صحيفة المثقف

قراءةٌ في لُّغَةِ الخِطَابِ الصَّوفِي (1)

مجدي ابراهيمتدورُ هذ الفكرةُ حول ألفاظ اللغة العربية : شاعريَّتُها ومجَازُها وموحياتها، تمهيداً لقراءة لغة الخطاب الصوفي التي هى بالأساس لغة مجازيّة تحصل من خلال التجربة، وتُسْتَفَادُ من التجربة، وتمتلئ بالمعاني التي تعطيها التجربة ويسفر عنها من ثمَّ مَذَاق العارفين؛ حتى إذا ما توصَّلنا إلى معطيات العبارة الصوفيّة كون لغتها مفتوحة غير مغلقة ولا هى بالسطحية، استطعنا أن نضع لغة الإشارة التَّصوِّفيَّة (= لغة المعنى الصرف ولغة التجربة المحضة) في مواجهة فلاسفة التحليل ممَّن دانوا بمذهب الوضعية المنطقية حين أرادوا تقييد "المعنى" بدلالته الحسيّة الواقعية وكفى، ومن ثمَّ رفض الميتافيزيقا إذْ دلت هنا على معنى غائب غير مرئي؛ فإذا الهدف من وراء هذه القراءة يجيء بعد اختيار منهجيّة المقارنة والنقد والتحليل كمُعالجة للموضوع هو رفض مقولاتهم، وقبول مقولات التّصوف في إصابة المعنى في غير ما تقع عليه الضلالات الحسية؛ بسبب أن الإدراك الذوقي الرُّوحاني في التصوف خَاصَّة من شأنه أن يُحَوِّل معطيات الحس إلى رموز وإشارات بمقدار ما يُحَوِّل أحداث التاريخ إلى قصص رمزية، وهو ما كان يفعله ابن عربي تحديداً كما يشير "كوربان" في " الخيال الخلاق عند ابن عربي".

فهنالك فرقٌ؛ وفرقٌ كبير بين انعدام المعنى بالمطلق أو قصوره على المعطيات الحسية من جهة، وصعوبة تعريف المعنى من جهة أخرى، فليس الحسّ هو المعنى تماماً كما أن الجسد ليس هو الروح.

ولتحقيق هذا الهدف، قدَّمنا بما نقصده من الدلالة الميتافيزيقية للألفاظ بما نسميه من جانبنا بميتافيزيقا اللفظ المفتوح، وأود توضيح هذه النقطة بالتحديد؛ فإذا كانت اللغة تنقسم إلى مستويين فإنني لم أقصد على التحقيق بــ "ميتافيزيقا الألفاظ المفتوحة" هنا ما اصطلحت عليه "الوضعية المنطقية" (logical positivisms) (كارناب خاصَّة) من اصطلاح "اللغة الشارحة" أو" ما بعد اللغة - (meta Language) تمييزاً لها عن اللغة الشيئية؛ أو "لغة الموضوع"، (Object-Language) على اعتبار أن اللغة الشارحة تستخدم في الكلام عن اللغة الشيئية، فمستوى هذه دون مستوى تلك. نحن لم نقصد هذا، وإنما جاء قصدنا هو الاستناد إلى قوة الشعور التي هى قوة "معنى" لا لفظ فيه؛ في المقام الأول، ثم تجيءُ الألفاظ (المباني/ الأواني) تابعة للطف المعاني، كما أشار إليه ابن الفارض، حيث قال:

ولطف الأواني في الحقيـقة تابـعٌ

للطف المعاني والمعاني بها تنمو

هذا مستوى، أما المستوى الآخر من القصد؛ فصرف ظاهر اللفظ، أعني صرف ما توحي به دلالته الظاهرة، وطلب العلم بالدلالة الباطنة، على ما قال ابن عربي في "ترجمان الأشواق":

فاصْـرِفْ الخَاطر عن ظاهرها

واطْلب الباطِــن حتى تَعْلـــمَا

ثم آثرنا أن نُوَسِّع من انعكاس الكلمة لصورة الثقافة العربية بمقدار ما تعكس ماضيها وتحيله حاضراً في عقيدة الإنسان العربي وتجربته الأصلية؛ أعني تجربة الحضور السرمدي واكتشاف ما في اللحظة ذات الأبعاد الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل.  ولم يكن مجاز اللغة بالبعيد عند متناولنا من حيث كونه يدلُّ بالمباشرة لا على شاعرية اللغة العربية فحسب بل على لغة الخطاب الصوفي بالأساس؛ فكان أقرب ما يُفيدنا في بيان الدلالة المجازية في اللغة هو ما قام به المتصوفة من ضروب التفسير الإشاري للقرآن الكريم؛ كون لغة الخطاب هاهنا رمزيّة ومفتوحة يتبيَّن فيها أن المعنى غائر في أعماق التجربة؛ وأنه كلما اتّسعت الرُّؤية الشهودية ضاقت العبارة اللفظية.

بيد أن هنالك مضامين فكرية فلسفية لبعض الألفاظ المستعملة أثرنا أن نشير إليها إشارة سريعة على حَسَب ما قال الفارابي إنه يوجد من الألفاظ ما يستعمله أهل صناعة على معنى ما، ويستعمله أهل صناعة أخرى على معنى مختلف.

باعثنا إلى هذه القراءة نوجزه في نقطتين : النقطة الأولى: هى مدى ما نُلاحظه من انحطاط اللغة في العصر الحديث, إهمالاً للذوق السليم وافتقاراً للتربية الشعورية والوجدانية، تعكس فقر الفكر الديني بامتياز، حين تسيطر عليها لغة الظاهر المشحونة بالأعراف والمصطلحات، يستبد فيها بالمتلقي مثل ذلك الجري اللاهث الكسيح وراء الاصطلاحات المقيدة بمقولاتها العقلية في عزلة غريبة عن الشعور بالكلمة، والإحساس برقابة آثرها في الأعماق الباطنة، وعزلها بالجملة عن تجربة السامع والقارئ والكاتب سواء.

أمّا النقطة الثانية؛ فهى نتيجة للأولى مباشرةً تَلْزَم عنها ضرورة؛ فتجيء لتلاحظ معها شيوع "لغة التّمَزق" وانتشارها على جميع المستويات وشتى الممارسات لتكون هى هى اللغة السائدة: التمزق النفسي والاجتماعي والأخلاقي والقِيَمي؛ هذا فضلاً عن التمزق السياسي الذي يشهده عالمنا العربي في الآونة الأخيرة؛ إذْ كشفت "لغة التّمزق" عن توحش ينطوي على العُنف الدامي والإرهاب الكريه؛ تجليةً من الوهلة الأولى لشلل الحيوية الروحيّة إنْ على المستوى الفردي وإنْ على مستوى المجموع.

فإذا كان من المؤكد أن عناصر اللُّغة لا تقوم ناهضة فاعلة إلا على الوجدان والعاطفة، والفكر والرأي، والبيئة والمجتمع، والمدلولات والدَّوال؛ وأن التفكير كما كان أفلاطون يقول إنْ هو إلا كلامٌ نفسي؛ فمن المؤكد كذلك أنَّ الإبداع الفكري والأدبي يستند في الأساس على قوة الشعور وَدَفْقَةِ الوجدان، وأن السلام النفسي لمجتمعاتنا العربية المعاصرة لا يتحقق أبداً بلغة العنف والإرهاب. ومن هاهنا تأتي أهمية هذه القراءة في إطار فهم اللغة الصوفيّة خَاصَّة، وفهم معطياتها في استنباط الإشارة من العبارة عَسَانا نَقْتَرِب؛ من الوجهة الإدراكية الذوقية تحديداً، من كيفية فتح اللفظ اعتماداً على قوة الشعور فيما يتَّصل بأذواق أهل الإشارات؛ إذْ كانت هذه الأذواق مُعِينَةً لهم على فهم تلقي المعنى بمطلق الإشارة واستخراج معانٍ ودلالات للألفاظ والاصطلاحات الصوفيّة من طريق الإشارة المرموزة : استخراجها بمعنى مختلف تماماً عَمَّا تُوحي به الدلالة المباشرة للَّفظ, وأظهرها وأخَصَّها, كما قلنا فيما تقدّم؛ هو التفسير الإشاري للقرآن الكريم يقوم على ركيزتين أساسيتين: "الإيحاء" و"الاستنباط".

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم