صحيفة المثقف

في الدوامة الابداعية.. جانبان ورأي

ناجي ظاهرعرف الابداع الادبي والفني منذ فجرهما الاول، جانبين، احدهما هو الهامّ والآخر هو الاقل أهمية، هذان الجانبان تمثلا في الابداع الحقيقي الذي دخل الى الذاكرة البشرية، اما الجانب الاخر، فقد تمثل فيما يمكننا ان نطلق عليه الجانب الاجتماعي وكل ما يتعلق بصاحب العمل الابداعي.. لا بالعمل ذاته.

عن الجانب الاول نقول، انه الهدف والمبغى وسدرة المنتهى في الابداع عامة وفي النوعين المذكورين خاصة، فالكاتب او الفنان الحقيقي، انما يبغي من كل عمل ابداعي يقوم به وينفذه، الى مرمى واحد، هو ان يضيف الى ما سبق وقاله آخرون سابقون، ما هو جديد وجدير، لهذا نراه لا ينام الليل، ويصل هذا الأخير بالنهار كي يقدم افضل ما لديه، مستعينا بكل ما يمكنه التوسل به تحقيقا لهذه الغاية سواء كان بالاستزادة من الثقافة والاطلاع، ام بالدراسة والمتابعة لكل ما هو جديد وحتى قديم في المجال. لهذا نلاحظ ان المبدعين الحقيقيين الجديرين بصفتهم هذه، يضعون الابداع ذا المستوى الرفيع في اعلى سلم اولياتهم، غير عابئين بما يمكن ان يستتبعه انتاجهم الابداعي من انتشار وشيوع ذكر، وتحضرني في هذا السياق رؤية مختلفة لتلك التي عرفناها حتى الآن، عن ان الحرمان الفقر والجوع، هما الابوان الشرعيان للإبداع، هذا الرأي هو للمثقف السوري د. سامي الدروبي، المعروف بإثرائه المكتبة العربية بالترجمات الكاملة لكل من الاديبين الروائيين الروسيين البارزين فيودور دوستوفسكي وليو تولتسوي، ومفاده ان الفقر الجوع والحرمان قد يكونان نتيجة للحياة التقشفية التي يعيشها الانسان المبدع، وليس مقدمة لها، كما اشيع دائما، لقد اورد الدروبي رايه الثمين هذا في كتابه القيم عن " علم النفس والادب"، واعتقد ان مرماه البعيد يتمثل في ان الانسان المبدع قد ينسى العالم الا انه لا ينسى ابداعه.. مهما طاله من ظلم وعسف.

اما عن الجانب الآخر للإبداع الادبي، فهو ذاك الذي يتعلق بصاحبه وبذيوع ذكره، اعترف أن هذا الجانب هو الدافع لكتابة هذه الخاطرة، فما اكثر اولئك الذين ينشدون السمعة الادبية الطيبة في عصرنا، عصر انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي وهيمنة العولمة/ الامركة، بعد انتهاء الحرب الباردة، اي انتهاء زمن الحروب، هؤلاء لا يهمهم ما يبدعونه وينتجونه، بقدر ما يجذبهم البريق المضلل للشهرة، ومن هؤلاء اشير الى من يدعي انه شاعر اديب او مبدع فنان، دون ان يقدم اي ابداع يُعتدُّ به، ومنهم من يستكتب آخرين وينشر ما يكتبونه له بالأجرة او مجانا، مدعيا انه من بنات ابداعه، ومنهم ايضا من يستقطب بفهلويته الاجتماعية، او موضعيته الوظيفية، عددا من الاصدقاء الذين يداهمونه باللاياكات على الطالع والنازل، غير آخذين بعين الاعتبار المستوى المتدني الذي يقدمه للآخرين، من القراء والمتلقين. في هذا السياق يهمني الاشارة الى فكرة طالما رددها شعراء ومثقفون منهم الشاعر محمود درويش، مفادها ان هناك فرقا كبيرا بين الشهرة والأهمية، فقد ترى مبدعا مشهورا دون وجه حق، فيما ترى آخر مبدعا وغير مشهور، فالشهرة ليست مقياسا للإبداع، وانما مقياس الابداع.. هو الابداع ذاته.

اذا كان لي من كلمة اضيفها في نهاية هذه الكلمة، هي تلك التي تتعلق بالإبداع والتسويق، وقد سبق واشرت اليها في اكثر من كتابة وموقع، لا شك انه من حق المبدع ذاتيا، كما هو الشأن في عالمنا العربي عامة، او مدير اعمال كما هو الامر في الغرب، ان يُسوّق ما يقوم بوضعه من ابداع، شريطة الا ينسى ان الابداع وليس الانتشار المجاني هو الهدف، ومما يمكن ذكره في هذا المجال، ما قاله الكاتب الروائي الايطالي المبدع البرتو مورافيا، صاحب الروايات المشهورة عالميا: السام، امرأة من روما وانا وهو. لقد قال مورافيا ما مفاده انه من حق المبدع ان يسوق عمله بنسبة عشرة بالمائة، لكن من واجبه ان يبدع بالمتبقي اي تسعين بالمائة، وليس العكس كما يحدث لدينا.

 

ناجي ظاهر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم