صحيفة المثقف

افتراق دلالة الإشارة الباطنة عن ظاهرها اللفظي

مجدي ابراهيم(10) لننتقل إلى مثال يُوَضِّح افتراق دلالة الظاهر عن دلالة الباطن في لغة الخطاب الصوفي، وكشف غَوْر المعنى الباطن من مُوحيات اللغة الظاهرة؛ لا بل أبعد غوراً ممَّا تعطيه دلالة الباطن: كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ت 656هـ) يقول:" مراكز النفس أربعة: مركز للشهوة في المخالفات. ومركز للشهوة للطاعات. ومركز في الميل إلى الرَّاحَات. ومركز في العجز عن أداء المفروضات: (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).

يبدو في الظاهر أن سياق الآية لا علاقة لـه قطعاً بما يقوله الإمام الشاذلي، وانفصال العلاقة معناه التباس الدلالة. غير أن وجه الإشارة يجيز مثل هذا التخريج ولا يمنعه، ولنذكر مساق الآية الكريمة أولاً ثم نحاول تخريجها بما تفرضه علينا لغة الإشارة، وتكشفه لنا لغة المجاز. ولنقرأ سياق الآية ثانية في قوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (سورة التوبة: آية 5).

إنَّا لنفهم من سياق الآية أنه إذا انقضتْ أشهر العهد الأربعة: فاحْبِسوا المشركين في المكان الذي يَتَحَصَّنون فيه، وأقعدوا لهم في كل طريق وممرِّ ومكان، كونوا لهم وعليهم وفيهم رُقباء، فإنهم العدو فاحذروهم وأقيموا لهم بالمرصاد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة فلا تتعرضوا لهم بقتال ولا نزال، ولا تأسروهم ولا تقطعوا لهم طريقاً، خلّوا سبيلهم إذا التزموا التوبة، ويجيء التعقيب " إن الله غفور رحيم ". هذا ظاهر ما يُساق من فهم الآية؛ فما علاقته أصلاً بمراكز النفس كما أورده شيخنا وما علاقة مراكز النفس به؟!

لا توجد علاقة من حيث الظاهر أو هكذا تبدو الرؤية لكل ذي نظر عجول، وعند التأمل يظهر لك الفارق بين دلالة العبارة الظاهرة، ودلالة الإشارة الباطنة. فالعلاقة هنا علاقة تشابه بين قتل المشركين كافة كمَا دَلَّت عليه الآية، وبين جهاد النفس في مراكزها الأربعة، والتشابه هو بالطبع:" الأساس الدائم للمجاز أو الاستعارة أو المماثلة". هنالك يَبْرُز أساس المجاز كونه يأتي لنقل كلمة عن مدلولها الأصلي (الحقيقي) إلى مدلول آخر لعلاقة المُشَابَهة أو غير المُشَابَهَة فتجيءُ "المعاني الإضافية" مُرتبة في نفس صاحبها لتخرج بدقائق الكلام من باطن النفس إلى ظاهرها اللفظي، مع ما يُضَاف إلى هذا كله من تخريج ذوقي هو أساس علم الإشارة.

وعلى إشارة الباطن يلزم للمجاهد لنفسه أن يقعد لها كل مرصد، وأن يقاتلها حيثما وجدها، لا بل يقتّلها تقتيلاً أينما ذهبت له بالعداء مذاهبها كقتال المشركين حيثما وُجدوا؛ فهى "العدو" على التحقيق، ولمَّا كانت عدواً وجب حَصْرها بأسلحة الجهاد المعروفة عند القوم، وحَبْسها في مراكزها الأربعة وتضييق خناق هذه المراكز عليها بالمراقبة والتَّرَصُّد حتى تفيء - مع القعود لها كل مرصد - لأمر الله. تلك هى لغة الخطاب الصوفي في خصوصيتها.

ويُلاحظ أن الشيخ مع ذلك لم يكمل الآية: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ)؛ لأن العهد بالنفس هو النكوص والتردِّي وممانعة الاستقامة. ومن أجل ذلك أخذ من الآية جزءها الذي تحتمله الإشارة: أعني "القرينة المجازية"، وقد يكون الجزء الباقي له إشارة أخرى ليس المقام ممَّا يناسبها قرينة ومجازاً.

وحين يكون الحَذر واجباً، واتهام النفس في جميع الأحوال أمراً مفروضاً. وحين يكون الحكم عليها بالعلم الظاهر(الشَّرع) المؤيَّد بحقائق الباطن ممَّا يستوجبه قانون الطريق وترومُه قصداً إشارات العارفين، قال الشيخ أيضاً في موضع آخر:" موت النفس بالعلم والمعرفة، والاقتداء بالكتاب والسُّنة، وإنْ أردت جهاد النفس فأحكم عليها بالعلم في كل حركة، واضربها بالخوف عند كل فترة، واسجنها في قبضة الله أين ما كنت، وأشك عجزك إلى الله تعالى كلما غفلت وهى التي: (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا".

مرة أخرى نقابل نفس المشكلة: "التباس الدلالة"؛ لا علاقة كذلك من حيث الظاهر بين كلام الشيخ وبين ما تعطيه الدلالة الظاهرة في الآية القرآنية: فالتي:"لم تقدروا عليها"؛ هى مَغَانم غزوة حنين بعد الفتح كما جاء في التفسير. وأحاط الله بها، أي جعلها تحت قبضته وحَفِظها لكم. وفي "معاني القرآن" للفرَّاء:" قد أحاط الله بها، أحاط لكم بها أن يَفْتَحها لَكم ".

وإذن؛ فما الذي استشفه مولانا إشارةً من هذا المعنى ليجريه علاجاً للنفس؟ هو بغير شك الأمر الباطن في معرفة النفس حين لا تنقاد إلى الوسطية والاعتدال إلا بعد مشقة فادحة وجهاد كبير: فالعجز عن جهادها والخلود بها إلى أرض الشهوات وإتباع الهوى، وقلة مساعدة النفس بالتحلي بالفضائل وركونها دوماً إلى هواها، وانتصارها على صاحبها، وغفلتها عن الله، ورقابة الله لها في كل لحظة؛ هى التي: (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)؛ فلزم اللجوء والافتقار في شأنها إلى الله على الدوام. ذلك هو خطاب الصوفي في لغته: إشارة بعيدة ورمز لمَّاح.

ومثالٌ أخير: وقف أحدهم عند قوله تعالى: (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)؛ فقال: إنما قال تعالى ذلك؛ لكثرة "الوجوه المَبْطونَة في الكلمات"، واقتضاه هذا أن يفرِّق بين "الفهم" و"العلم"، وذلك لإمكان القول إن الفهم في الكلام على قسمين: أحدهما، مكتسب من مادة. والآخر: موهوب من غير مادة. فالذي وُهب من غير مادة لا يُقال فيه فهم، وإنما يقالُ فيه علم.

وأما المكتسب من المادة، فهو الذي يقال فيه "فهم"، وهو تعلُّق خاص في العلم. فإذا علم السامع "اللفظة" من اللافظ بها أو رأى الكتابة ففهم منها أمراً؛ فمردَّه إلى حكمين: إحداهما: أن يعلم مراد المتكلم من تلك الكلمة مع تضمُّنها في الاصطلاح معاني كثيرة خلاف مُراد المتكلم بها. فهذا يُسمى فهماً؛ لأنه كان أكتسبه عن مادة. والثاني: لا يعلم مراد المتكلم من تلك الكلمة على التفصيل، ولكن يحتمل عنده فيها عدة وجوه (مبطونة) يدل عليها الكلام، لا يعلم مراد المتكلم من تلك الوجوه؛ ولا يدري: هل أرادها كلها أو أراد بعضها؛ فمثل هذا لا يُقال في حقه إنه أُعطى الفهم في القرآن، وإنما يُقَال فيه أنه أعطى العلم بمدلولات تلك الكلمة أو الكلمات.

وقد أجمع العارفون على أن كلام الله واسع، حَمَّال أوْجُه كما وصفه الإمام علي رضى الله عنه، يقبل جميع ما فسَّره به المفسرون؛ لأنه خاطبهم بجميع ما يقبله استعدادهم، فما من وجه مقبول فهمه عبادُه المؤمنون إلاّ وهو مقصود له تعالى من تلك الكلمة بالنظر إلى فَهْم مَنْ فَهمَ من كلامه تلك الوجوه المقصودة لله أو لذلك الشخص الذي فهم منها ما فهم حيث لم يخرج في فهمه عمَّا يؤديِّه الكلام من التَّجَوِّز؛ فإنْ كان خَرَجَ عَمَّا يؤدِّيه كلام العرب فلا علم ولا فهم.

هذا من خصائص كلام الله. أمَّا كلام المخلوقين فقد يكون بعض الوجوه غير مقصود لصاحب الكلام. ولمَّا كانت الآيات قد وَرَدَتْ في القرآن على التنوِّع والتّفرُّق: آيات لقوم يعقلون، وآيات لقوم يؤمنون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يسمعون، وآيات للعالمين، وآيات للمؤمنين، وآيات للموقنين، وآيات لأولي النّهى، ولأولي الألباب، ولأولي الأبصار؛ صار من أوجب واجبات العبد أن يلتزم أدب الفهم في كلام ربَّه عز وجل؛ لينال من توجهات الخطاب ما كان تحقق به وانطبق عليه.

وأدب الفهم هو أن يعقل على الدوام أن فيه مجموع ما تفرَّق من آيات: نعته الله بالعقل، والإيمان، والتَّفكُّر، والتقوى، والسمع، والقلب الذي هو اللبّ، والأبصار؛ حتى إذا ما نظر في كل صفة هو موصوف بها، وكل نعت هو منعوت به، بعد أن يكون قد مشى حيث مشى به الشرع، ووقف حيث وقف به الشرع، وعقل فيما قيل له فيه هاهنا أعقل، وآمن فيما قيل له فيه هاهنا آمن، ونظر وفكَّر فيما قيل له فيه هاهنا أنظر وتفكر، وسلَّم فيما قيل له فيه هاهنا سَلِّم، حتى إذا ما كان هذا دَيْدَنَه في طريق العرفان، ظهر بأوصافه ونعوته في العالم؛ فكان ممَّن جُمِع له القرآن وأعطي الفرقان من طريق الوهب والتوفيق بعد مكابدة مفاوز الطريق.

وعندي أن الفهم عن الله لا يتسنى لأحد إلاّ بمقدار ما تتعلَّق به إرادة الله لتفهيم العبد على مقدار إخلاصه؛ وبهذا أو بمثله يكون فهم القرآن على نورانية الصلة الروحية، وهو ما يسمى بملكة "التعلَّق" عند العارف. فالعارف يحظى بملكة خاصة ينفرد بها؛ هى أقوى وسائل التحصيل الذوقي للمعرفة التي هى في الأصل ذوقية صرفة.

وبملكة التعلُّق هذه، يتجاوز الصوفي (العارف) عالم الظاهر المحدود ليتصل في لحظة كاشفة بما ليس ظاهراً ولا محدوداً، ممَّا لا يتناهى وممَّا لا تقع معرفته في حدود التصوِّر المحدود. التجربة في هذه الحالة هى التي تقودك؛ تأخذك وتستوفيك وتملك عليك بالكلية جميع أقطارك. التجربة هى التي تفعل؛ فيوحي فعلها فيك لغة الإشارة.

في بطن التجربة الصوفية وحدها يكشف العارف في تجربته عن لغتها الرمزية الخاصَّة؛ لغة الحبّ، ولغة التسامح لا التَّمزق؛ ولغة الفناء في المحبوب تعطيها الإشارة لا العبارة، أي لغة المعنى تحصيلاً وتذوقاً وشعوراً بمعطيات الحَال، يحيط صاحبه معنىً خالصاً قد لا يتسع له اللفظ المعتاد، وإنْ أتسع له اللفظ المعتاد أفسده، وإنْ ساقته العبارة العادية خَرَجَتْ به عن المقصود. وهو حين يكشفها لا يكشفها في باطن التجربة بل بعد منازلة الحال وعياً غير عادي ولا محدود. 

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم