صحيفة المثقف

لغةُ التمزُّق (5)

مجدي ابراهيمبالخُلوصِ إلى جوهر الفكرة التي كنا بصددها في المقال السابق، يتعزّز الرأي لدينا في مدى انعكاس الكلمة على ثقافتنا العربية بحيث يمكننا القول إنه لمَّا فقدت الكلمات سلطانها شعرت "الذات العربية" بالغربة عن عالم مرهون في تبعاته بإصلاح القول والفكر والضمير قبل إصلاح الواقع وترقيع المادة وامتلاك الأداة؛ فمثل هذا الشعور اللعين بالغربة والاغتراب سببُه المباشر فقدان الكلمات سلطانها، وتردي اللغة في ضمائر أصحابها لتجيء حاملة من التلف والخراب والنكوص مقدار ما تحمل تلك الضمائر، تلك هى "لغة التمزق" التي أشرنا إليها في المقال الأول.

ومعنى أن تكون الكلمات مفقودة السلطان هو نفس المعنى الذي تجيء فيه الألفاظ مُغَيَّبَة عن الدلالة، شارعةً في الهبوط والنكوص والتردي، مجهولة الهُويَّة الفكرية ومصادر الثقة "بالمعنى" قبل "الحَرْف"، وهو نفس الأمر الذي يصم الثقافة العربية بوصمة العار والشنار : وصمة العنف والإرهاب؛ أعني وصمة الفُرقة والتشتت والافتقار الدائم إلى التوحيد، وإلى ما عَسَاهُ يصدر عن التوحيد من رؤية مُوحّدة. وهذه الوصمة المُعيبة وهذا الافتقار الدائم مردَّهما أغلب الظن إلى "شعور الذات العربية" بعد التشتت والتفرُّق حتى لا تكاد تهتدي إلى سبيل طالما تشعبت أمامها السبل وتفرَّقت؛ شعورها بالاغتراب عن عالمها، يمزقها مثل هذا الشعور إرباً إرباً، ويفتت بواطنها الداخلية التي من شأنها أن تحفزها أن تنهض من كل كبوة تكبوها، وهى مع هذا التمزق؛ تشعر شعوراً ممتعضاً بالاغتراب عن وجودها وهويتها وموطنها، وما ينبغي أن توجد فيه وتستوطن، وما لا ينبغي أن تكترث له أو تمتنع عن الاكتراث.

لغة التّمَزُّق من أسفٍ هى السائدة في بلادنا ! وشعور الذات العربية بالاغتراب هو من جنس شعورها بالفقدان، وشعور الفقدان صادرُ عن حالة قلق تعانيها "الذات العربية" حين تصطرع داخلها الرغبات؛ فلا هى اتجهت بكل قواها نحو المستقبل ولا هى أنجزت من المطامح ما يمكنها من معايشة الواقع كما يعيشه المتقدمون في مجتمعاتهم المتقدمة.

قلقٌ الذات هو قلق يتأرجح بين فرائض الواقع والمستقبل المأمول. وبين ضرورات الواقع وآمال المستقبل تقع هُوَّة سحيقة قلقة تهز شاعرية المثقف العربي، فلا هو إلى ضرورة الواقع وفرائضه ينتسب، ولا هو إلى آمال المستقبل على استعداد للإسهام في تحقيقها أو تحقيق بعض منها كيفما أتفق.

وعليه؛ فشعوره من ثمَّ بالتوتر الدائم إزاء الواقع وملابساته وظروفه أو شعوره بنفس هذا التوتر إزاء المستقبل هو من جنس شعوره بالاغتراب الذي هو شعور في المقام الأول بالفقدان : فقدان الهُوية، وفقدان الخاصّة الذاتية في مكونها الأيديولوجي، وفقدان القيم التي هى بمثابة "الثوابت".

ومن المؤكد أن الواقع العربي الحالي لا تسود فيه القيم الثوابت بحال بل إن قراءة هذا الواقع الراهن تطلعنا بتجاوز هذه القيم وتبديلها بقيم أخرى مستهلكة تتفق مع ما يعانيه واقع المجتمعات العربية من شعور بالفقدان أو شعور بالاغتراب، أحدهما أو كلاهما سواء. والأصل في ذلك كله، كما ترى، يرتد عندنا إلى فقدان الكلمات سلطانها، والتقليل من دور الكلمة في حياتنا الفكرية والثقافية أو في حياتنا الشعورية، وتسطيح فاعليتها التي تعكس صورة الثقافة وقيمها إنْ في مدارجها العليا وإنْ في حياة الأمم والشعوب اليومية، وسواء في حاضر هذه الثقافة أو في ماضيها، حتى أضحي المتحذلقون منا يتندرون منها ساخرين وبمن يتمسك بشرفها ولو فقهوا لعلموا أنها اللحن الخالد، وأنها السلطان الذي لا يعلو عليه سلطان متى استقامت قيم الحياة واعتدلت موازينها في غير عوج وانصلح ترتيبها في غير انحراف.

ويجدرُ بنا في هذا المقام : مقام سلطان اللفظ الحي الفاعل أن نتذكر كلمات الراحل عبد الرحمن الشرقاوي في مسرحيته الرائعة "الحسين ثائراً"؛ لنقف وقفة نستمع فيها إلى نغمة علويّة تتغنى "بسلطان الكلمة"؛ وبأخلاقها وقِيمَها وفاعليتها، وبشرفها خاصَّة، لتعزف على أوتارها لحناً نديّاً من ألحان الخلود.

أي نعم! قسطاس الحياة الحية كُلَّه كلمة.

" ما دينُ المـرء سوى كلمة

ما شرفُ الرجُلِ سوى كلمة

ما شـرفُ الله سـوى كلمة

أتعـرفُ ما معنى الكلمة؟!

مفتـاحُ الجنَّة في كلمـة

دخـولُ النَّارِ على كلمة

وقضـاءُ الله هو الكلمة

الكلمـةُ لو تَعْرف حُرمـة

زادٌ مَذْخور

الكَلِمَةُ نورٌ

وبعض الكلماتِ قبـور

بعض الكلمات قلاعٌ شامخةٌ يعْتصمُ بها النبُّل البشري

الكلمةُ فُرْقانُ بين نبيِّ وبغيِّ

بالكلمة تنكشف الغُمَّة

الكلمة نور, ودليلٌ تتبَعُه الأمَّة.

عيسى ما كان سوى كلمة؛ أضاء الدنيا بالكلمات وعلَّمها للصَّيَّادين؛ فساروا يهدون العالم!

الكلمةُ زَلْزَلَتْ الظالم

الكلمةُ حِصْنُ الحرية

إنَّ الكلمة مسئولية

إنَّ الرجل هو الكلمة

شرفُ الرجل هو الكلمة

شرفُ الله هـو الكلمة".

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم