صحيفة المثقف

المجاز وشاعرية اللغة العربية (6)

مجدي ابراهيملا بدّ للعبارة التي تحتوي على جملة تتكوَّن من مجموعة الألفاظ المشيرة إلى دلالات حسية، أن تؤدي فوق ما تشير إليه من محسوس غرضاً مفتوحاً يصعد على الواقع ويرتفع عنه كلما صعدنا مع اللفظ إلى ما ورائه. وليس يكفي أن تجيء إشارته إلى ما هو موجود في عالم الواقع ومتلبِّس بحقائقه المشخّصة تلبُّساً لا يزحزحه عنها قيد أنملة، بل من المحقق أن تجيء إشارته مرهونة بفعالية الكيان الإنساني، وبَمَجْلاه الكلامي، كيما يكون لفْظُهُ امتداداً وجودياً لهذا الكيان : روحاً وجسداً، معنى ولفظاً؛ لأن اللفظ المفتوح هو عينه اللفظ الذي يؤدي غَرَضَاً وجودياً فعَّالاً، ولا يقتصر نشاطه الفاعل على معناه القريب يشير إلى غاية دلالية موجودة في عالم الحسّ.

ومعنى فتح اللفظ هو تلمُّس ما وراءه من أنشطة فعَّالة هى التي يلتف حولها وجود الإنسان "الروحاني"؛ فإنّ هذا النشاط الروحي الفَعَّال لا يصدر عن الإنسان وهو مُقَيد بأوْهَاقه المادية، يعترك عوالم الحركة والإحساس بالمباشرة بل لابد وأنْ تسبقه قوة داخلية (يقظة روحية) هى بمثابة "الحافز الباطني" يجعله يندفع نحو "الفاعلية"، ومن ثمَّ يُقيمُ نشاطه الفاعل على نحو ما يتعامل به مع واقعه، تعاملاً يكون دليلاً على أن الخطاب الموجَّه إليه (والصادر عنه سواء) مبثوثٌ في أول مقام بثاً مباشراً في قواه الداخلية؛ لتكون حافزه للنشاط الفعَّال أو الفاعلية النشطة، يتحرك خلالها فتعمُّ حركته مناحي الحياة الحيّة في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل.

وَلعَلَّ الإشارة إلى "الحافز الباطني" الذي يرتد إليه نشاط الإنسان "الرُّوحاني" تعني النظر إلى ما لنصيب الوجدان والفكر في حياة اللغة؛ فإذا كان للمجتمع وللبيئة نصيبٌ في هذه الحياة من حيث كون اللغة اتّصالاً مع الآخرين وكانت تلك وظيفتها، إنْ في النشأة، وإنْ في التطور؛ فإن للوجدان والعواطف والأفكار والآراء نصيباً ملحوظاً في طبيعة اللغة كذلك. صحيحٌ أن الباحثين اختلفوا حول هذه الطبيعة اللغوية؛ أهى ترتد إلى ظاهرة نفسية خالصة، كما ذهب فريق بالأخذ بهذا القول، أم هى مجرَّد ظاهرة اجتماعية كما أخذ بهذا فريق آخر؟ ولكن من المؤكد أنها : "تعبيرٌ عن انفعالات ووجدانات وأفكار بواسطة دوالُّ وأصوات أقرّها المجتمع وأخذ بها؛ فكم ألهمت العواطف والوجدانات كبار الكتاب والشعراء صوراً ساحرة وتشبيهات بديعة وأخيلة فاتنة؛ إذْ لولا فيض الشعور بحركة الانفعال ما كان هنالك إبداع، وعلى الشعور يستند الفكر عندنا، لا العكس. ربَّما ينتهي التفكير دائماً إلى لغة، هذا صحيح، بل لا سبيل إلى المنطقي والسامي منه بدونها، لكن التفكير نفسه يستند إلى فورة الشعور ودفقة الوجدان، ولا يستند الشعور على الفكر أبداً، وقديماً قال أفلاطون :" إنّ التفكير كلامٌ  نفسيِّ "، وهو ما عبَّر الشاعر العربي بقوله :

إنَّ الكَلامَ لَفي الفُؤَاد وإنَّمَا        جُعِلَ اللّسَانُ على الفُؤادِ دَلَيلاً

كل ما هو في الباطن من حوافز شعورية، هو بمثابة الأصل الأصيل تقوم عليه عناصر اللغة كما يقول الدكتور إبراهيم مدكور، رحمه الله، في "اللغة والأدب" :" وجدان وعاطفة، وفكر ورأي، وبيئة ومجتمع، ومدلولات ودوال".

قد تجيءُ مفردات اللغة رامية إلى دلالات حسيّة ومعان مجسَّدة، فإذا لم تكن لها من قوة رامزة إلى ما بعدها ترمز بها إلى غايات أعلى وأبعد من الواقع وأعمق أثراً من تجسيد الحسِّ على ما هو عليه، فلا أقلَّ من كونها تموت وتفنى بفناء ما ترمي إليه من وقائع وأحداث.

إنّما للفظة العربية شاعريتها، ومعنى كلمة "شاعريتها" أنَّ  لها ما وراءها المفتوح، به تتخطى الواقع وتتجاوز مفاهيمه ومراسيمه إنْ كانت لـه مفاهيم ثابتة ومراسيم دائمة بثبوت ودوام "الماهيات" التي لا تبلي بلاء ما يحدث في عالم الحس والتجربة: تتجاوز الواقع؛ لتتصل بالمعنى المجرَّد من وراء اللفظ، وهى مع كل "مجاز" للظاهر المحسوس تأتي مشحونة بالمعنى والدلالة، وبالكشف عن خبايا الشعور وبالتعبير عن أعمق حالات الوجدان، هذا إذا نحن شئنا للفظ أن ينفتح للتلقي والإرسال سواء؛ فليس قصاراه، كما تقدَّم، أن يشير إلى الحسِّ وكفى؛ ولكنه فوق ما يشير إليه من محسوس يرمي كذلك إلى غايات بعيدة غير محسوسة تتعدَّد فيها المعاني وتتنوع بمقدار ما في الشعور من رَهَافة وتذوق، وبمقدار ما في الطاقة الباطنة من تصوِّر وَخَيَال.

وعليه؛ فمن خطأ الرأي عندنا أن يُقال :"إن اللفظ مرتبط بالمعنى، والمعنى مرتبط بالشيء الذي يشير إليه كما يدل المعنى الاشتقاقي"؛ بحجة قصر اللفظ، لا فتحه ! على المعنى الاشتقاقي المشار إليه وكفي. وقد خطَّأ البلاغيون القدماء هذا الرأي؛ ومنهم عبد القاهر في "الدلائل" وتابعه الفخر الرازي في "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز"، واعتبروا فصاحة الكلام لا ترجع إلى اللفظ وإنما ترجع إلى المعنى، وأن دلالة الكناية والمجاز والاستعارة دلالة عقلية معنوية وليست هى بالدلالة الشيئية الحسية؛ وأنه لا يجوز عَوْدُ الفصاحة والبلاغة إلى الدلالة اللفظية. وإذا كانت المدلولات خاضعة لقوة الشعور بكل ما في الشعور من إحساس وعواطف وأفكار، وكانت (أي المدلولات) هى هى المعاني تستند على وجدان الشعور، صار لابد لها من "دوالِّ" تبرزها وتعبِّر عنها، ومن ثمَّ وجب التلازم الضروري بين الدالِّ والمدلول.

غير أنه مع هذا التلازم المشروع بل والضروري تجيءُ الألفاظ في الأصل صوراً ضئيلة جداً للمعاني. والمعاني إنْ هى إلاّ صور ضئيلة جداً للحقائق، والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك ولا يُحاط بعظمتها كل الإحاطة؛ كالألم، على لذْغِه، لم يكن صورة كاملة للداء؛ وكالدمع، على حرارته، لم يكن صورة مقارنة لما في الأحشاء من تقلب وهياج.

ومن هنا، كان مجاز اللغة الشاعرة هو وحده المُعِين على تحليق العربي لإصابة الحقيقة بسليقته اللغوية والتعبير عنها، اتصالاً أو انفصالاً، بالمعاني الرمزية والمجازية. والمجاز كما يُعرِّفه عبد القاهر الجرجاني دلائل الإعجاز بأنه:" كل كلمة أرُيد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول، وإنْ شئت قلت : كل كلمة جُزْتَ بها ما وقعت له في  وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعاً لملاحظة بين ما تُجُوِّز بها إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها". وإنما يريد بالملاحظة العلاقة المنعقدة بين الكلمة في أصل معناها وما نقلت إليه كالشجاعة في الأسد.

وهناك أمثلة كثيرة على المجاز وأنواعه ضمَّنَها البلاغيون كتبهم، مثلما ذهب "الشوكاني" في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، وكلهم في الغالب يقتبسون من عبد القاهر تعريفه للحقيقة والمجاز؛ كما يستلهمون منه كثيراً من أمثلته، فقد ذهب الرازي في "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز" مثلما ذهب عبد القاهر، وتحدث عن المجاز في الإثبات أو في الإسناد، وهو المجاز العقلي في مثل "أنْبَتَ الربيع البقل" والمُنبت الحقيقي هو الله جَلَّ جلاله. وذهب عبد القاهر إلى أن صيغة هذا المجاز قد يأتي الفاعل الحقيقي معها في وضوح كما في المثال السابق وتجري على شاكلته الآية الكريمة :"فما ربحت تجارتهم"، فإن تقديرها فما ربحوا في تجارتهم، وقد لا تأتي معها ألبتة.

ومرَّدُ هذا كلُّه عندنا إلى التذوق والخيال، وإلى شاعرية اللفظ والمعنى على السواء. وسليقة اللغة، فيما يرى العقاد، في "اللغة الشاعرة":" هى التي تجعل السامع العربي يفهم المعنى المقصود على الأثر إذا سمع واصفاً يصف حسناء بأنها : "بدرُ على غصن فوق كثيب". ولما كان ذهن السامع العربي تعوَّد النفاذ من الصور الحسِّية إلى دلالتها النفسية؛ فإنه لا يرسم في ذهنه قمراً وغصن شجرة وكومة من الرمل حين يستمع لتلك العبارة، لكنه يفهم من البدر إشراق الوجه، ومن الغُصن نضرة الشباب ولين الأعطاف، ومن الكثيب فرَاهة الجسم ودلالته على الصحة وتناسب الأعضاء".

اللغة العربية لغة المجاز ما في ذلك شك، كما قال ابن جنيِّ (ت392هـ) صاحب الخصائص: "أكثرُ اللغة مجاز"؛ وذلك لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة إلى حدود المعاني المجرَّدة، وهى عندنا (أي المعاني المُجرَّدة) ليس لها حدود لو علّقناها على قوة الشعور ووفرة الباطن بفاعلية النشاط الروحي، وهذه المجاوزة أو "التجاوز"، أو التعدي إلى ما وراء، هو ما نعنيه نحن بــ " ميتافيزيقا الألفاظ المفتوحة"؛ على بساطة الرؤية والتصوَّر والإدراك.

فلا تكفي "اللفظة" لدينا أن تشير إلى واقع حسيِّ مرئيِّ محدود، حتى ولو كان الناس جميعاً قد تواضعوا عليه. ولكن على الرغم من إشارتها إلى واقع بعينه تجدنا مع فتح اللفظ ومع إيحاءاته، نفهم منه مدلولات لم نكن قد فهمناها من قبل عند اقتصار النظر على الدلالة الحسية ولا عند اقتصاره على فهم الذين تواطئوا عليه؛ لأننا إذْ ذاك كُنَّا انتقلنا مع اللفظ من موجود إلى مجهول، ومن صورة إلى معنى، ومن فيزيقا إلى ميتافيزيقا، ومن شهادة إلى غيب، ومن مرئي إلى لا مرئي، ومن دلالة ظاهرة إلى دلالة مبطونة، وممَّا هو معلوم لدينا بالضرورة إلى ما لم نكن نعلمه ممَّا لم يخطر لنا على بال.

 

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم