صحيفة المثقف

التجربة الصوفية واللغة الرمزية

مجدي ابراهيم (12)

لم تكن اللغة الصوفية وفق خطابها إلا اللغة المرتهنة برمزيتها. ومع هذا؛ فقد نجد باحثاً ممتازاً كــ (ولتر ستيس W.T.stace) يرفض اعتبار اللغة الصوفية رمزية، بمعنى أنها "تجاوز الفهم"، أو "تعلو على العقل"، وذلك في فصل كان عقده عن "التصوف واللغة" من كتابه "التصوف والفلسفة"، ويجادل من أجل نفي هذه النظرية ليقدّم نظرية جديدة مقترحة، لكن جدله الفلسفي إزاء رمزية اللغة الصوفية لا ينفي بالفعل : أن إدراك المتصوفة جميعاً للواحد لا يشارك في طبيعة الفهم أو الفكر المُجَرَّد، على نحو ما تفعل معرفة الموضوعات العقلية البحتة، كما يقول أفلوطين.

غير أن صعوبة فهم كلام الصوفية أو إدراك مراميهم، راجع إلى أن التصوف حالات وجدانية خاصة يصعب التعبير عنها بألفاظ اللغة العادية، وليست هى بالشيء المشترك بين الناس.

ولم يخطئ عالم النفس الأمريكي وليم جيمس (James. (w.) في كتابه صنوف من التجربة الدينيةthe varieties of  religious experience, p.p.371-373))، حين حاول أن يُحدِّد الخصائص العامة المشتركة بين أنواع التصوف المختلفة؛ فوصف إحدى هذه الخصائص، بأنها "أحوال لا يمكن وصفها أو التعبير عنها (ineffability)، وذلك لأن هذه الأحوال أحوال وجدانية (states of feeling)، وهو ممَّا يصعب نقل مضمونه للغير في صورة لفظية دقيقة.

هكذا يكشف التَّطرُّق إلى هذه الجوانب من حظيرة التصوف خاصَّة، عن كيفية فتح اللفظ اعتماداً على "قوة الشعور" في فاعلية التجربة، فضلاً عن كونها جوانب تُعيننا على فهم تلقي المعاني بمطلق "الإشارة" ثم استخراج معانٍ من اللفظ المفتوح، من طريق الإشارة، بمعنى مختلف تماماً عمَّا توحي به دلالة اللفظ القريب؛ وهو ما نعنيه بميتافيزيقا الألفاظ المفتوحة، وأخصَّها هنا التفسير الإشاري للقرآن الكريم الذي يقوم على "الإيحاء"، وعلى "الاستنباط" كما تقدّم ذكر أمثلة منه.

إنما الإدراك الروحي للرموز والإشارات هو العامل الفاعل في تجربة العارف. ومن هنا كان وجوب التأويل ألزم ما يلزم لتعلق العارف بملكة التعلق؛ تلك التي يفترضها الإدراك الروحاني للرموز والإشارات، وهى ملكة (أي ملكة التأويل) شَرَحَها وأفاض في شرحها "هنري كوربان"، وربطها بقوة الخيال التي تسبق الإدراك الحسي وتصوغه، فالإدراك الروحاني يُحوِّل مُعطيات الحس إلى إشارات ورموز. وفيما يشير "كوربان" في " الخيال الخلاّق في تصوف ابن عربي (ص 77- 78) : أن هذا الإدراك الشهودي يتحقق في عالم المثال الذي يعتبر الخيال الشهودي عضوه الفاعل؛ لأنه هو الذي استطاع ولا يزال دوماً تحويل المعطيات الحسية إلى رموز، والأحداث التاريخية إلى قصص رمزية، ومن ثمَّ فإن توكيد المعنى الباطني يتطلَّب التأويل: ويتطلب التأويل ملكة لإدراك التجليات، ويغشى الصور المرئية بوظيفة شهودية. وهذه الملكة هى قوة الخيال لدى ابن عربي خاصَّة؛ والصوفية على التعميم.

وإذا تعلَّق العارف من طريق ملكة التعلُّق هذه، بالأفق اللانهائي المفتوح، تحرَّر من الحَرْف والعنوان، وخرج من اللغة على وجه الإجمال، وتمَاهىَ مع المطلق، وقامت فيه معارف لا تعطيها اللغة العقلية المألوفة، إذْ لم يعد يهتم بالأداة، ولا بالوسيلة، ولا بما في اللغة من اتصال؛ بمقدار اهتمامه بما هو فيه من كشف جديد يأتي على لغة جديدة تتناسب مع ما تعطيه التجربة ومع ما يسوقه ذَوْق العرفان.

وملكة التعلُّق هذه؛ إنما هى ملكة مشروطة بخصائص لا توجد إلاَّ عند العارفين بالله تحديداً؛ وبها وحدها أيضاً يفهم العارف ما يفهمه من كتاب الله عن طريق ملكة التعلَّق الكُلِّي. ولا شرط لقيام هذه الملكة سوى الجهاد والعزم والإرادة من جهة، وتوفيق الله، وهو الأصل، على جهة "التَّوجُّه"؛ وذلك أن العارف في توجُّهه "بجمعية القلب"، وهمته، لا يقصد شيئاً غير الحق، وما يعنيه من مقاصده أن تجيء تصرفاته مُوجَّهة نحو الأشياء والموجودات والكائنات. ومعنى التوجُّه المقصود، أو "الجمعية القلبية"؛ كما قلنا في كتابنا " فعل الهمَّة في المحبة والإرادة عند الصوفية، ص 79"؛ هو المُراد بحضور القلب ومراقبته عمَّن سواه من صور الأكوان والكائنات. وتوجَّه العبيد المُفْرَدين؛ فيما يرى ابن عربي؛ وهم أهل الاختصاص، إنما هو توجَّه صادر عنهم على قدر قوة إخلاصهم في أعمالهم، وهذا هو توجُّه "الكُمَّل" وهو : أنْ لا يجعل العبد لهمَّته وسَمته في عبوديته لربِّه وعبادته له متعلِّقاً غير الحق، وأن يكون ذلك تعلّقاً حَمْليَّاً كُليَّاً، غير محصور فيما يعْلمه العبد منه، تعالى، أو يسمعه عنه، بل على نحو ما يعلِّمه سبحانه نفسه في أكمل مراتب علمه بنفسه وأعلاها.

ومتى ارتفعت الهمِّة عن الهبوط الشائع والتدنِّي المرذول في غير فتور ولا اعتراض، برزت ملكة التعلق ولا شرط لها غير ظهور الرحمة وخصوص العناية، على ما قال الأستاذ الإمام "محمد عبده" في " رسالة التوحيد" فصل بعنوان "إمكان الوحي"، (ص111 - 112) إنَّ : "من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأنْ تتصل بالأفق الأعلى، وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا، وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقُّله أو تحسَّسه بعصى الدليل والبرهان، وتتلقى عن العليم الحكيم، ما يعلو وضوحاً على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعاليم، ثم تصدر عن ذلك العلم إلى تعليم ما علمت، ودعوة الناس إلى ما حملت إبلاغه إليهم، وأن يكون ذلك سُّنة الله في كل أمة وفي كل زمان على حسب الحاجة، يظهر برحمته من يختصه بعنايته ...".

هذه عبارات مُلْهَمَةٌ ومُلْهِمة !

ففي عبارات الإمام محمد عبده نلحظ أولاً : إمكان الاتصال لبعض النفوس النقيِّة، بالأفق الأعلى، وهو غاية ما تصل إليه المدارك الإنسانية، ثم ماذا؟ أن تشهد ثانياً هذه النفوس شهود العيان من أمر الله ما لم يستطع أصحاب العقول والأدَّلة أن يصلوا إليه ممَّا ليس بإمكانهم أن يعقلوه أو يتصوَّره !

لابد أن الأمر أعمق من العقل؛ وأبلغ من ملكات التصوِّر مجتمعة. الأمر هنا يتعلّق "بأمر الله"؛ على ما في أمر الله من عظمة وجلالة وجبروت. ولتطلق لخيالك العنان ليُريك أن نفوساً بشرية تشهد هذا الأمر، وأي شهود ! إنما هو شهود العيان مع ما قد تقرَّر أن هنالك فرقاً بين المشاهدة التي هى بالبصيرة والمعاينة التي هى بالبصر. وفي أثناء الشهود, أي بعد "الجمعية القلبية "، أو في لحظتها، تتلقى هذه النفوس عن العليم الحكيم. تتلقى ماذا؟ تتلقى العلم والحكمة ممَّا يعلو وضوحاً على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعاليم.

إلى هنا؛ وحضرة التلقي والإلقاء لا يُسيعَهَا لفظ ولا يتصوَّرها معنى، هى حضرة "جَمْع" ليس فيه "فَرْق"؛ ولا يمكن للمُدْرَك البشري العادي أن يعرف كُنْهُهَا؛ لأنها حضرة تموت فيها اللغة تماماً ويحلُّ مكانها البكم والخرس، وهو المقصود بقولنا فيما تقدَّم "بشلل التفكير والتعبير"؛ "انعدام الوعي العادي" : "العَمَى اللغوي"! ليس لِلّغة هنا دورٌ ولا مكان، وإنما الأمرُ كله "ميتافيزيقا" محضة، وغيبُ مطلق؛ عَمَاء؛ تَمَاهي مع الوَاحِد، اتصال لا انفصال فيه، عجز عن الوعي العادي، وسُكْر وغيبة وفناء؛ هنا : معنى خالص لا صورة له، أو اتِّحاد تام بين الصورة والمعنى.

العارف والمعروف واحد، الشاهد والمشهود واحد، الواصف والموصوف واحد، السالك والمسلوك واحد. والانتهاء إلى الواحد وقوفُ لا يبقى معه واصف ولا موصوف، ولا سالك ولا مسلوك، ولا عارف ولا معروف، على حدِ تعبير ابن سينا في الإشارات والتنبيهات.

وليس للصوفي العارف في حضرة الشهود أن يعبِّر "بالدليل"؛ لأنه في رحاب "المدلول". من طريق ملكة التَّعلُّق، تَعلَّقْ.

تغيب اللغة كما يغيب الصوفي ويفنى اللفظ كما يفنى الصوفي.

وما اللفظ قبل الشهود سوى وسيلة، وما الحرف إلاّ دليل، وما اللغة إلاّ محلِّ اتصال يُقتَدي به فيه. فإذا حصل الشهود استغنى العارف بالمعروف عن المعرفة : استغنى عن اللغة وحروفها، وعن الحرف وعنوانه، وعن المبنى ولفظه، وعن القالب وشاراته، وعن اللسان وأذكاره، وذلك كما يقول الشعراني شارحاً الوصية المَتْبُوليَّة؛ لأن : "حضرة شهود الحق تعالى حضرة بُهْت وخَرَس يستغنى صاحبها عن "اللفظ"، إذْ هو بمنزلة "الدليل"، فإذا حصلت "الجمعية" بالمدلول استغنى العبد عن الدليل".

لكن هذا الشهود لا يدوم. هو فقط "لحظة كاشفة"، كالبَرْقِ الخَاطِفِ كما وصفه الغزالي؛ هو لحظة اتصال يعقبها انفصال، جَمْعٌ سرعان ما يَفْتَرقْ، سُكر يعاوده صحو، وغيبة يصاحبها حضور، وفناء يلزمه بقاء. حتى إذا ما عاد الصوفي من تجربة الشهود، وأراد أن يُعَبِّر عما تلقى من علم وحكمة من لدن العليم الحكيم، عَاَدَ لَمَّاحَاً ذَاَ إشارة رامزة:

كلامٌـــــهُ لمحةٌ دالَّة. وحديثهُ عبارة مختصرة. ومعارفــه تلويحــات، ومعناه بعيدٌ بعيدٌ من ظاهر لفظه.

يدلُّ "العارف" على المعاني بالإشارة لا بلفظ العبارة. يهمل اللفظ القريب لتنوب الإشارة عنه؛ وهى معنى بعيد مُلْغز. يفتح اللفظ حتى يبلغ به الإشارة ويَذرف المعنى فيه ذرْفاً كما يُذْرف الدمع قهراً من جفن ساهي.

يخفي الدلالة ويبطنها عِنوَة في جوف الكلمات؛ لأنه يُصبح إذْ ذَاَكَ هو نفسه كلَّه معنى، وكله غيباً، وكله خفاءً وسرِّيَّة وغموضاً.

هنا تجيء معاني ألفاظه لتكون "مُسْتَبْهِمَةً على الأجانب" كما وَصَفَ القشيري حقيقةً، وتصبح لغته أداة اكتشاف جديدة لعالم جديد ومثير وغريب. إلاَ إنه المجهول الذي ينطوي فينا والغيب الذي يضمُّنا ويحتوينا. والمحجوب الذي يطوينا. واللاتناهي الذي يتوَّق إليه تناهينا.

وما دامت هنالك نفوسٌ بشرية لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأفق الأعلى؛ فمن الطبيعي أن تكون علومها إشارات، ولغتها رمزية، ومعارفها تلميحات، وخطابها لغة صادرة عن تجربتها وكفى. ومن المؤكد أنها تفهم عن الله بملكة التَّعلُّق ما يصير الفهم لديها "خاصَّة عِرْفَانيَّة" يكتمل فيها الفهم كلما ازدادت الإشارة بُعْدَاً عن ظاهر اللفظ وسطح الصورة. فهى لأجل هذا تبدو ذات وجهين : أحدهما أن قوة العارف الروحية تتعلق بالله بغير فتور أو انقطاع، فتحظى بالمعرفة بعد تحصيل وسائلها الذوقية.

والوجه الآخر: أن هذه القوة الحاصلة لا تكون إلاّ بمدد إلهي تتعلق به إرادة الله حين يشاء أن يمنح العبد المعرفة الوهبية. ففي الوجه الأول جهدٌ من العبد. وفي الوجه الثاني وهبٌ من الرَّب.

ولعلّ هذا الجهد لا يتيسر بغير معونة الله، فهو وهب على وهب إذا شئنا الدقة وأصبنا من ثمَّ جوهر التحقيق؛ بل هو المسمى في الكتاب العزيز: "نورُ على نور"، ذلك هو نور التوفيق في فهم الكتاب، وفي إدراك كُنْه التوفيق في معرفة النور.

هذا كُلُّه وغيره الكثير هو بعض ما يحتمله المقام من سياقات عددناها استشهاداً على أن من الألفاظ ما هو مفتوح، تُجيزُه الإشارة الرمزية في تجربة العارف بمقدار ما تجيزُه رُوح المجاز اللغوي، وتجيزُه بنفس الكيفية لغة الخطاب الصوفي، ويرمي من طريق الرمز إلى "ما وراء" بعد إشارته إلى المحسوس ودلالته المفهومة من أول لقاء.

غير أن الوعي الصوفي الحاصل دوماً في حال الفناء والمُوحي بلغة الخطاب ينقل المعطي الحسي كما ينقل دلالته المفهومة إلى لغة رمزية، ويحوله تباعاً بوصفه مُدْرَكاً روحياً وشهودياً قام على خصوبة الخيال؛ إلى إشاراتٍ.

(وللحديث بقية)

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم