، فأسقط في يدها، ثم أمر الجند حينما وصلوا خارج أسوار القصر أن يحفروا قبرا لينزلوا الصندوق فيه.

وقبل أن يغادر وقف السلطان على حافة القبر مخاطبا نزيل الصندوق:

يا وضاح، إن كنت فيه فخير لنا، وإن لم تكن فيه فخير لك.

مات البردوني الكبير قبل سنوات، وأظنه يدري أن وضاح اليمن لم يمت بعد، فها هويتسلل في كل ليلة من صندوقه لكي يتغلب على كل السلاطين الذين يحاولون أن يدفنوه حيا.

 

جعفر المظفر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم