صحيفة المثقف

ما بين السطور (3)

مجدي ابراهيمإزاء التأكيد من جانبنا على أن لألفاظِ اللغة ميتافيزيقاها، توقفنا في المقال السابق عند قول ابن خلدون: " إنّ أوضاع اللغة إنّما هي للمعاني المتعارفة"؛ حتى إذا لم نجد لفظاً نودعه معنى يحمله الوجدان الغائر الثائر على الدوام، فماذا عساه يكون الحال؟

هنالك يفعل المجاز لدينا فعله، فنروح فنستعير اللفظ من دلالته الحقيقة إلى دلالته المجازية: من التصريح إلى التلميح، ومن المباشرة إلى ما هو خفيّ مبطون، من مستوى الواقع المُقرّر المفهوم القريب إلى مستوى الدلالة الغائية البعيدة. من أجل ذلك؛ ساد بيننا التعبير الشائع بضرورة قراء "ما بين السطور"، فماذا تعني كلمة قراء "ما بين السطور" هذه؟

تعني أن هناك كلاماً غائباً نستوحيه من الكلام المكتوب بالفعل، فالكلام القائم في الواقع يرمز بألفاظه إلى دلالة غائبة هى المُراد بقولنا "قراءة ما بين السطور"؛ فإذا نحن تدبَّرنا الكلام الغائب (المعنى الخفيّ المبْطون) ذي الدلالة الرمزيّة كُنَّا كمن يكتشف الغاية الرامية من القول القائم بالفعل؛ فتكون قراءتنا، من ثمَّ، في هذه الحالة قراءة مثمرة هادفة ومنتجة، هى "الحالة الوجدانيّة" التي نستعير فيها اللفظ استعارة أقرب ما تكون في التصوِّر إلى الخِلْسَة المستترة، للتعبير عنها (أي عن الحالة) بلفظ يُقرِّب معناها، وييسِّر ولو بشيء ضئيل ممَّا يُراد من وراء اللفظ من مفهوم أردناه وتمثلناه هو بلا شك من قبيل الأذواق والمواجيد العارضة دوماً في طريق الوجدان، وحينئذ يصبح للألفاظ ميتافيزيقاها.

وعليه؛ فيكون من حقنا عند ذلك أن نطلق على مثل هذا اللفظ المستعار كونه يُوحي بمعني لحالةٍ غائبة خفيّة باطنة، اصطلاح "الميتافيزيقا"، ويكون من حقنا كذلك أن نطلق على مثل هذه "الحالة" الكاشفة لكل ما هو مجهول من دلالات اسم "ميتافيزيقا الألفاظ المفتوحة". ومن البديهي أن عبقرية اللغة العربية جاءت لتؤكد هذا "المجاز" كيما يكون قانوناً من قوانينها.

وليس علم اللغة في هذا الإطار إلا علم الألفاظ الدالة عند كل أمة على قوانين تلك الألفاظ كما كان الفارابي يقول، وهو علم يعطي قوانين النطق الخارج، أي القول الخارج بالصوت، وهو الذي به تكون عبارة اللسان عمّا في الضمير.

بيد أن عبارة اللسان عن كل ما في الضمير هذه، ليست تجعل اللغة لفظا وكفى؛ بل تجعلها معنى مفتوحاً ودلالة بعيدة فوق الدلالة القريبة. فاللفظ ليس بالخاوي ولا هو بالمجرد عن المعنى، وإنمّا اللفظ مفتوح؛ لأن من خصائص اللغة العربية أنها مثالية عميقة صريحة تحسب حساب الفكرة والخاطر والمثال، وتضعها في مكان الصدارة والاعتبار، الأمر الذي يدل من الوهلة الأولى على أنها لغة مفتوحة، وأن ألفاظها تحمل الطابع الميتافزيقي: تحمل المعنى والمثال؛ ففلسفة اللغة العربية تحديداً - كما يذكر الدكتور عثمان أمين رحمه الله - إذا هى كانت تعني بالألفاظ، فذلك من أجل المعاني؛ أي لكي يقع القول من نفس السامع موقعاً يهيئ له الحالة النفسية التي تحفزه إلى العمل. ومن ذا الذي يستطيع بعد تدّبر وتفكير أن ينكر ما لإعجاز القرآن بألفاظه ومعانيه من قدرة على استنهاض العزائم، والسعي إلى بلوغ المطالب.

ولم يكن ابن جنيّ في "الخصائص" بالذي يغفل هذا الدور الميتافزيقي تؤدّيه اللغة فقال في باب الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني :" فإذا رأيتَ العرب قد اصلحوا ألفاظها وحسّنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا ترينَّ أن العناية إذْ ذاك إنما هى بالألفاظ بل هى عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه وتشريف؛ فالألفاظ خدم للمعاني، والمخدوم أشرف من الخادم؛ فإذا تحلى العرب ألفاظها وتدبجها وتشيها وتزخرفها؛ فعناية بالمعاني التي وراءها، وتوصّلاً بها إلى إدراك مطالبها" (أ . هـ).

وممَّا يؤكِّد لدينا أن للكلمات ميتافيزيقاها، ننظر مثلاً إلى فكرة كفكرة "الموت" في الثقافات الإنسانية فنتتبَّعها منذ فجر الضمير، فإذا أمامنا أفلاطون وقد وضع تعريفاً جوهرياً للفلسفة قال فيه :"إنها التأمل الدائم للموت".

لقد كان يقين الموت المحتوم ولا يزال هو الشاهد القاسي على أن كل شيء يمضي، وأن كل موجود على الأرض يفني ويزول. وتردَّدت أقوال الأدباء والمفكرين والفلاسفة التي تفوق الحصر عن أن "ساعة الميلاد هى ساعة الموت"، " وأن الطفل يولد شيخاً ناضجاً للموت" ولِمَا تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة أن يولد !

وقد عبَّر "هيجل" عن هذه الأفكار أفضل تعبير حيث قال:" إنّ وجود الأشياء المتناهية؛ من حيث هو كذلك، ينطوي على بذرة الفناء يوصفها وجودها في ذاته، فساعة ميلادها هى ساعة موتها".

إنَّا لننظر إلى يقين الموت المحتوم، فلا نجد بعد النظر والتتبُّع غير كونه موصولاً بشرايين الفكرة الإلهيّة؛ فإذا هو واقع مُحقق على جميع الأحياء لا شك فيه، لكننا لا نعلم متى يقع ولا أين يقع؟ فوجُودنا الميتافيزيقي في الحياة مرهون بواقعيته وتحقيقه، وعندما يقع نُغَادرُ هذه الحياة في غير رجعة؛ فلا تكون لدينا صورة حيّة باقية إلّا من خلال الكلمات، الأمر الذي أتعب العلماء في طلب العلم ونشره : الخلودُ من طريق الكلمة، والبحث في المقروء والمكتوب عمّا وراء السطور والقشور.

وفي الحق أن كل هاجس من هواجسنا وكل عمل من أعمالنا ينطوي على وجهة نظر أو "موقف" من المواقف الميتافيزيقيّة؛ كما يقول بعض الوجوديين: إنّك إذا وقفت على شاطئ البحر ورأيت شخصاً يوشك أن يغرق في الماء؛ فأخذت تنظر إليه دون أن تصنع شيئاً؛ فليس معنى هذا أنك وقفت منه موقفاً سلبياً فحسب، بل معناه الأعمق أنك "اخترت" موقفاً معيناً أو صمَّمْتَ على أن لا تكون في جانبه".

إنمَّا الكلمة حقيقةً تعبيرٌ مباشر أو غير مباشر عن الأرواح والقلوب من وراء الأجساد والألفاظ، وهى كذلك تجسيد لحياة باطنة يعيشها طلاب هذه الحياة وذووها. وقد لاقت الكلمة في المسيحية وفي غيرها من الأديان؛ من حيث كونها لغة ومعنى، جسداً وروحاً، صراعاً بين الحرف والروح، ووجِد لها أنصاراً وأتباعاً : كيركجارد، وسبينوزا، وأونامونو، والكاثوليكية المحافظة، وصوفية الإسلام: أنصار الروح والمعنى.

والجميع اعتبروا الكلمة تجربة حيَّة وواقعاً معاشاً، ورفعوا مرتبة الروح والمعنى على الجسد واللفظ، ومنهم من أعلى من شأن الكلمة - أونامونو مثلاً - من حيث كونها روحاً ومعنى، على الحرف من حيث كونه جسداً ولفظاً؛ لأن الروح القدس تُوحي بالمعنى. وتصرَّف الصوفية المسلمون فواجهوا الفقهاء بأن علومهم مأخوذة من ميت عن ميت، أمّا علوم الذوق والعرفان فمستمدة عن الحي الذي لا يموت. فالصوفي يقول أخذت علمي عن قلبي عن ربي؛ وهو يقصد بذلك أن تكون التجربة الحيّة هى الأفعل في الذوق والشعور، وهى هى الأصدق قيلاً من الألفاظ السطحية والعناوين الظاهرة.

وعليه؛ فنحن لا نتعامل في الواقع ولا في الخيال مع جثث ميِّتة ولكننا نتعامل مع رفات حي ناطق بالحياة، هى الأرواح تجسَّدت في حروف وكلمات؛ فمن وراء هاته الكلمات التي يكتبها إنسان كُتِبَ لـه الخلود من خلال الكلمة، يمكن أن نفهم أن للكلمات ميتافيزيقاها، وأن البعد الميتافيزيقي فيها أسمى وأقدر على المواجهة الخفيّة الباقيّة، وهو أفعل كذلك في استخلاص الدلالة واستنباط الإشارة والاستبصار بالمجهول، وأنها لخالدة بخلود معناها ومرماها، بخلود ذلك الانطباع الذي تركه صاحبها في أذهان القراء وخَلَجَاتِ المُفكِّرين، وذلك حيث أدرك أن قسطاس الحياة كُلُّهُ "كلمة" لكنها ليست عدماً يقود إلى عدم بل خالدة على مقدار الخلود الذي يتبدَّى في أطواء الحياة نفسها.

خلودها هو الوجود الذي لا يصاحبه عدم، وأنت تلاحظ أن الموت الذي يخشى منه الجميع يتبطَّنُ الحياة جميعها : أناسٌ تذهب بالموت وتأتي الحياةُ بدماء جديدة. أطوارٌ تتقلَّب بين وجود وعدم، وأجواءُ تعصف باستقرار الآمنين ثم لا تلبث أن تعُيدَ لهم حياة الأبد وجوداً أفضل ممَّا عَصَفَتْ به لديهم غوائل الفناء.

وهكذا يدور الوجود بين فناء وعدم يقابلهما دوام وبقاء : صيرورةُ من التغيير، وإبداع من الخلق والتبديل، وتحوُّل وتقلُّب في "الشأن" الجاري وفق قهر الخالق، يؤكد لنا أن دوام الوجود مستمدٌ من دوام الباقي الخالد دون الزائل الفاني، وأن أصدق شيء، وأفْعَل شيء، يمكن أن ينطبق على هذه القوانين الكونية الجليلة هو "الكلمة"، فبالكلمة يُسْتَدُّل على تلك القوانين الكونية، وبالكلمة يُخلق التعبيرُ عن "الكون" وقوانينه في لغة واضحة ولفظ مفيد .. فهل بعد ذلك يُقال لنا، من وجهة نظر الوضعية المنطقية، إنّ للألفاظ وجوداً واقعياً وكفى في غير أن يكون لها وجود ميتافيزيقي يهدف إلى الخلود سواء في الحياة والواقع أو في العدم والفناء؟! والإجابة .. لا .. وألف .. لا !

على إننا لا نستطرد في مثل هذا التحليل، قبولاً أو رفضاً، قبل أن ننتقل إلى عنصر آخر نبيِّن فيه، على أقل تقدير، ولو فيما نراه نحن، مدى انعكاس صورة الثقافة العربية، حاضرها وماضيها، من خلال الكلمة.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم