صحيفة المثقف

سُلطان الكلمة (4)

مجدي ابراهيمتعكس الكلمة صورة الثقافة العربية بكل ما تحمله هذه الثقافة من دلالة ظاهرة أو خَفيَّة على الأوضاع الفكرية والأفعال الحياتية سواء، ولها من ثمَّ سلطان يعلو ويرتفع في جميع العصور والأحقاب، ولن يهبط أبداً (ذلك السلطان) ما دامت هنالك أقلام تعرف على الحقيقة سلطان الكلمة: كيف ومتى يعلو ويرتفع ولا يهبط قط ولو هبطت من حوله الأوعية الفارغة والسلاطين الكاذبة. وللكلمة ممَّا لا شك فيه سحر علوي، ولها دويُّ في الآذان ووقع على القلوب واهتزاز في الشعور؛ وقبول كثير أو قليل في العقول لعلها هى هى الإنسان، هى هى الآدمي بكل الشحم منه واللحم. وكما أن الكلمة تعكس حاضر الثقافة العربية فهى من المؤكد كذلك تعكس ماضيها وتحيله حاضراً في عقيدة الإنسان العربي وتجربته الأصلية, أعني تجربة الحضور السرمدي واكتشاف ما في اللحظة ذات الأبعاد الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل: " كان الشعرُ هو الثمرة التي ازدهرت على شجرة الماضي المقدس، وكانت الكلمة هى ابنته المقدسة. وهل كان في مقدور الروح أن تبدع ما أبدعت من روائع القصيد لو لم يكن للماضي وجودٌ أقوى من كل وجود؟

ألم يكن الشاعر القديم، في أدبنا وأدب غيرنا، يفتخر بقدرته على أن يمنح بغنائه الخلود لمن يشاء، وينزل اللعنة الأبدية على من يشاء؟ أكان من قبيل الصدفة أن تعتز القبيلة العربية بشاعرها الذي يشيد بأمجادها، وأن يرفع الرومان من شأن شاعرهم الذي يصفونه باسم " (الفاتس vates) أي (الرائي أو المُلهم والعرَّاف).

ليس من شك؛ في أن وجود الماضي ليَسْطَعُ نوراً سرمدياً يظهر من خلال الكلمة ويتمخَّض عنها. على أن الكلمة التي تضمَّنت فكرة لهى هى الكلمة التي يُراد لها أن تكون مثالاً للإصلاح الفكري والثقافي والروحي؛ لأنها في ذاتها تمثل وعياً داخلياً نورانياً، إذ فيها الإيمان؛ والإيمان نور، وفيها التعبير عن الإيمان. وفيها التثقيف؛ والتثقيف وعي وهداية وتفكير؛ وفيها التعبير عن التثقيف. وفيها من قبل هذا، الإدراك؛ والإدراك حركة عقلية عالية موصولة بأسرار النفس البشرية في أرفع ما تستجيب له من مطالب العقل ومطالب الوجدان؛ وفيها التعبير عن الإدراك. وفيها من بعدٌ كل مناشط الحياة الفكرية والشعورية مجتمعة بغير تخصيص. ولكن هذه الكلمة التي لها وفيها كل المزايا على الحياة الفكرية والثقافية تصبح خطراً فادحاً على ثقافتنا العربية إذا هى صارت لغو كلام وفضول بطالة، وإذا هى كانت ثرثرة فارغة من الدلالة العملية والسلوكية، وإذا هى لم تتحول بالفعل إلى "فكرة" مستنيرة واعية، وإذا لم تكن "الفكرة" عبرها قابلة للتطبيق العملي والممارسة النافعة لحياة الناس.

ولا نعدو من أجل ذلك مناشدة الصواب إذا نحن قلنا من هذه الجهة إن ثقافتنا العربية هى "ثقافة الكلمة"، بمعنى أن منتجاتنا الثقافية تعتمد في الأساس على الكلمة: مضمون الفكر عندنا كلمات، ومضمون الثقافة كلمات، ومضمون الفنون كلمات، ومضمون العلوم في بلادنا كلمات. حَصَادُ الأفكار هو في المقام الأول حصاد كلمات، وحصاد الفنون والعلوم إنما هو حصاد كلمات ليس إلا، حتى أولئك الذين يدافعون عن العلوم وَيَتَبَنُّون النزوع التجريبي عندنا هم يفعلون ذلك وحصيلتهم الثقافية كلمات في كلمات. لقد كان الأحرى بهم أن يجوبُوا الصحاري والجبال بحثاً عن كنوز الأرض التي تفيد الناس وتنتفع بها حياة الجماعة البشرية لا أن يجلسوا في مكاتبهم وكل ما يملكونه كلمات من وراء كلمات.

وإنّ الفرق لأوضح من أن يحتاج إلى بيان، بين "ثقافة الكلمة" و"ثقافة الفكرة"، أو بين ميدان "الكلمات" وميدان "الأفكار"؛ فالكلمات في ذاتها تجيء عادة بغير دلالة، كما تجيء مُجرَّدة بغير فاعليّة ما لم تحمل في جوفها معنى ومصداقية، وعادة ما تضرب في واد غير ذي زرع؛ فتجيء:" ألسنة دون بيان وأصواتاً دون كلام, وتخليطاً يجمع الأضداد, وحيرة تقطع الأكباد"؛ لأنها في البداية والنهاية، إذا هى كانت هكذا، صارت أصواتاً لا حركة فيها ولا نشاطاً ولا حياة: خواء في هواء. وفي أحوالنا هذه المتأزمة ينبغي أن تتراجع "ثقافة الكلمة"؛ لترتفع مع هذه الأزمات " ثقافة الفكرة "، الدالة على معنى وعلى مدلول وعلى قيمة، والحاصلة في ذاتها على فعل وحركة وإرادة ونشاط؛ بل وحياة بالإضافة إلى هذا كله، ومع ذلك كله.

فثقافة الفكرة ادعى إلى التطبيق في واقعنا العربي وأولى، ونحن في مسيس الحاجة إليها إذا أردنا أن تكون عندنا ثقافة أصيلة للذات العربية، ونكون من ثمَّ قادرين على التفرقة الحاسمة بين كلام له مدلول (نهضوي)؛ بمعنى أنه يساعد على النهضة والتقدم والمحافظة على الهُويَّة، ويقيم الدليل على الشروع في النهضة وفي التقدم وفي جوانب الحضارة على وجه العموم، وبين كلام آخر نقيض، ولقيط، مخلوط هو أقرب إلى اللغو والفضول وتزجية الفراغ العاطل.

فإنّ الثقافة التي يكون مجملها كلمات تخلو في كثير من الأحيان من دلالة الفكرة المحددة والرأي الصالح للتطبيق والتهذيب لهى ضربُ من لغو الكلام ولا تزيد. والفرقٌ كبيرٌ جداً بين كلمات ذات "مضامين" إذا ما فَضَضَتَ المضمون فيها ظهرت لك من فورها الأفكار التي تكوَّن منها ذلك المضمون، وعلى الوضوح الساطع والجلاء البصير، وكلمات أٌخَر ليس لها من المضمون الذي يحمل من الأفكار شيء يعتدُ به ويعتز. غير أن هذه المضامين حاملات الأفكار لا تظهر لك إلا حين تستخدم كلمات تناظر الفكرة في حركة الذهن، وبنفس المستوى تقابلها وتدل عليها لفظاً ومعنى، بسبب أن الكلمة هنا تصبح هى هى الفكرة، تحتويها وتوضِّحها وتجليها, ولا تعوِّقها ولا تغيِّمها ولا تضيعها كما يضيع الوضوح في ظلمة المط الطويل.

وإذا نحن تساءلنا عن العلة التي من أجلها وضعت الكلمات في مساقاتها التاريخية؛ لتكون تعبيراً عن تجربة الحضور السرمدي واكتشاف ما في اللحظة الثلاثية الأبعاد: الماضي والحاضر والمستقبل؛ نجد بعد التأمل أن ضرورة الحاجة الشديدة التي فرضتها "الكلمة" على واقع الإنسان وظروفه وملابساته تقتضي الدلالة الميتافيزيقية؛ ففي حين تتخطى الكلمات حدود "الفعل" ودلالة التغيير، والفعل حركة والتغيير ثورة جذرية من الباطن، فهى تتجاوز الواقع وتعلو عليه لتغيِّره؛ فكما أن التغيير ثورة على الظروف المُرْتهنة بملابسات قائمة بالفعل فكذلك تكون الكلمة كاشفة لتلك اللحظة الواعية؛ هى في ذاتها وعياً مطموراً قد لا يظهر على السطح من الوهلة الأولى، وأن الكلمة لتنقلب هاهنا وعياً مفتوحاً تعبِّر عن رؤية الروح النافذة من وراء الأسطح البرَّانيَّة:"إنما الواقع يشهد بأن الإنسان ليقضي حياته في الماضي أو في المستقبل، وأن تجربة "الآن" من التجارب النادرة في حياته. حتى إذا ما أراد أن يجرِّب الحضور الحق في اللحظة فلابد أن تنبِّهَهُ الأشياء وتوقظه بقوة، ولابد أن يمتلك القدرة على رؤية الأعماق الكامنة وراء السطح والكشف عن الأقنعة التي خلقتها العادة. هنالك يكشف الواقع عن وجهه الملكي أو وجهه الإلهي. ولهذا لن يُدْهِشُنَا أن نجد المتصوفة من أصحاب الرؤية في الشرق والغرب على مر العصور هم أول من يحدثنا عن تجربة "الحضور الكامل" أو عن اللحظة الخالدة أو تجربة "الآن" الخارج عن الزمان".

وعندي أن لباب هذه التجربة كلمة ! إذْ كانت الكلمة وعياً أو تعبيراً عن الوعي بوجه من الوجوه، فكما أن الطريق إلى الفعل هو هو الطريق إلى الكلمة، فيما لو كانت الكلمة في هذه الحالة فكرة هادفة ووعياً مسيطراً، فكذلك تكون تجربة اللحظة الحاضرة كلمةً واعيةً أو تجيء تعبيراً عن الوعي المُعَبِّر عن تجربة الحضور الكامل، وليست هى بلغو كلام لا طائل من ورائه.

ومعنى أن تجئ الكلمة لدينا فكرةً هادفةً صادرة عن وعي كبير؛ هو نفس المعنى الذي تجيء فيه حاملة قوتها في ذاتها، وحاملة قوتها في نفس الوقت في فعلها، وفي نزوعها دائماً إلى الفعل، أي في تجربة صاحبها الحاضرة، وفيما تُوحي به من دلالة مُغيِّرة لهذا الواقع يعيشه الأحياء؛ فيسعدون بما يعيشون ويغيرون.

ما فائدة الكلمات إذا لم تكن تحمل أفكاراً نتمسك بها، ونتعلق بقوتها وفاعليتها وحضورها كل التعلق ونحن بسبيل التغيير؟

ما فائدة الكلمات إذا لم تحرك فينا الركود وتثوِّر لدينا الضمائر وتهز عندنا الشعور بما عَسَاهُ ينبغي أن يكون وفقاً لمطالب الاعتقاد؟

الكلمات حاملات الأفكار هى هى الكلمات حاملات القيم. ولا فرق عندي بين الكلمة التي تحمل "فكرة" والكلمة التي تحمل "قيمة"، إذا نحن علقنا الدلالة هاهنا على أحادية الرؤية والتصور؛ فنحن نستمد الكلمات حاملات القيم من رؤية مُوَحَّدَة تُلْزمنا أن تكون لهذه القيم فاعليتها وحضورها على أرض الواقع ودنيا الممارسة والتطبيق. ولربما تهبط علينا تلك القيم من أعلى لتكون بمثابة مبادئ علوية لا يتزعزع الإيمان بها مطلقاً، ولكنها تسهم بالأثر الفعال في تشكيل حقائق الوجود الإنساني الذي لا ينفصل وجوده عن الإيمان بمنظومة القيم التي ينشدها وَيتغيَّاها.

إنما الكلمة التي تحمل فكرة تدل على حيوية العقل وسعة التفكير واقتدار الخَلْقِ في حدود القدرات الإنسانية؛ فكل إبداع يتوخَّاه القادرون على الإبداع هو كلمات ذات أفكار دلالتها على الإنسان الفرد أقوى من دلالتها على أية قوة خارجة عنه، فهو من ثمَّ قادرٌ على التغيير بمقتضي الكلمة المفكرة، وقادرٌ كذلك على اكتساء الكلمات حاملات "القيم" وتغذيتها من نفس المصدر الذي انبثقت عنه هذه القيم العلوية تدعِّم فكرة التغيير الذي ينشد.

ولسنا نريد بالطبع أن نصف ثقافتنا العربية كلها هنا بأنها "ثقافة الكلمة" التي تخلو أو تكاد من " ثقافة الفكرة"؛ فهذا الوصف يبدو محض افتراء ! صحيح أن المعوَّل كله على الفكرة؛ لأنها الأساس في العلم المطلوب للعلم، والعلم المطلوب للمنفعة والتطبيق، ولكننا هنا أيضاً نحدِّد القول تحديداً فاصلاً إذا قلنا إن "الكلمة" قد تختلف باختلاف قائلها ومتلقيها: أيُّهما أصابت منه موضعاً حسّاساً فوجهت طرائق سيره وجهة التنفيذ أو وجهة التصرف المقبول، يُحْسن إذا حسُن فهمه لها ولدلالتها ولقوتها الروحية ولآثارها في الضمير الواعي، ويسوء إذا ساء الفهم لكل هذا أو ساء معه التلقي، أو غلبت على يفهم ويحسن الفهم، غلبت عليه أهواؤه ونزواته ومطامعه الخاصة والشخصية، فلم يتصرّف كما ينبغي أن يكون التصرف فعلاً مقبولاً ومحمولاً على الجهاد الأبي والإرادة القوية لا على حكم الهوى وطغيان الصَّبَوات.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم